السودان، بين الاصطفاف الاثني والوحدة حول مشروع وطني فكري وسياسي!
✍️ بروف: خالد كودي
في عصرنا هذا، حيث تتسارع وتيرة العولمة وتتشابك المصالح العالمية بشكل متزايد، تبرز الحاجة الملحة لإعادة تصور مفاهيم الهوية والتكامل داخل المجتمعات المعاصرة. السودان، بتاريخه المعقد وتركيبته الاجتماعية المتنوعة، يُعد نموذجًا فريدًا يعكس التحديات التي تواجه السلام، الوحدة الوطنية والتعايش الاجتماعي في ظل تقلبات القرن الحادي والعشرين. هذا المقال يهدف إلى استكشاف كيفية قيادة المشاريع الفكرية الشاملة، وليس فقط العوامل العرقية أو الدينية أو الجغرافية، لتحقيق تكامل مجتمعي أكثر فعالية يكرس لمفهوم الوحدة والتعدد في سياق الصراع السوداني الراهن.
منذ 15 أبريل 2023، شهد السودان تحولاً كبيرًا عندما انهارت الشراكة بين القوات المسلحة السودانية وميليشيات الدعم السريع، المعروفة للبعض باسم مليشيا الجنجويد، والتي كانت قد شكلتها الحكومة المركزية لمحاربة المهمشين إلى جانب الجيش النظامي. النزاع بين هاتين القوتين، الذي اندلع بسبب صراعات حول السلطة والثروة، حول المناطق تحت سيطرة الحكومة المركزية إلى مسارح للحروب، مما أدى إلى تدمير البنية التحتية ومقتل الآلاف وتشريد الملايين.
الأضرار والجرائم التي أعقبت هذا الصراع لم تقتصر على مناطق سيطرة الحكومة المركزية بل امتدت إلى دارفور وجنوب كردفان وجبال النوبة والنيل الأزرق، مما أدى إلى مزيد من الدمار والفظائع. قوات الدعم السريع، التي لها حضور اجتماعي في دارفور وكردفان، قد وسعت جرائمها لتشمل جنوب كردفان وجبال النوبة، مما أسفر عن قتل وتشريد مئات الآلاف، وتدمير مصادر المياه وسرقة المحاصيل والمواشي. في الوقت ذاته، تواصل القوات المسلحة السودانية استهداف المدنيين في جنوب كردفان/جبال النوبة بذرائع مكافحة الحركة الشعبية لتحرير السودان وجيشها الشعبي فتقصف المدنيين بالطائرات بانتظام واضطراد! هذا الواقع افرز تسليح الكيانات الاثنية مما دفع الي الخروج العلني ب (قبلنة) الصراع. وهنا، يجدر القول ان الحركة الشعبية لتحرير السودان تمثل نموذجًا بارزًا لكيفية تجاوز الانقسامات التقليدية من خلال تبنيها فلسفة مشروع “السودان الجديد”، والذي يهدف إلى بناء دولة موحدة، ديمقراطية، علمانية، ولامركزية. مشروع السودان الجديد يعتمد على أسس تتجاوز الانقسامات الإثنية والدينية و بدلاً من ذلك يقوم على مبادئ المواطنة المتساوية والحقوق المشتركة، مؤسسًا لمجتمع يعمل على تقوية النسيج الاجتماعي والسياسي في البلاد.
في السياق السوداني، يتميز الجيش الشعبي للحركة الشعبية لتحرير السودان بأنه نموذج فريد لتنظيم ثوري تحرري قد خاض نضالات ببسالة وشرف لتحقيق أهدافه التحريرية، بينما عانت الكيانات المسلحة الأخرى بما فيها القوات المسلحة السودانية من الفشل سواء في الميدان أو على الصعيد الأخلاقي. أبناء جنوب كردفان، جبال النوبة، والنيل الأزرق يشكلون الغالبية العظمى من مقاتلي الجيش الشعبي، ومع ذلك فإن عضويته تتسع لتشمل مناطق السودان الأخرى. المناطق مثل جنوب كردفان، جبال النوبة، ومنطقة النيل الأزرق المعروفة بالفونج الجديد، تُعرف بأنها مناطق تعاني من التهميش وقد شكلت الحاضنة الاجتماعية الداعمة لنضال الحركة وجيشها الشعبي. القوة التي تمتلكها الحركة الشعبية تستمد من تجذرها العميق في هذه الجماعات الأصيلة، التي ترى في مشروع الحركة فرصة لطي صفحات الاستبداد والتهميش التي استمرت لعقود.
المشروع الذي بدأته الحركة قد وضع الأساس لمجتمع معافي في أراضي محررة تتجاوز في مساحتها مساحة دولتي رواندا وبروندي مجتمعتين، والمشروع يرمز لأمل كبير في بناء سودان يحكمه القانون ويسوده العدل. الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال تقود هذا النضال من خلال دعمها لفكرة الحكم اللامركزي، وتؤكد على أهمية الإدارة المدنية في تحقيق العدالة والمساواة لجميع السودانيين.
ومع ذلك، هناك تحديات كبيرة تواجه هذه الرؤية، حيث تظهر بين الحين والآخر دعوات من قبل بعض أبناء الحواضن الاجتماعية للحركة للتكتل القبلي او للاصطفاف خلف الحكومة المركزية لمعاداة مشروع الحركة بدعاوى مثل التصدي لقوات الدعم السريع! أي يدعوا الي الاصتطاف مع جيش الحكومة السودانية! وهنا لابد من استدعاء طبيعة الفارق بين الجنود والضباط في القوات المسلحة السودانية، حيث تأتي الأغلبية من الجنود من أبناء المهمشين، في حين تهيمن النخب من إقاليم الشمال النيلي على الرتب العليا، التي من شانها اتخاذ القرارات الكبيرة بشأن الحروب، مكانها وزمانها وضد من والأسلحة المستخدمة فيها. في ظل هذه الديناميكيات المعقدة، يظل مشروع السودان الجديد رمزًا للأمل والتحدي في آن واحد، ممثلاً جهودًا ناضجة لتحقيق وحدة وطنية تتجاوز الحدود التقليدية وتبني مستقبلًا عادلا ومستدامًا لكل السودانيين.
بالنظر الي الأبعاد الاجتماعية والثقافية، نجد ان المجتمعات التي توفر الحاضنة الاجتماعية للحركة الشعبية لتحرير السودان، مثل جنوب كردفان والنيل الأزرق، أظهرت وبوضوح لا لبس فيه كيف يمكن للمشروع الفكري أن يلتقط الدعم الشعبي ويوجهه نحو أهداف استراتيجية أوسع. هذا التأييد يستند إلى الرغبة في تحقيق العدالة والمساواة أكثر من كونه مجرد تكتل دون وعي او مجرد تعبير غير بدائي عن الهوية القبلية أو الإثنية او الجهوية.
على الرغم من التقدم الملموس الذي حققه مشروع السودان الجديد، لا تزال هناك تحديات جسيمة تعترض الطريق. الحركة الشعبية لتحرير السودان تواجه مقاومة مستمرة من النخب المركزية التي تعمل على الحفاظ على الوضع القائم، لانها مستفيدة من عدم إجراء تعديلات جوهرية على بنية الدولة التي أُسست بعد الاستقلال وعلاقات القوي التي تحكمها. إلى جانب ذلك، الدعوات التي تحرض على القبلية والعرقية، تشكل تهديدًا مزدوجًا؛ فهي لا تعرقل فقط الجهود المبذولة نحو تحقيق الوحدة الوطنية، بل أيضًا تدعم تقدم العناصر المعارضة للمشروع الديمقراطي، العلماني، واللامركزي في البلاد، وذلك لمجرد أنهم ينتمون إلى إثنية محددة!
يتضح من النظر في مشروع الحركة الشعبية لتحرير السودان ونهجها الشامل، أن بناء مستقبل فعال في مناطق الصراع مثل السودان لن يكون له مستقبل إذا استند فقط على التكتلات القبلية التقليدية. بدلاً من ذلك، يستلزم الأمر تبني مشاريع فكرية تتجاوز الحدود العرقية والدينية والجغرافية، موحدة الشعوب حول أهداف مشتركة تلبي متطلبات المجتمعات المعاصرة.
فمشروع الحركة الشعبية لتحرير السودان يعرض نموذجًا لبناء مستقبلي فعّال لمناطق تشهد صراعات، حيث يتجاوز الاعتماد على الانقسامات التقليدية بناءً على العرق أو الدين أو الجغرافيا. بدلاً من ذلك، يشدد هذا النهج على ضرورة تطوير مشاريع فكرية تعمل على توحيد الشعوب حول أهداف فلسفية مشتركة تستجيب لاحتياجات المجتمعات الحديثة وتطلعاتها في القرن الحادي والعشرين.
تاريخيًا، تبرز أوروبا كمثال بارز حيث توحدت مجتمعات متعددة القبائل والديانات حول مشاريع وطنية لصد العدوان الخارجي أو تحقيق أهداف مشتركة. فخلال الحرب العالمية الثانية، على سبيل المثال، تجاوز الفرنسيون والبريطانيون الانقسامات الداخلية لمقاومة الاحتلال النازي، متحدين من مختلف الأصول الإثنية والدينية للدفاع عن وطنهم، مدفوعين بمشروع وطني يعلو فوق الفوارق القديمة.
أيضًا، في العصور الوسطى، شهدنا الحروب الصليبية (1096-1291) التي جمعت المسيحيين من مختلف الطوائف والاثنيات والأراضي الأوروبية، بما في ذلك فرنسا، ألمانيا، إنجلترا، وإيطاليا، حول مشروع في مظهره ديني ولكنه سياسي متحرر لاسترداد الأراضي المقدسة! وبالمثل، تشكيل الدول القومية خلال العصور الوسطى كانت نتيجة لتوحيد الأنجلو ساكسون والنورمان تحت حكم ملوك مثل ويليام الفاتح، وذلك ليس فقط على أساس العرق أو الدين بل من خلال بناء مؤسسات مشتركة ونظام قانوني يعكس مصالح متنوعة. ونجد تحالفات مثل الرابطة الهانزية، التي كانت تحالفًا تجاريًا وعسكريًا شمل عدة مدن ساحلية في شمال أوروبا من القرن الثالث عشر إلى السابع عشر، أظهرت كيف توحدت المدن لحماية مصالحها الاقتصادية وتأمين طرق التجارة، متجاوزة الانقسامات الإقليمية والإثنية.
وفي سياق العصر الحديث، بعد الحرب الباردة، نرى دولاً مثل ألمانيا التي تجاوزت تاريخها المنقسم بين الشرق والغرب لتوحد البلاد حول الديمقراطية والتنمية الاقتصادية المشتركة، مما أدى إلى إعادة توحيد ناجحة وتطوير هوية وطنية جديدة تعزز الوحدة والتقدم.
ففي سياق بناء الدولة الحديثة في السودان، يبرز النموذج الذي تقدمه الحركة الشعبية لتحرير السودان كمحور أساسي لتجاوز التقسيمات التقليدية المبنية على الدين، العرق، أو الجغرافيا. الوحدة في السودان المستقبلي لاخيار لها الا أن تستند إلى مشروع يلبي المصالح المادية، المعنوية، والثقافية لجميع مكونات المجتمع، بعيدًا عن النظريات القبلية البالية التي قد ترجع بالمجتمع إلى أزمنة الانقسامات المتوارثة.
ووفقا النظريات الاجتماعية المعاصرة وتأثيرها على الوحدة الوطنية، نجد مفكرون مثل يورغن هابرماس وأمارتيا سن قد طوروا نظريات تشدد على أهمية بناء المجتمعات المتكاملة التي تتجاوز الانقسامات الثقافية والاجتماعية. هابرماس، في نظريته حول “الفضاء العام”، يرى أن الحوار المفتوح والمشاركة الديمقراطية هما المفتاح لتحقيق مجتمع متماسك. أمارتيا سن، من خلال نظريته حول “الهوية والعنف”، يناقش كيف أن التعددية والاعتراف بالتنوع يمكن أن يمنع الصراعات ويعزز السلام الاجتماعي.
تطبيق هذه النظريات في سياق السودان، نجد ان المشروع الذي تقوده الحركة الشعبية لتحرير السودان يحمل في طياته أسسًا لنظام يعتمد على الحكم المدني والمساواة في الحقوق. هذه الرؤية تعارض بشكل مباشر النظم التقليدية التي فشلت في تجاوز الأبعاد العرقية والدينية والجهوية. تقديم مشروع “السودان الجديد” يشكل تحديًا للهياكل القائمة اذ انه يعد بتأسيس نظام يضمن الحقوق المتساوية للجميع، ويعمل على تحقيق الوحدة الوطنية بمفهومها الشامل والمتطور والقائم علي الفكر واستشراف المستقبل في صياغة مشروع فكري سياسي.
استعراض التاريخ يكشف عن دروس قيمة من تجارب الصراع والوحدة، خاصةً في حالات ناجحة مثل تجربة جنوب أفريقيا بعد نهاية الأبارتهيد. هذه التجربة تؤكد على أهمية مشاركة كافة شرائح المجتمع في بناء الدولة. نيلسون مانديلا، من خلال تبنيه لمفهوم “أمة قوس قزح”، عزز الوحدة الوطنية بالاعتراف بالتنوع وتوجيه الجهود نحو معالجة المظالم التاريخية وفقا لمنهج للعدالة يقوم علي الحقيقة والمصالحة. الجدير بالذكر هنا ان الحركة الشعبية ضمن مشروع السودان الجديد تتبني منهجا للعدالة التاريخية التي تشمل العدالة الانتقالية وتتجاوزها!
في الختام، تحقيق الوحدة الوطنية في السودان يتطلب تبني استراتيجية ثورية تقدر التنوع الثقافي والاجتماعي للبلاد. يجب أن ترتكز هذه الاستراتيجية على مشاريع فكرية وسياسية علمانية تعكس الواقع المتنوع للسودان وتلبي احتياجات كافة المواطنين. من خلال استلهام الدروس من النظريات الاجتماعية المعاصرة وتجارب بناء الدول في أماكن أخرى، يمكن للسودان تخطي العقبات التقليدية وبناء مستقبل مزدهر يضمن العدالة والمساواة لجميع مواطنيه.
خالد كودي،
2024/4/25 بوسطن،
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.