مدير (فاو – FAO) الإقليمي: السودان سلة غذاء العالم على شفا مجاعة.
تجاوزت الحرب الداخلية في السودان عامها الأول، ولا يبدو أن هناك أفقا قريبا للحل، بما يهدد بانتقال السودان إلى المرحلة الأخيرة من المؤشر العلمي للمجاعة، كما يقول المدير الإقليمي للشرق الأدنى وشمال أفريقيا لمنظمة الأغذية والزراعة بالأمم المتحدة (فاو) عبد الحكيم الواعر في حوار خاص مع “الجزيرة نت “.
وانتقل عدد كبير من مرحلة الطوارئ والتي تعني الحصول على وجبة واحدة في اليوم بشكل منتظم، إلى مرحلة الكوارث التي تعني الحصول على الوجبة الواحدة ولكن بشكل غير منتظم. كما انتقل أيضا البعض من المرحلة الرابعة إلى المرحلة الخامسة، والتي تعني فقدان القدرة على توفير تلك الوجبة الواحدة حتى بشكل غير منتظم، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى وفاة اثنين من كل ألف بالموت جوعا، وهي الحالة التي يعلن عندها علميا أن منطقة ما تعاني من المجاعة.
ويخشى الواعر من أن السودان بات قريبا للغاية من التعريف العلمي للمجاعة، مشيرا إلى أن التدخلات العاجلة التي نفذتها المنظمة خلال الموسم الزراعي الماضي ساهمت إلى حد كبير في تأخير حدوث هذا.
السيناريو المؤلم:
لكنّ الوضع يحتاج إلى إنقاذ عاجل للموسم الزراعي الصيفي بتدخلات أكثر قوة وشمولا، وهو ما يتطلب تمويلا عاجلا من المانحين قدرته الفاو بنحو (104) ملايين دولار، لم يصلها منه سوى (10) ملايين دولار.
فما هي طبيعة تلك التدخلات التي تريد الفاو تنفيذها، ولماذا تمنحها كل هذا الاهتمام، وما مصير بنك الجينات الزراعية الذي طالته يد الحرب.. كل هذه الأسئلة وغيرها يجيب عليها الواعر.
المدير الإقليمي للفاو عبد الحكيم الواعر خلال حوارة مع مراسل “الجزيرة نت “:
أزمة السودان كارثة إنسانية تنعكس على المحيطين الإقليمي والدولي لكونه إحدى السلال الغذائية المهمة.
فإلى مضابط الحوار:
بداية مع تجاوز الأزمة السودانية عامها الأول، أثيرت مخاوف من أن إحدى السلال الغذائية المهمة باتت على مشارف مجاعة، فما هو تقييمك للوضع في السودان؟.
اسمح لي بداية أن أستهل حديثي بمقدمة مهمة، وهي أن أزمة السودان كارثة إنسانية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ولها انعكاسات ليس فقط على السودان نفسه، ولكن على المحيطين الإقليمي والدولي أيضا، لكونه إحدى السلال الغذائية المهمة، كما أن العدد المتضرر من الأزمة مقارنة بدول النزاعات الأخرى كبير جدا، إذ نتحدث عن ضرر يطال حوالي 40 مليونا، لذلك يجب ونحن نولي اهتماما مستحقا بالوضع الصحي والغذائي في قطاع غزة مراعاة للبعد التاريخي لهذه الأزمة، ألا نغض الطرف عن غيرها من الأزمات في مناطق النزاعات الأخرى مثل اليمن وسوريا، والتي كانت هي الأخرى إحدي السلال الغذائية الواعدة، ونولي كل هذه الأزمات اهتماما متوازنا.
أما فيما يتعلق بتقييم الوضع بعد تجاوز الأزمة السودانية عامها الأول، فإن هناك ضررا ملحوظا لحق بالقطاع الزراعي، ليس بنفس الضرر الكبير الذي لحق بقطاع غزة، لتمركز النزاع بالسودان في الولايات المأهولة بالسكان، بينما توجد الأراضي الزراعية في ولايات غير مأهولة.
وما طبيعة الضرر الذي لحق بالقطاع الزراعي؟.
حدث تدهور في القدرة الإنتاجية الزراعية بسبب هجرة المزارعين للأراضي، إما لعدم تمكنهم من الوصول لأعمالهم بسبب الظروف الأمنية، أو لعدم توفر المدخلات اللازمة للزراعة من البذور والأسمدة والأعلاف والتحصينات الخاصة بالثروة الحيوانية، ناهيك عن تسبب ذلك بتدهور بعض الأراضي بسبب عدم قدرة المزارعين على الوصول الآمن لها وممارسة أعمالهم بشكل طبيعي.
قبل شهور كشفت دراستان لمنظمة الفاو أُعدّا بالأقمار الصناعية، أن الأزمة تسببت بتقلص المساحة المزروعة في السودان بنحو 15% مقارنة بمتوسط المساحات قبل خمس سنوات، فهل أصبح الوضع الآن أكثر سوءا؟.
ما كشفت عنه هذه الدراسات ليس فقط تقلص المساحة المزروعة، لكنها كشفت أيضا أن الأراضي التي تمكن المزارعون من زراعتها انخفضت فيها إلى حد كبير زراعة محاصيل القمح والقطن على حساب زراعة الذرة الرفيعة والدخن، وهذا كان تفسيره أن محاصيل القمح والقطن تحتاج إلى عناية شبه يومية، وهذا أمر كان يصعب على المزارعين تنفيذه في ظل تدهور الأوضاع الأمنية، فاختاروا محاصيل تحتاج إلى عناية أقل.
وكيف تدخلت الفاو للتعامل مع هذا الوضع؟.
الزراعة في السودان محددة بمواسم سقوط الأمطار وتحتاج إلى تدخل عاجل، وعلى أثر ما رصدناه، عملنا في الموسم الزراعي الصيف الماضي على مد المزارعين في 15 ولاية سودانية بـ10 آلاف طن من البذور، ووصلنا إلى هؤلاء المزارعين بصعوبة بالغة وبعد مفاوضات مضنية مع القوات المسيطرة على كل مكان نقصده.
كيف تمارسون نشاطكم في هذا الوضع الأمني المعقد، حيث توجد مناطق تسيطر عليها قوات الجيش السوداني، وأخرى تسيطر عليها قوات الدعم السريع؟.
من خلال مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية “أوتشا” – فهو الجهة الأممية المعنية بالتواصل مع الأطراف المتنازعة لتمكين دخول المساعدات الإنسانية – عبر التأكيد على أن تدخلات المنظمات الأممية مثل منظمة (الفاو) ليست لدعم طرف على حساب آخر، ولكنها بهدف الوصول للناس، وساعدنا ذلك على الوصول إلى مليون مزارع لتزويدهم بمدخلات الإنتاج، مما أسهم إلى حد ما في إنقاذ الموسم الزراعي في يوليو/تموز الماضي.
إلى أي مدى كان تدخلكم منقذا للسودان من الوقوع في براثن كارثة غذائية كبيرة؟.
إلى حد ما كانت الإمدادات التي نجحنا في توصيلها إلى مليون مزارع مفيدة في التخفيف من حدة الأزمة، وأشار إلى ذلك تقرير “تجمع الأمن الغذائي وسبل العيش”، وهو منصة تديرها منظمات الأمم المتحدة ومنظمات العمل الإنساني الأخرى، وتصدر لوحة معلومات شهرية تكون بمثابة تقرير لمدى قدرة المنظمات على الوصول للمستفيدين في مناطق النزاع والأزمات، وقد تصدرت (الفاو) العام الماضي قائمة المنظمات عبر قدرتها على الوصول إلى 5 ملايين مستفيد، واعتبر التقرير أن الوصول لمليون مزارع يعني بشكل تلقائي قدرة هذا المزارع على توفير الغذاء لأسرهم المكونة من 4 أفراد على الأقل لكل مزارع، ولذلك كان لهذا التدخل تأثير إيجابي على 5 ملايين مواطن، لكني أرى أن هذا الرقم وإن كنا قد تصدرنا به قائمة المنظمات، فإنه أغفل جانبا مهما، وهو أن المزارع لن يؤمّن الغذاء لأسرته فقط، لكن سيؤمنه أيضا للأسواق المحلية، لذلك فإن الرقم قد يصل إلى 15 مليون مواطن.
أخشى أن يكون الوصول للمزارعين بعد ذلك غير مفيد، إذ قرأت تصريحات لخبراء يتخوفون من أن الحرب قد تؤدي لخروج أراض زراعية من الخدمة إلى الأبد؟.
(متعجبا) هذا الكلام يحمل مبالغة كبيرة وليس له أي أساس علمي، فالسبب الوحيد لخروج أرض زراعية من الخدمة هو البناء عليها، ولكن ما يحدث بسبب الأوضاع الأمنية هو هجر الأراضي الزراعية، وقد يكون لهذا الهجر أثر إيجابي في إراحة الأرض الزراعية، لكنه ليس مطلوبا بطبيعة الحال، ونحن نتحدث عن مصادر تأمين الغذاء.
استطعتم المساهمة في إنقاذ – ولو محدود – للموسم الزراعي السابق في يونيو/حزيران 2023، فماذا أعددتم للموسم القادم في 2024؟.
الوضع في السودان خطير للغاية، واستمرار أمد هذه الحرب يعني تعريضها لخطر المجاعة، فكما نجحنا في الموسم الماضي في الإنقاذ بالوصول إلى مليون مزارع، نحتاج إلى تنفيذ خطة أكبر هذا العام، ولم يعد يفصلنا عن وقت تنفيذ تلك الخطة سوى وقت ضئيل للغاية، فالموسم الزراعي يبدأ في يوليو مع هطول الأمطار الصيفية، وإذا لم نستعد لهذا الموسم من الآن فسيضيع دون أن نحقق شيئا، ولن تجدي حينها أي مساعدات غذائية في إنقاذ السودان من خطر المجاعة، فهي حينها ستكون مسكنات، لأن أي مساعدات ترسل لا تتضمن سوى الطعام الجاف، أما الأطعمة الأخرى من لحوم وخضراوات وألبان وغيرها من الأطعمة الطازجة والمهمة لصحة الإنسان لا تتضمنها المساعدات لاعتبارات لوجستية تتعلق بالتخزين والصلاحية، ولا تأتي هذه الأغذية إلا من خلال الإنتاج المحلي، وإذا لم نتمكن من المساعدة على توفيرها فسيكون الوضع كارثيا.
أشعر من حديثك أنه لا تزال هناك فرصة للإنقاذ؟.
بالطبع لا تزال هناك فرصة للإنقاذ إذا توفر الدعم الكافي للموسم الزراعي المقبل في يونيو/حزيران، ولكن إذا لم يحدث ذلك فالخوف هو أن يعاني السودان من المجاعة. وتحدثت بعض التقارير خطأ عن أنه يعاني من المجاعة الآن، وهذا غير دقيق ومناف للتعريف العلمي للمجاعة، ولكن التوصيف الدقيق للوضع الآن هو أن السودان على شفا مجاعة.
وما هو التعريف العلمي للمجاعة وتطبيقه على الوضع في السودان؟.
المؤشر العلمي للمجاعة المعتمد من الأمم المتحدة هو ما يعرف بـ”التصنيف المرحلي للفئات المتضررة”، ويتكون هذا التصنيف من 5 مراحل، أخطرها من المرحلة الثالثة إلى الخامسة، وتسمى الثالثة مرحلة الطوارئ، وتعني حصول الشخص على وجبة واحدة في اليوم بشكل منتظم، أما الرابعة فهي مرحلة “الكوارث”، وتعني حصول الشخص على وجبة واحدة في اليوم ولكن بشكل غير منتظم، أما المرحلة الخامسة ففيها يكون الشخص في خطر المجاعة لأنه وقتها يمكنه أن يمكث يومين أو أكثر من دون طعام.
والوضع في السودان الآن، أن نسبة كبيرة ممن كانوا في المرحلة الثالثة انتقلوا للرابعة، ونسبة ممن كانوا في الرابعة انتقلوا للخامسة، ولكن إعلان المجاعة يرتبط بحدوث وفاة لشخصين من كل 10 آلاف شخص بسبب الجوع، وهذه حالة لم تثبت في السودان، ونتمنى أن لا نصل إليها، خاصة أنه كما قلت في البداية لا تزال هناك فرصة قائمة للإنقاذ، ولكن يحتاج الأمر إلى تدخل عاجل وتمويل لم يتوفر إلى الآن.
وما هي تقديراتكم للتمويل المطلوب من أجل الإنقاذ؟.
أطلقنا ما يعرف بخطة الطوارئ لمساعدة 9 ملايين من صغار المنتجين والمزارعين بمدخلات الإنتاج في الموسم الزراعي المقبل في يونيو/حزيران، وتتطلب هذه الخطة (104) ملايين دولار، وهذا تقدير مبدئي يمكن أن يزيد إذا زاد حجم الضرر، لكننا ورغم اقترابنا من موعد الموسم الزراعي، لم نستقبل سوى 10 ملايين دولار فقط.
ولا أود أن ألوم المانحين، فالوضع الضبابي في السودان يجعلهم يخشون على آليات الاستفادة من التمويل، لكني أُطمئن بأن (الفاو) لديها من الخبرة الكافية والتجارب السابقة الناجحة في الموسم الزراعي الماضي ما يؤكد أن أي تمويل سيتوفر سوف يُستغل بالشكل الأمثل لإنقاذ السودان من براثن مجاعة باتت على شفا الوصول إليها.
وأحب أن أوجه نداء من خلالكم للمانحين العرب، ولاسيما دول الخليج، بأن السودان، وهو مورد للغذاء لكم بشكل مباشر وغير مباشر؛ يستحق أن تبادروا بدعم تلك الخطة من منطلق الواجب الإنساني والأخوي حتى يكون ذلك حافزا لغيركم من الممولين.
المحزن أن تكون سلة الغذاء العربي على شفا مجاعة.
(بنبرة حزينة) شيء محزن بالطبع، وهو لا ينطبق على السودان فقط، لكنه ينطبق أيضا على سوريا، فقد كانت إحدى سلال الغذاء الواعدة، حتى إنها كانت تصدّر القمح.
يبدو أن هموم الدولتين متشابهة، فكما تضرر بنك الجينات الزراعية في سوريا بسبب الاحتراب الدائر هناك، تضرر بنك الجينات في السودان.
دعني أختم حواري معكم بالسؤال عن خطتكم لإنقاذ هذا البنك الذي يضم تراث السودان الزراعي من الموارد الوراثية النباتية؟.
بنك الجينات في حلب بسوريا الذي كان يديره هناك المركز الدولي للزراعة في المناطق الجافة والقاحلة “إيكاردا”، أنشئ بتمويل من (الفاو) والشركاء الآخرين، وتعرض لدمار مباشر، بينما بنك الجينات في السودان حدث نهب وإتلاف لمحتوياته من المبرّدات وغيرها، ولا تزال هناك فرصة سانحة للإنقاذ، ولكن المشكلة أن البنك يوجد في منطقة مأهولة بالسكان يدور حولها صراعات، وهي منطقة “واد مدني”، وننسق الآن مع مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية “أوتشا” ووزارة الزراعة السودانية، لتأمين الوصول إلى البنك وتسهيل نقل محتوياته إلى مكان آمن داخل السودان أو خارجها، إذ يضم هذا البنك 15 ألفا من الموارد الوراثية النباتية التي جُمعت خلال 40 عاما، وهذه ثروة لا تقدر بثمن.