قصف مدرسة الهَدرا: ليست أول مرة!
وكالات/ تقارير: splmn.net
تقرير: إيـاد هشام
نُشرت أولاً في مجلة «أتَـــــر»، العدد (23)، الخميس، 28 مارس 2024م
«يوم الخميس صباحاً، جاءت طائرة تتبع للجيش السوداني طراز أنتنوف وقصفت المنطقة بأربعة براميل متفجرة، سقط واحد منها على المدرسة»، يقول عبد الله علي، وليّ أمر الطفلة محاسن.
محاسن خميس، طفلة في الثالثة عشرة من عمرها، تَدرس في الصفّ الثاني. وبينما هي في فصلها بالمدرسة مع زميلاتها وزملائها وسط شواغل الطفولة والدراسة، هبط الهول عليهم. كانت محاسن أفضل حظّاً من رفاقها ورفيقاتها إذ أصابتها شظية على خدّها الأيمن، «والأمر سيتطلب فترة علاج طويلة حتى تتعافى، وهي الآن في مستشفى توجر»، يخبر عبد الله علي «أتَـر».
ويمضي عبد الله قائلاً: «كذلك أصيب في القصف ابن أخي وابن أختي. ابن أخي محمد سليمان، عمره 14 سنة، يدرس في الصف الخامس، مصاب في اليد اليسرى. وابن اختي أحمد، عمره 12 سنة، في الصف الثاني، مصاب في الكتف».
في الثامنة والنصف صباح الخميس 14 مارس الجاري، بمقاطعة دَلَامي الواقعة بإقليم جبال النوبة، في جنوب كردفان، ضمن مناطق سيطرة الحركة الشعبية شمال بقيادة عبد العزيز الحلو، أو ما تطلق عليه الحركة تسمية «المناطق المحرّرة»، أفاقت قرية الهَدرا على فاجعة مريعة؛ إذ أقدمت طائرة من طراز «أنتنوف» تتبع للجيش السوداني على قصف القرية، الأمر الذي أدّى إلى مقتل 11 تلميذاً ومعلّمَين وإصابة 45 غالبيتهم من الأطفال، بحسب بيان صادر عن الحركة الشعبية شمال بتاريخ 16 مارس 2024 اطّلعت عليه «أتَـر». وتعاني قرية الهدرا كسائر مناطق جبال النوبة من عدم توفر خدمات الاتصالات، الأمر الذي يعقّد الكشف عن مثل هذه الانتهاكات.
«استهدفت الدانات الأربع المدارس ومواقع مياه الشرب. من الأطفال المصابين بجروح خطيرة وما يزالون في المستشفى لتلقي العلاج هم عبد الله مفرح (إصابة في الظهر والبطن)، وأحمد حسن أبكر (كسر في اليد اليسرى)، والحاج عبد الله جمبو (كسر في الرجل)، وأنفال النور كجو، 9 أشهر (كسر في الرجل اليمنى واليد اليسرى)، وديدان آدم علي جمبو (إصابة في الرأس)».
– رانيا ونزا، سكرتير الإعلام والناطق الرسمي باسم حكومة إقليم جبال النوبة.
«أطلق الطيران أربع دانات، كانت المؤثرة منها هي التي أصابت المدرسة ومنطقة المضخّات. وقد استهدف الطيران قرى الهدرا والقنيزية والكرقل وهبيلا».
– النور كجو، والد الطفلة المصابة أنفال.
تحقّقت «أتَـر» من مصادر مختلفة بشأن تزامن قصف المدرسة في قرية الهدرا مع قصفٍ وقع في ثلاثة مواقع اخرى منها قرية القينيزية، واستشهد على إثرها 5 مواطنون من سكان المنطقة هم مايكل عبد الرحمن، ومنير الكرسي تربيتي، وآيزك الكرسي تربيتي، حزقيل الصادق، داريوس إبراهيم تيجاني.
وفي أعقاب الحادثة، اطّلعت «أتَر» على مقال منشور على الموقع الرسمي للحركة الشعبية شمال يوم 18 مارس الجاري، يقول فيه كاتبه حمدان عثمان إدريس، إنه قد استطاع بحكم علاقاته ببعض الأفراد والضباط في الجيش الذين يرفضون مثل هذه التصرّفات الوحشية، أن يتعرّف على اسم الطيار الذي نفّذ الغارة الجوية على المنطقة، وإنه خريج الكلية الحربية الدفعة 33. وورد في المقال: «استمعنا كذلك إلى حديث مسجّل ومنشور في مواقع التواصل الاجتماعي للفريق حسن كبرون – من أبناء الإقليم – وهو قائد كبير في القوات المسلحة لم ينفِ فيه تورّط القوات المسلحة في هذه المجزرة، بل قام بتبريرها بحجة أن هنالك اشتباهاً في تحركات للجيش الشعبي».
استمعت «أتَـر» إلى التسجيل المنسوب إلى الفريق حسن كبرون، وذكر فيه أن الحركة الشعبية أغلقت الطريق من الدلنج إلى كادوقلي مع بداية الحرب، وأنهم يسعون عبر من سمّاهم «العقلاء من النوبة» للتوصّل إلى اتفاق سلمي لفتح الطريق، وأنه إذا لم ينجح المسار السلمي فإن الطريق سيُفتَح بالقوة العسكرية، الأمر الذي سيُعيد الأمور إلى نقطة الصفر واشتعال الحرب.
وقد تواصلت «أتَـر» مع الناطق الرسمي للجيش السوداني للحصول على تعليق منه حول الحادثة أو التسجيل المنسوب إلى الفريق حسن كبرون، لكن لم يصلنا ردّ حتى وقت نشر التقرير.
ونفت رانيا ونزا؛ سكرتير الإعلام والناطق الرسمي باسم حكومة إقليم جبال النوبة، لمُراسل «أتَـر» وجود معسكر للجيش الشعبي بقرية الهدرا، قائلة: «إنما يهدف الجيش السوداني من قصفها الآن إلى تخويف الفارّين من مناطق سيطرته وخلق كوابح تمنعهم من اللجوء إلى مناطق سيطرة الحركة التي تقع قرية الهدرا على تخومها وتستقبل النازحين من مناطق سيطرة الحكومة».
كذلك تكرّرت الحادثة ذاتها في مدرسة الهدرا من قبل، في العام 2000، وفقاً لرانيا ونزا، قُتل على إثرها 18 طالباً ومعلمة. تعلّق ونزا على هذا التكرار قائلة: «إنّ الهدف هو خلق ذاكرة جمعية للطلاب بأن المدرسة مكان مربوط بالموت».
وأضاف جاتيقو أموجا دلمان، رئيس لجنة الثقافة والإعلام بمجلس التحرير القومي بالحركة الشعبية لتحرير السودان، قائلاً لـ «أتَـر»: «سجّلت عمليات القصف الجوي تاريخياً أكبر ثلاث كوارث ضد الأطفال. الأولى كانت في العام 2000، إذ أسقطت طائرة من طراز أنتنوف قنبلة على مدرسة الكنيسة الكاثوليكية بكاودا أدّت إلى استشهاد 20 تلميذاً ومعلمة. والثانية كانت في العام 2016 حيث أسقطت طائرة حربية من طراز سوخوي قنبلة أدت إلى استشهاد 6 أطفال من عائلة واحدة بمدينة هيبان. والثالثة شهدناها أخيراً في مدرسة الهدرا».
هناك تاريخ طويل من القصف العشوائي والمُمنهج لقرى ومناطق في جبال النوبة. وحسب رصد لناشطين من الإقليم، فإنّ طيران سلاح الجو السوداني قد قصف مدرسة كريلي للأساس المختلطة بمقاطعة دَلامي يوم الثلاثاء 27 أبريل 2016 في الساعة العاشرة صباحاً، مما أدى إلى مقتل مدير المدرسة الأستاذ يونان سعيد أتي، وجرح كلّ من الطالب ماهر سعيد في الصف الأول أساس (8 سنوات)، والطالب فيلبوس إدريس عمر كوكو عمره (11 سنة).
وورد في الرصد ذاته أن طيران الأنتنوف قد استهدف خمس مدارس في مقاطعتي أم دورين ودلامي خلال المدة من 21 مارس إلى 27 أبريل، حيث دُمرت مدرسة كركراية الثانوية تدميراً تاماً في 27 مارس 2016، ومدرسة كركراية للأساس في 28 مارس، ومدرسة أم سردبة للأساس في 29 مارس 2016، ومدرسة كرجي للأساس في 16 أبريل 2016 ومدرسة كريلي في 27 أبريل2016.
وقد تعرّضت مناطق جبال النوبة لعمليات قصف عديدة بدءاً من عقد التسعينيات، ودخل الإقليم وقيادة الحركة الشعبية في معارك ضارية مع النظام السابق في السودان.
مدنيان على أنقاض ناجمة عن قنبلة أسقطتها قوات الحكومة السودانية في جنوب كردفان، السودان، 17 يونيو 2013. المصدر: The New Humanitarian.
قال دلمان: «بدأت عمليات القصف الجوي والأرضي بإقليم جبال النوبة على نحو مُمنهج ضد المناطق المأهولة بالسكّان المدنيين بداية التسعينيات، واستهدف سلاح الجو السوداني عدة مناطق خلال هذه الفترة أبرزها كاودا، برام، جبال لمون، رقيفي، أم دولو، كروجي، نقوربان، نجاكما، أرض كعنان، قديل، تلشي، تيما، جُلد، الفريش، كجاما، وكودي، مما أدّى إلى استشهاد مئات المدنيين وهجرة الآلاف من المدنيين قراهم. كان النظام في الخرطوم يخطّط لاستهداف هذه القرى وتهجير سكّانها بغرض حملهم على الانضمام إلى مناطق سيطرته، حيث فتح معسكرات سمّاها «مخيمات العودة الطوعية»، والهدف منها إعادة إنتاج النوبة داخل الحقل الإسلاموعروبي».
كذلك أكّد د. خضر الخواض الباحث في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، متحدّثاً إلى «أتَـر»: «يحدث القصف الجوي للمناطق المدنية في إقليم جبال النوبة منذ عشرات السنين، الأمر الذي أدى إلى تدمير البنية التحتية من مدارس ومستشفيات ومساجد، ولعل أشهرها بعد أحداث السادس من يونيو 2011، وكذلك مجزرة أطفال هيبان التي قصفتها طائرات الأنتنوف بالعديد من البراميل المتفجرة الأمر الذي أدّى إلى استشهاد العديد من الأطفال والأسر».
ما الذي يعنيه كلّ ذلك؟
كشفت الأحداث الأخيرة عناصر جديدة في طبيعة الصراع في منطقة جنوب كردفان. أبرز هذه العناصر دخول الجيش الشعبي وتمدّده في مناطق أبعد من المساحات التي كان يسيطر عليها، وأهمها سيطرته على طريق الدَّلَنج كادُوقلي.
بحسب تفسير الفريق حسن كبرون المتداول في تسجيل صوتي، فقد جرى تفاوض على مستوى غير رسميّ بين الجيش وقيادات مجتمعية في النوبة لحثّ الحركة الشعبية على فتح الطريق الرابط بين مدينتَي الدّلنج وكادوقلي، إلا أن الحركة أصرّت على موقفها الرافض لفتح الطريق. أشار أيضاً إلى أن معظم مخازن المخزون الاستراتيجي موجودة في الدلنج، مما يجعل سوقها المحلي مصدراً أساسياً لتغذية بقية مدن جنوب كردفان بالمواد الغذائية الأساسية. مع العلم أن الجيش كان قد آثر الصمت حيال دخول الجيش الشعبي مدينة الدلنج بعد احتلال الدعم السريع منطقة هبيلا الزراعية الاستراتيجية ونيته الاتجاه غرباً صوب الدلنج.
لا شكّ إذن أن الصراع يضيف أعباء كبيرة على معيشة معظم المواطنين في معظم ولايات السودان. وبتمدّد المجاعة ونقص الغذاء الذي أكّدته وحذّرت منه تقارير أممية عديدة مؤخراً، قد يقود ذلك إلى مستويات معقّدة من الصراع لمحاولة النجاة.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.