حرب البلهاء.. وخيار الصفر
فتحي الضو
على إثر اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل العام الماضي، تبارى المعلقون في نعتها بشتى الأوصاف، والذين يظنون أنها تُعبر عن المحنة. وقد كانت (العبثية) أكثرها رواجاً وتداولاً. ومن المفارقات أن البلهاء الذين أشعلوا نيرانها، هم أنفسهم من ابتدر ذلك الوصف العجيب. والذي جاء مطابقاً للواقع. ذلك لسبب بسيط تمثل في انعدام المنطق، أي على عكس حروب كثيرة جرت وتجري في الدنيا، كانت لها أسباب ودوافع وذرائع يُحاول كل طرف أن يُبرئ أو يُعضد بها موقفه. ولكن فيما يبدو لي أنه ليس لدنيا نصيباً حتى في الحروب النظيفة – إن جاز التعبير- والحروب النظيفة هي تلك التي عناها المُفكر الاستراتيجي الألماني كارل فون كلاوزفيتز في قالته الشهيرة: (الحرب هي تعبير عن السياسة بوسائل أخرى).
بيد أنه استناداً على هذا التفسير سواء – اتفق معه الناس أو اختلفوا – أنظروا كم مضى علينا حينٌ من الدهر لم نسمع فيه شيئاً عن حرب حقيقية يدور رحاها بين روسيا وأوكرانيا منذ أكثر من عامين؟ وقد يُقتل فيها جندي بالخطأ كل ثلاثة أشهر، وحتى عندما يحدث هذا تنهض المنظمات الحقوقية والهيئات الدولية -على رأسها الأمم المتحدة – من سُباتها العميق لتشجب وتدين وتستنكر. إذن قل لي بربك الذي خلقك فسواك فعدلك ما ذنب (أم كدادة) حتى يموت فيها الناس (سمبلة) كما تموت الضأن في الفلوات، وما ذنبها وراجمة صواريخ تقوم بدك بيت (جالوص) دكاً دكاً.
واقع الأمر ليس انعدام المنطق وحده الذي رمى بظلاله الكئيبة على المشهد المأساوي، ولكن ثمة عوامل أخرى تكاملت وتضافرت وتداخلت فزادت الأمر تعقيداً. منها ما كشف عورتنا فظهرت لنا حقيقة أنفسنا كما نراها وليس كما يراها الآخرون. ومنها تلك الكراهية التي استشرت في النفوس وانطلقت كالنار في الهشيم. ومنها الجهل الذي التقطته أفواه الرجرجة والدهماء وألبست به الحرب ثوب القبلية والعنصرية والجهوية، وفيها تَقَدَم الانتهازيون الصفوف من أجل إشباع نفوسهم المريضة وطموحاتهم البئيسة. وأعلمتنا الحرب أن للسلطان تنابلة يرصعون أكتافهم بالنجوم ويزينون صدورهم بالنياشين، مثلما عرَّت لنا جهل (أصحاب الياقات البيضاء). الذين يختصرون عقلك وحريتك وهويتك في المفاضلة بين السوءين: هل أنت مع (جيش الوطن) أم مع (مليشيا) الدعم السريع، وكأنهم لا يعلمون أن الذين يحصرونها بين جنرالين هم أنفسهم بالضرورة بلهاء مثلهم.
إذن حرب من هذه؟ فقد بات المواطن البسيط في حيرة ًمن أمره وهو يعيش دوامة غربة زمانية ومكانية مع أنه يعلم في خويصة نفسه من سواها ومن زكاها ومن لم يخش عقباها. فالأمر لا يحتاج لجهد خارق للوصول إلى حقيقة أن الحركة الإسلاموية هي التي صنعت هذه المأساة رغم أنف المكابرين؟ فلماذا إذن دفن الرؤوس في الرمال، ولماذا هذه التضليل الذي يمارسه هواة النضال، الذين استباحوا المنابر الإسفيرية والقراطيس وطفقوا في غيِّهم يعمهون؟ علماً بأن هناك شعباً يحترق.. موتاً وتقتيلاً، نزوحاً وتشريداً، ضياعاً وتهويماً، والمستفيدون الوحيدون من استمرارية الحرب واستثمار معاناته هم براغيث الحركة الإسلاموية. أليس هم أنفسهم الذين كانوا يشعلون الحرب تلو الأخرى على مدى ثلاثين عاماً، حتى أضحى السودان كله ساحةً للموت وسفك الدماء ونموذجاً لدولة الفساد والاستبداد؟
لقد بات واضحاً وجلياً منذ سقوط دولة الظلم تلك، أن فلولها تفرغوا تماماً لحياكة الخطط والمؤامرات والدسائس، حتى لو استدعى ذلك حرق السودان بما فيه ومن فيه. وتفننوا في وضع المتاريس أمام قطار الثورة بهدف إعاقة سيره، وقد ساهم في ذلك سيطرتهم على ما (غنموه) من أموال منهوبة وموارد مبثوثة وإعلام عضَّوا عليه بالنواجذ حتى لا يفر من بين أيديهم. وفوق هذا وذاك استغلوا سماحة الثورة وسلميتها الفريدة، واقتنصوا التساهل الذي تعاملت به حكومات الفترة الانتقالية، كل ذلك جعلهم يتمادون في أفعالهم الشنعاء غير عابئين بالدمار الذي ألحقوه بالدولة السودانية، ومنَّوا النفس بالعيش في الوهم لاستعادة فردوس السلطة المفقود، رغبةً في استكمال مخططات خبيثة، كانت الحرب سنامها. ولهذا نقول بوضوح لا لبس فيه لن يستقر ولن يستقيم حال السودان إلا بـ (التعامل المناسب) مع هذه الفئة الباغية.
كثيرون يعتقدون أن المجتمع الدولي تعامل بلا مبالاة مع هذه الحرب الكارثية، لكن في تقديري أن ذلك ليس صحيحاً بصورة مطلقة، فالصحيح أن المجتمع الدولي ليس جزراً متقطعة، ليس فيه مكان للعواطف مثل تلك التي تتحكم في مساراتنا، وإنما المصالح هي التي تربط بين أعضائه، وفق خطط واستراتيجيات وأهداف مشتركة. ففي مثل حرب الإسلامويين التي نعيش ويلاتها هذه، اتضح للمجتمع الدولي بمثل ما اتضح لنا في بداياتها بأنها حرب عبثية، وطبقاً لذلك تم التعامل معها بمستوى توصيفها إلى أن انفرط العقد. وعلى الرغم من تكلفتها الباهظة على جميع المستويات انتقل التعامل معها وفق استراتيجية ما يسمى (خيار الصفر) Zero-Zone, والتي تعني باختصار: دع الطرفين يقتتلان وحاصرهما حتى يُنهكا وتخور قواهما، عندئذٍ سينتظر أحدهما عند المصب لعل النهر يحمل إليه جثة عدوه، كما يقول مثلٌ صينيٌ عتيد. ورقيبٌ آخر يقول: مثلما اندلعت الحرب فجأة سوف تتوقف بغتةً. أما تقديراتنا نحن التي – تحتمل الخطأ مثلما تحتمل الصواب – تقول إن الحرب ستطوي حبائلها قريباً – طي السحاب لا ريث ولا عجل – استعداداً للرحيل … ولو كره البراغيث!
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر.
[email protected]