حديث الأربعاء مع يوسف كوَّة مكِّي (1 من 4)

الدكتور عمر مصطفى شركيان

 

[email protected]

أيُّها الجاموس المسجي، تعال إلينا مع تباشير الخريف
فالغابة والنَّهر وعجول القبيلة كلهم جميعاً بانتظارك في موسم البذر
نداءات الفرح معطَّلة ومهجورة حتَّى تعود
يخيف خوارك الثيران المخنَّثة وأبقار الزِّينة
وغداً يذهب الغرباء
ويبقى نسيم الوادي يُغسل أحزان القبيلة

نشيد القبيلة المقدَّس الذي ردَّده مقاتلو أقار بعد مصرع زعيمهم مايين ماثيانق في 21 تموز (يوليو) 1902م في منطقة رمبيك

مقدِّمة
هذه صحف عن محاضرة أعددنا لها، ودعينا إليها النَّاس، فأُلقِيت علينا برداً وسلاماً، وأثبتناها أخيراً، ثم لم نر في سبيل نشرها بأساً. ولعلَّنا رأينا في نشرها شيئاً من الخير، فهي ترد على النُّوبة خاصة والسُّودانيين عامة جدالاً جاداً عن أصل المشكل السياسي، ومصدر الاقتتال الأهلي، ومنشأ البلاء الاجتماعي في السُّودان منذ زمان ليس بقصير. إذ إنَّه يجدر على السُّودانيين أن يتدبَّروا ما تصنع أيديهم، وذلك حين يخلون إلى أنفسهم وحين يخلص بعضهم لبعض نجيَّاً. والواقع من الأمر لو تدبَّر السُّودانيُّون من أهل الحكم أقوالهم، وتخيَّروا أفعالهم، وأحسنوا للناس سياساتهم، لما أمسينا فيما نحن فيه اليوم من خطوب عظيمة وأمور مضطربة وشر مستطير؛ لكنهم لم يحفلوا بالشعب، ولم يعرفوا للتعاطف قدراً، ولم يأسوا لآلام المسحوقين منهم، ولم يلتفتوا إليهم، ونظروا إليهم شزراً، وغلظوا على النَّاس وقست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة، وإنَّ من الحجارة لما تتفجَّر منه الأنهار، وإنَّ منها لما يشقق فيخرج منه الماء، وإنَّ منها لما يهبط من خشيَّة الله. إذ اقتضت الحكمة أن يكون مبتغانا من إذاعة هذا الحديث وفاءً لما قاله الفيلسوف الأمريكي جورج سانتيانا: “إنَّ أولئك الذين لا يتذكَّرون التاريخ لمحكوم عليهم بأن يعيدوا سيرته الأولى بما فيها من أخطاء فادحة ومما بها من مشكلات شائكة.” كذلك قال رئيس الوزراء البريطاني الأسبق – السير ونستون تشرشل: “كلَّما أمعنت النَّظر إلى الوراء، كلَّما استطعت أن ترى بعيداً في المستقبل.” هذا ما دفعنا إلى التدوين دفعاً مبيناً؛ وما دوَّنا هذا إلا وكان يحدو بنا الأمل أن يقرأه النَّاس، الدهماء والزعماء منهم، القادة والساسة والكهان والرهبان منهم. لأنَّ في القراءة – لمن يقرأ ويعتبر – تعلُّم الحكم والفضائل وإجادة الكتابة وإبانة الخطابة، إذ أنَّ الشخص السياسي إن كان لا يظفر في الكتاب ولا يبين في الخطاب فإنَّك لتراهن أنَّه لا يحسن التفكير، أو ربما لا يفكر إطلاقاً.
مهما كان من واقع الحال، ففي مساء الأربعاء 5 أيار (مايو) 1999م استضفنا – نحن أعضاء جمعيَّة مانشستر الثقافيَّة – في إحدى أمسياتنا الفكريَّة في مركز قروسفينر بمدينة مانشستر البريطانيَّة ضيفاً عزيزاً من زعماء الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان. وكان المحتفى به حديث عهد بمدينة مانشستر، برغم من أنَّه لم يكن حديث عهد ببريطانيا، بل سبق أن زارها عدَّة مرات؛ وقد كانت زيارته الأولى إلى مدينة لندن – حاضرة المملكة المتحدة – في أيار (مايو) 1993م، وهو الذي كان في رفقة رئيس الحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان الدكتور جون قرنق دي مابيور. وكان رفيق الدكتور يومذاك – الذي إن صبر القارئ لحدَّثناه عنه خُبراً – يمتلئ شباباً رهيباً وحيويَّة متدفِّقة إن كان للشباب ما يرهب وللحيويَّة ما يتدفَّق منها؛ لذلك عرفه بعض الحضور في مدينة مانشستر من أول نظرة ولم يألفه البعض الآخر إلاَّ بعد حين، وإن كان الأخير قد قرأ وسمع عنه وشاهد صورته في وسائل الإعلام الصديقة والعدائيَّة، المقروءة والمسموعة والمرئيَّة.
على أيَّة حال، فقد احتفينا بضيفنا الكريم، ووقرناه كأحسن ما يكون القرى، وأنزلناه منا مكان منزلنا. وكانت الدار قائمة قاعدة في ذلك المساء؛ كيف لا وقد ألمَّ بها ضيف له شأن وِشأو عظيمين في السُّودان. واستهل مقدِّم الجلسة حديثه ملخِّصاً ذلك بالقول إنَّ بين أيدينا لأحد قادة النضال السياسي والعسكري في السُّودان لينوِّرنا – لو جاز لنا استخدام هذه اللفظة العسكريَّة – تنويراً، بحيث نستطيع أن ندير شكلاً من أشكال النقاش لإيضاح الرؤية لنا في بعض المسائل، وبخاصة أن للمتحدِّث ملامسة مباشرة بالأحداث في السُّودان، وهو – فوق ذلك كله – الحاكم الفعلي لإقليم جنوب كردفان، ويقع تحت مسؤوليته المباشرة مدنيُّون وعسكريُّون في هذه الرقعة من البسيطة التي هي امتداد للسُّودان الجديد الذي به نحلم، وإليه نتطلَّع بشيء من الشغف كثير. وبعد التقديم واسترسال عبارات الشكر على الضيف الوقور الذي كان جديراً بهذا الثناء ومستحقاً لهذا الاحتفاء، ابتدر القائد الضيف يوسف كوَّة مكِّي حديثه بالقول: إنَّه لتغمره الغبطة والمسرَّة بهذه المناسبة المقدَّرة التي فيها يلتقي بطبقة مستنيرة من السُّودانيين في الخارج ليتحادث معهم عما في أنفسهم من هموم الوطن، ويتفاكر معهم عن المشكل السُّوداني، حتى يتبدَّد ما في أذهان بعضكم بعضاً عما تسامع لكم عنَّا إما عن سوء قصد أو بغير سوء. إذ تركَّز حديث القائد الضيف يوسف كوَّة على نقاط توضيحيَّة ثلاث نلخِّصها فيما يلي:
(1) النُّوبة من جهة، والحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان من جهة ثانية؛ ما الذي جمع بينهما؟
(2) الحركة الشعبيَّة ومحادثات السَّلام المختلفة، وبخاصة مع الحكومة الحاليَّة؛ وحديثه هذا كان من تجاربه الشخصيَّة لأنَّه كان عضواً مشاركاً في محادثات أبوجا الأولى في 26 نيسان (أبريل) 1993م، والإيقاد الأولى، الثانية والثالثة، وبعد ذلك في محادثات “الإيقاد” في أديس أبابا العام 1998م، ومحادثات “الإيقاد” التي كانت من المفترض أن تنعقد، لكنها لم تنعقد في شباط (فبراير) العام 1999م. النُّوبة والحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان

(3) الحركة الشعبيَّة والتجمُّع الوطني الديمقراطي.

ففي مفتتح الحديث، طرح القائد يوسف كوَّة سؤالاً ظلَّ يتردَّد في مسامع كثرٍ من النَّاس، ألا وهو لماذا انضمَّ النُّوبة إلى الحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان؟ إذ ردَّ القائد يوسف على سؤاله هذا قائلاً: إنَّ أي شخص داخل هذه القاعة ليدرك كلَّ الإدراك أنَّ لنا مشكل سياسي في السُّودان، وكل من يعتقد غير ذلك فإنَّه لمخطئ؛ لأنَّه لا يعقل أن يكون هذا البلد في حالة حرب مع مواطنيه منذ العام 1955م حتى العام 1972م، وتتجدَّد الحرب مرة أخرى العام 1983م إلى يومنا هذا؛ إن لم يكن السُّودان ليعاني من أدواء سياسيَّة استعصى على السُّودانيين حلُّها بأنفسهم فبِمَ نسمِّي هذا العبث بأرواح الشعوب. إذاً، ينبغي أن يكون هناك ثمة خطأ ما (There must be something wrong). لذلك المطلوب منا كسودانيين أن نبحث عن جذور الخطأ، وطبيعة المشكل الذي نحن فيه نتصارع. وإنَّ من أشدَّ ما يملأ قلوبنا إشفاقاً حقيقيَّاً أنَّنا لم نستطع حتى الآن التداول حول المشكلات الرئيسة التي أوقدت جذوة هذه الحروب الأهليَّة. إذ يحاول السُّودانيُّون دوماً معالجة نتائج هذه الحروب دون الرٌّجوع إلى محاولة معرفة الأسباب. إنَّا لنظن إن أصبحنا كالأطباء لاستطعنا النفاذ إلى المشكل السُّوداني، ولاستطعنا استئصاله؛ لأنَّ المريض حين يذهب إلى الطبيب يقوم الثاني بتشخيص الداء وأسباب الداء قبل وصف الدواء للقضاء على المرض الذي منه يعاني المريض وفيه قضى وقته إيلاماً.
لكن نحن – معشر السُّودانيين – لم نمض كثيراً في هذا الاتجاه لأسباب كثرٍ منها حزبيَّة، وطائفيَّة، وصفويَّة، وعقدة التعالي، ونحن – معشر المهمَّشين – كذلك نلجأ إلى معالجة المشكل السُّوداني عن طريق عقدة الدونيَّة (Inferiority complex)، حيث نجد بعض الأخوة من جنوب السُّودان يتصايحون: “نريد أن ننفصل من الشمال”. وينبغي ألا يكون هذا هو الحل الأمثل، لأنَّ هذا هو بلدنا والسُّودان كان لنا قبل أن يأتي هؤلاء الشماليون. إذاً، كيف يأتي شخص أو ضيف إلى منزلك وتريد أن تخرج وتترك له الدار، إنَّ العكس لهو الصحيح، أي إذا لم تعجبه الإقامة في الدار فعليه أن يغادر المقر، لا صاحب الدار الذي ينوي المغادرة أو يبغي اقتسام الدار مع الضيف الجائر. وأردف يوسف قائلاً: إذا لم يكن حديثي هذا معجباً للجنوبيين إن وُجِد بعضهم هنا أو الشماليين إن وُجِد بعضهم هنا كذلك، فهذه هي الحقائق ولا يسعنا إلا أن نخاطبها وجهاً لوجه (Head on collision) عسى أن نصل إلى حلول مرضيَّة.
كان القائد يوسف كوَّة يذكِّرنا بتاريخ السُّودان المعاصر، ومشاعر حاله تتمثَّل قول الشاعر عمرو بن الحارث (بن عمرو) بن مضاض:
بلى نحنُ كنا أهلها، فأزَالنا صروف الليالي والجدود العواثر

حقاً، أزالنا صروف الليالي والجدود العواثر في الماضي، واليوم تزيلنا أمورٌ دُبِّرت ليلاً، وكيدٌ يُكاد لنا كيداً. وقال القائد يوسف – وفي نفسه شيء من الحسرة واللَّوعة – كل ما درسناه في أول الصبا ومقتبل الشباب هو تاريخ العرب في السُّودان، وحينما علَّمونا شيئاً عن أنفسنا كان هذا الشيء هو أننا كنا أرقَّاء، ولم يحفلوا بما كان للنُّوبة من ممالك عظيمة، وحضارة عريقة، قبل دخول العرب إلى السُّودان. والآن هناك ثمة سياسة رسميَّة لتذويب ثقافتنا إلى العربوإسلاميَّة إلى درجة أنَّنا لا نكاد نبين من أمر لغاتنا القوميَّة شيئاً برغم من وجود ثقافتنا الخاصة.
ويمضي القائد يوسف قائلاً: إنَّنا كنوبة انخرطنا في الحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان نسبة للخطأ المغروس في نظام الحكم (السلطة) في السُّودان؛ فهذا البلد تحكمه وتسيطر عليه أقليَّة عربيَّة مسلمة – مستطرداً، ولئن هناك من يدَّعون أنهم عرب – وبخاصة بعد الاستقلال من الاستعمار البريطاني-المصري العام 1956م. إذ وضعت هذه الأقليَّة الشكل الحالي للسُّودان – أي السُّودان القطر العربي المتحدِّث باللغة العربيَّة، وأي شيء عربي جيِّد، وأي شيء غير عربي غير جيِّد. ويبين القائد يوسف: هناك تعدُّديَّة، ونحن نقول: إنَّ السُّودان لبلد متعدِّد الثقافات والأعراق والدِّيانات، فهناك من يقول إنَّه لعربي فمرحباً بالعربي السُّوداني، وأنَّا نوبوي لذلك كذلك ينبغي أن أكون مصدر ترحيب في السُّودان. فهذه هي هُويَّتي، وقد لا تتماشى مع الثقافة العربيَّة، لكنها قطعاً تتماشى معي؛ فهناك دينكا، ونوير، وشلك، ومادي، وفور، وزغاوة، ومساليت، وبجة، وحلفاويين وهلمجرَّاً، فالسُّودان بلد متعدِّد القوميات. وإذا حدث أنَّ استطاع يوسف كوَّة بسط سيطرته على السُّودان بالقوَّة وأمر كل السُّودانيين أن يصبحوا نوبة ثقافة وعقيدة، أي يتكلموا بلغات النُّوبة، ويشربوا المريسة (الخمر البلدي) مثلما يشرب النُّوبة، فإنَّ أكبر الظن أنَّ الأغيار سوف يظنون بنا الظنون، ويأخذوننا بالجنون. فلِمَ، إذاً، يفرضوا علينا ثقافتهم وديانتهم عنوة واقتداراً؟
إنّنا نتذكَّر بعض الروايات الموجودة في الكتب أنَّ أول يوم بعد الاستقلال في السُّودان صرَّح وزير الدَّاخليَّة في ذلك الرَّدَح من الزَّمان الشيخ علي عبد الرحمن الأمين الضرير أنَّ السُّودان بلد عربي، ومن يرى غير ذلك، أو لم يعجبه هذا “التوجُّه الحضاري” (بلغة الإنقاذ) فعليه أن يغادر هذا البلد العربي المبين إلى حيث يريد! فهذا غلو ما بعده غلو، وهذا هو سبب مشكلات السُّودان (This is the wrong base)، بالإضافة إلى ذلك مسألة فرض الدين الإسلامي على السُّودانيين كافة، إذ ينبغي أن يتم ذلك عن طريق المجادلة بالتي هي أحسن. وإذا راعت النَّاس هذه الظروف يمكن أن يكون السُّودان بلداً عزيزاً جداً. وفي الحق، إنَّا لنا أكبر الظن حتى الآن أنَّ الشعب السُّوداني مجتمع فريد قلَّما تجد مثله في العالم، وهذه هي حقيقة. بيد أنَّ المشكل السُّوداني يتلخَّص في الجشع السياسي، أو الطمع السلطوي (The avarice of power). فإذا نظرنا إلى الشعب الأثيوبي – باعتباره أقرب الأقوام إلى الشعب السُّوداني – نجد أنَّ للأثيوبيين عيب واحد هو المسألة الدينيَّة، حيث أنَّ المسلم والمسيحي لا يمكن أن يأكلا في قدح واحد، ولا المسلم يحب أن يشتري من المسيحي ولا المسيحي يود كذلك أن يشتري من المسلم. إذ لا نجد مثيلاً لهذا السلوك التنافري في السُّودان، فهذه واحدة من الأشياء الحميدة، ولدينا من الأشياء ما هي جميلة مثلها بكثير. فإذا تمسكنا بها، ونظرنا إلى الذي نحن فيه مختلفون، ووضعنا له العلاج، وبحثنا عن سبل التعاطي معه لاستطعنا خلق أمَّة سودانيَّة لا مثيل لها أبداً.
إنَّ الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان أول ما نادت – فيما نادت به – هو مسألة الهُويَّة السُّودانيَّة، وجاهرت بأن نكون سودانيين من قبل، ومن بعد ذلك يمكن أن يتحدَّث بملء فيه كل من يبغي أن يقول هو سوداني عربي، سوداني فلاتي، سوداني نوبوي أو غيرهم، وهذا هو الحل الأمثل لمسألة الهُويَّة السُّودانيَّة. صحيح أنَّ هناك من إخوتنا السُّودانيين ممن يزعمون أنَّهم أعراب لأنَّ أجسادهم تغشيها ألوان فاتحة، بيد أنَّهم حين يخرجون إلى خارج السُّودان يسمعون العجب ليس في شهر رجب فحسب، بل في جميع شهور السنة، وهم يعلمون هذا ونحن معهم عالمون. إذ ترد عليهم العرب الأقحاح: إن كنتم لعرباً فمن نكون نحن! لذلك نرى أنَّنا يمكن أن نكون سودانيين أولاً، ثمَّ بعد ذلك على من أراد أن يبحث عن جذوره في السُّودان النيلي أو البربري أو الحلفاوي وهلمجراً، فله ما شاء في البحث إليه من سبيل. فإذا أخذنا في الاعتبار الولايات المتحدة الأمريكيَّة، فكل أمريكي هو مواطن أمريكي؛ والمواطنون الأمريكيُّون من جذور متعدِّدة، فهناك الأمريكيون الأفارقة، والألمان، والإنجليز، والأيرلنديُّون، والإيطاليُّون، والأسيويُّون، واللاتينيُّون وغيرهم، لكنهم يعتزون بأمريكيَّتهم، وبهذه الطريقة يمكن حل مشكل الهُويَّة السُّودانيَّة.
أما حين تقول إنَّ السُّودان لقطر عربي فإنَّك لتأخذ حقوقي غصباً. فهذه المشكلات، التي تخاطب مسألة الهُويَّة السُّودانيَّة، والتعدُّديَّة الثقافيَّة والدينيَّة، ليست مقصورة على الجنوبيين فحسب، بل كافة السُّودانيين، لذلك تجدنا – نحن النُّوبة – قد دخلنا الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان لأنَّها أول حركة سياسيَّة خاطبت هذه المشكلات، ووضعت لها معالم، ووجدنا قادة الحركة دعاة التعدُّديَّة، وحماة الوحدة الوطنيَّة، وما زلنا في الحركة حتى الآن. وإنَّا لفي الحركة الشعبيَّة، إذا بالأغيار يمطروننا وابلاً من الأسئلة: هل تحالفكم مع الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان تحالف وقتي أم مرحلي؟ وكان ردَّنا للسائلين دائماً ليس هذا بتحالف، وليس هذا بوقتي، وما هذا بمرحلي؛ وكلمة ما هنا تدلُّ على النفي، وإن كانت توحي بأنَّها تشير إلى التعجُّب. فقد ذكرت الحركة الشعبيَّة أكثر من مرة أنَّها جاءت من أجل وحدة السُّودان، لكن على أسس وقيم جديدة (Qualified national unity)؛ وهذا ما يفرِّق بينها وبين حركة تحرير جنوب السُّودان (الأنيانيا) (1955-1972م). وأضاف القائد يوسف في لهجة لم تخلُ من حزمٍ وحسمٍ: إنَّه ليتحدَّى أي شخص يستطيع أن يقول إنَّه وجد شيئاً مكتوباً أو تصريحاً أو قولاً فيه يقول الدكتور جون قرنق إنَّه ليناضل من أجل فصل جنوب السُّودان من الشمال، ولكن – بكل أسف وأسى – نحن في أحزابنا، ومن ناحية حزبيَّة، يقول قائل منهم إنَّ فصل جنوب السُّودان من الشمال لهو من الأجندة السريَّة (The hidden agenda) للدكتور قرنق؛ هل يمكن أن تستمر الحرب خمسة عشر عاماً – حتى ذلك الحين من الزمان – وما زالت هناك أجندة سريَّة للحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان؟
إنَّنا نؤمن تماماً بأنَّ الحلول التي وضعتها الحركة الشعبيَّة في المشكل السُّوداني شاملة وشافية، وبالتالي إنَّنا نؤكِّد أنَّ الحركة الشعبيَّة في جبال النُّوبة ليست بمختلفة عن الحركة الشعبيَّة في جنوب السُّودان، أو النيل الأزرق، وإنَّ عمليَّة “فرِّق تسد” ما زالت موجودة في عقلية أهل الحكم في الخرطوم، وأنا شخصيَّاً لا أشعر بأنَّني بعيد عن الحركة الشعبيَّة، بل إنَّني أشعر بأنَّني ركن أساس في الحركة الشعبيَّة، والنُّوبة قد لعبوا دوراً حاسماً حازماً في الحركة، وبخاصة بعد الانشقاق الذي حدث العام 1991م وقاده الدكتور رياك مشار والذين ذهبوا معه. فكان موقف النُّوبة ثابتاً مع الدكتور جون قرنق، لأنَّه منذ البداية إلى النهاية كان ينادي بوحدة السُّودان على أسس وقيم جديدة؛ إذ نعتبر هذا هو الحل الناجع لمشكلات السُّودان العديدة، فهذا هو دورنا وهذا هو موقفنا كنوبة في الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان.

للمحاضرة بقيَّة،،،

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.