في الفن ما ينعش الذكريات.

الدكتور/ عمر مصطفى شركيان.

 

قال الشاعر الإنكليزي المسرحي وليام شكسبير لأحد أصفيائه، وهو يعظه، أن يبتعد قليلا أو كثيرا عن أحد أصدقائه، الذي سماه بالاسم دون مواربة أو مداورة، لأنه لا يستمع إلى الموسيقى ولا يستمتع بها، ولا يحب الفن والغناء والعزف على الأوتار، مما يعني أنه إنسان فظ غليظ القلب، رديء الطبع والطبيعة. لم لا، لأن الفن يغفر الخطايا، وينسي الإنسان المنايا. مهما كان من أمر شكسبير وصديقه الذي اصطفاه بالوعظ، فدعنا نقول حين كنا شبابا، وقبل ان يشتعل الراس منا شيبا، كنا نرتاد دور الخيالة، أو السينما من العبارة الإنكليزية، في كل من مدن الأبيض والخرطوم ومدني والمناقل والدلنج، وإذ كنا نتحين الفرص، ونختار ما كان يكتب عليه تعليقا “من أروع أفلام الويسترن”، وها أنذا إذ أقول هنا تعليقا على الفيديو الفني أعلاه، وذلك بما يحمله من ألحان شجية، وعزف رخيم على آلة الربابة الفريدة في جبال النوبة، التي تشبه آلة الكورة عند مغنيي دولة مالي المبدعين هم الآخرين، يمثل أروع ما أنتجه النوبة في الفن والغناء والرقص، أداء وإبداعا.

 

والأعظم في الأمر ما يتغنى به الفنان عباس شريف – حفظه الله وأطال في عمره أينما كان – بصوته الجهور، وكلماته المعبرة، ولئن كنت لم أفهم منها شيئا. كما أضافت الراقصة، وهي موشحة بجلبابها الأنيق، وثوبها الأخضر اخضرار الأرض في جبال النوبة، وحركات بنانها المنمق، وبسماتها التي تملأ الفضاء الغنائي سحرا ونورا، وها هي تتمايل كالخمايل في روضة من رياض الحدائق في منطقة أبو صيبع في جنوب مدينة الدلنج، قد اسجت على الفيديو أجواء خريفية في أجمل ما يكون الخريف في جبال النوبة.

أجل، لقد عاد بنا الفنان الأسطوري عباس شريف – حفظه الله ورعاه في كنفه بعيدا عن كوارث السودان – ذكر ى طفولتنا ونحن أيفاع في مدرسة سلارا الابتدائية (المتوسطة لاحقا)، حيث كنا نشرد ليلا لواذا من الداخلية، في الليالي المقمرة، أو المظلمة، لم نكن نكترث من أيهما، ونسري ليلا إلى قرية كلارا مرورا بقرية تندقية، وذلك لكي نشاهد رقصات الفلانق أو الدسول. كنا نفعل ذلك، برغم مما كنا ندري أن العقاب العظيم في انتظارنا في طابور الصباح إن اكتشف أمرنا، ولكن كان هذا ليس هو المهم. فالمهم في الأمر أننا قد شاهدنا وسمعنا واستمتعنا بالتراث الأموي (نسبة إلى قبيل الأما). وهل أنسى في هذه السانحة أن أذكر احتفالات سبر اللوبيا في قرية النتل، وهو السبر الذي كان يرتاده أهل الجبال من كل فج عميق، وحدانا وزرافات، على أرجلهم أو على دراجات، وكان الأسعدون هم الذين تنقلهم عربة من مدينة الدلنج أو كادقلي، أو حتى الأبيض لمشاهدة هذا العرض النوبوي السنوي المستعظم، حيث تقام مباريات الصراع، وترقص الفتيات يمنة ويسرة، أماما وخلفا، ثم يسعد الكبار، ويمرح الصغار، وتنعم الجموع الوافدة الحاضرة بالاطعام والتشراب ما لذ منه، وما طاب، وفي ذلك تجسيدا للكرم النوبوي، وتخليدا للتلاحم الاجتماعي، واعلاء لثقافة مجتمعات جبال النوبة، الذي نحن به – وحق السماء – لفخورون.

في نافلة القول نود أن نقول نتوسل من الله الواحد الوهاب أن يعم السلام إقليم جبال النوبة خاصة، والسودان عامة، وينتشر الأمن والاستقرار في ربوع البلاد، ويكثر المبدعون في الفن والغناء والتراث الاجتماعي ليكون تراثا لاجيالنا القادمة، وفاء وإخلاصا لهذا الشعب النوبوي العظيم، الذي كان عصيا على الأتراك-المصريين في كسر شوكته، واهدار كرامته، برغم مما عانى وشقي في ذلك الردح من الزمان من الاسترقاق ومساوئه. لكن سوف يظل هذا الشعب شامخا شموخ جباله، وكما أخفق الحكام الفجرة القتلة أيما اخفاق من اخضاعهم بقوة السلاح منذ العام ١٩٨٣م إلى يومنا هذا، وإذ نحن على ثقة بأن سواعد أبنائه قادرة على حفظ أرضه وعرضه وتراثه.

 

تحياتي لكم كلكم أجمعين، ودمتم ذخرا لشعب النوبة قاطبة أينما وجدتم وحللتم

الدكتور عمر مصطفى شركيان

بريطانيا

الخميس، ٢ نوفمبر ٢٠٢٣م

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.