مأساة جبل الداير…. نداء للثورة

الدكتور/قندول إبراهيم قندول [email protected]

 

الذي حدث في جبل الداير والمناطق المجاورة له من قتل وتشريد ومنع السكان العُزَّل من ورود الماء، وإجهاض الحوامل من شدة الهول والرعب والعطش، صادم ولا يمكن تخيُّله أو الوقوف عنده. حدثت تلك المجزرة على مرأى وأمام ما يسمى ب “الجيش السُّوداني”، الذي ما فتئَ يملأ مغارب الأرض ومشارقها ضجيجاً أنَّه ممسك بزمام الحرب العنصريَّة منذ اندلاعها في الخرطوم، عاصمة البؤس والمحن! ولطالما تقع هذه المنطقة تحت سيطرة الجيش الهمام، فهو المسؤول قانوناً ونظريَّاً وأخلاقيَّاً عن حماية مواطنيه ولكنه فشل كعادته. إذن، الذي يتحمَّل المسؤوليَّة الشخصيَّة لهذه المذبحة التاريخيَّة في المنطقة هو القائد العام للقوات المسلَّحة الفريق أول/عبد الفتاح البرهان، ونائبه الفريق أول/شمس الدين كباشي إبراهيم شنتو ومساعديه الفريق أول/ياسر عبد الرحمن العطا والفريق أول/إبراهيم جابر إبراهيم. فشل المؤسَّسة العسكريَّة شجَّع قوات الدعم السريع وميليشياتها للتمادي في انتهاكاتها ضد المواطنين، لذا تكرَّرت الهجمات الوحشيَّة وسيتكرَّر ما حدث بالأمس في جبل الداير في أية بقعة من جبال النُّوبة، مثلما تم توثيقه في هبيلا والتكمة والدلنج والياواك وفي أماكن كثيرة، وما يسمى بالجيش يتفرَّج.
إنَّ احتلال أسفل جبل الداير والمناطق المجاورة له، يذكِّرنا بالتاريخ المؤلم، قديمه وحديثه، لما جرى في تلك المنطقة من الجبال إبَّان عهدي التركيَّة والمهديَّة في كردفان بصفة خاصة، وتعيد إلى ذاكرتنا ما فعله الاستعمار البريطاني-المصري ضد السكان العُزَّل المسالمين السلميين، إذ لجأت القوات الحكوميَّة آنذاك إلى جريمة الاستيلاء على موارد المياه، في محاولتها لإخماد الثورة، والقبض على قائدها الثائر المك/القديل، مما أجبر الأهالي إلى صعود قمة الجبل للاحتماء به. تلك أيامٌ خلت بمآسيها، والآن تأتي مؤامرة الثنائي: الدعم السريع وميليشياته القبليَّة والجيش بقيادة البرهان. قرائن الأحوال لهذه المؤامرة الثنائيَّة كثيرة. أحدثها زيارة الفريق أول/شمس الدين كباشي لما يسمى “متحرك الصياد” في تندلتي التي لا تبعد إلا ساعات قليلة من جبل الداير، لتقع المذبحة بواسطة حلفاء الجيش الذي وتنسحب قواته التي كانت ترابط في المنطقة جنوباً، حيث ثكناتها. فالسؤال الذي يفرض نفسه هو: أين هي جاهزية “متحرك الصياد” الذى اكتفى أفراده بالصراخ الداوي والتكبير والتهليل أمام قائدهم؟ أين الطيران الحربي الذي تأسَّد على وحصد أطفال مدرسة الهدرا قبل أسابيع قليلة مضت؟ الهدرا، لمن لا يعرفون موقعها الجغرافي، لا تبعد إلا بضعة أميال جنوب/غرب جبل الداير، ودقائق قليلة بالطائرة. كما تقع على مسافة كيلومترات قليلة في اتجاه جنوب/شرق الديبيبات، معقل قوات الدعم السريع، التي تتخذها قاعدة لانطلاق هجماتها على مناطق جبال النُّوبة. إذن، أليس من المنطق ومن العقلانيَّة أن يشن سلاح الجو للجيش السُّوداني غاراته على معقل قوات الدعم السريع وميليشياتها المتمركِّزة الآن تحت جبل الداير لفك الحصار عنه وتحرير المواطنين بدلاً أن يواجهوا مصيرهم المحتوم؟ بلى!
هذا هو “الجيش” الذي لا تحرِّكه معاناة شعبه، خاصة عندما يكونوا من اثنيًّة النُّوبة. المحيَّر أكثر أنَّ كثيراً من السُّودانيين يدافعون عن هذا “الجيش”، الذي أذاقهم الويل في أهلهم ولا يزال؛ ويستنفرون لمساندته لارتكاب مزيداً من الانتهاكات الجسيمة بالتنسيق والتزامن مع قوات الدعم السريع وميليشياتها، فهم بذلك سواسية في الجريمة. عليهما تقع المسؤوليَّة التضامنيَّة في إبادة النُّوبة في المنطقة وفي أي مكان آخر وبأية وسيلة. وبما أنَّ الحرب الدائرة أخذت منحنىً اثنيَّاً وعرقيَّاً عنصريَّاً، حرى بأبناء النُّوبة المجندين في المؤسسة العسكريَّة والأجهزة الأمنيَّة والنظاميَّة الأخرى، عليهم، مخالفة أوامر قادتهم سواء كانوا نوبة أو غيرهم. ينبغي عليهم الانحياز إلى أهليهم في هذا التوقيت الحرج كحل لهذه المأساة الإنسانيَّة وأية معاناة ناتجة من هذا الاحتلال. الحل، والربط والتعقيد بأيدي الجنود النُّوبة لا بيد أحد. في هذه الحرب تبيَّن الاصطفاف العرقي، إذ انحازت كل الاثنيات وبأعداد معتبرة إلى أهلها وتركت الجيش. إنَّ الذين لم يغادروا منهم، لا يزالون داخل الجيش أو الحكومة باعتراف الفريق أول/ياسر العطا. ماذا يفعلون؟ شغالين “طابور خامس”، والجواسيس، والعمالة، عملاً بالقول: “أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً”، وطبقوا المقولة: “أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب”. ومثل آخر يقول: “الدم أثقل من الدين ومن الماء”.
من هذا المنطلق لا يسعنا إلا توجيه نداء عاجل وهام لأبناء النُّوبة في الجيش، إلى الثورة ضد قادتهم وآمريهم بمخالفتهم ما داموا غافلين عما يحيق بأهلهم. حتماً لا نريد أن تتكرَّر أحداث هبيلا والتُكمة، والهدار والدلنج، والياواك والظليطاية وغيرها من المناطق. نعم، يجب على أبناء النوبة فى القوات النظاميَّة والجيش والامن وغيرها ان يتخذوا قرارات حاسمة تضعهم وتضع نضالاتهم فى الجانب الصحيح من التاريخ والذى يضمن لهم وأهل جبال النُّوبة مستقبلاً أفضل.. عليهم أن يقفوا إلى جانب مواطنين مناطقهم وأن لا ينتظروا القرارات الخاطئة والمتردِّدة التي تؤدى دوماً إلى كوارث إنسانيَّة حقيقيَّة؛ القرارات التي يتخذها قادة جيش لا يهمهم أمر شعبهم بل المصالح الشخصيَّة فقط. فهم يخضعون لمطامع خارجيَّة لا تراعى معاناة هذا الشعب. حقيقة، حان الوقت لكيلا ينظر أبناء جبال النُّوبة إلى أنفسهم كعسكريين مهنيين يطيعون الأوامر دون تفكير. فلم تعد في السُّودان دولة. والمؤسسة العسكرية نفسها منهارة وفاشلة تماماً بعد انتزاع الدعم السريع عدداً كبيراً من مقارها الرئيسيَّة وقواعدها وحامياتها دون مقاومة تذكر، وفي كثير من الأحيان الانسحاب غير التكتيكي. وبالفعل فشل الجيش في حماية المواطنين من الخرطوم إلى جبل الداير وما بعده، جنوباً وشرقاً وغرباً. والان ينبغي أن يفكر أبناء المنطقة بجدية في ألا يكونوا وقوداً رخيصاً ودائماً لهذه الحروب، وأن يستخدموا قوتهم إرادتهم بالطريقة الحكيمة والصحيحة التي تضمن بقاءهم أحياءً، وتحمى منطقة جبال النُّوبة وأهلها من السقوط الحر للدولة السُّودانيَّة. فرغم الاعتداءات المتكرِّرة على الجبال من قوات الدعم السريع، فلا تزال المنطقة هي الأكثر تماسكاً عسكريَّاً. عليه، يجب عليهم المحافظة هذه الوضعيَّة وتعزيزها بأخذ المواقف التي يتطلَّبها الواقع الراهن وعاجلاً.
هناك أسئلة صعبة، إجاباتها سهلة، ولكنها تحتاج فقط للإرادة الحرة الشجاعة وهي على شاكلة: إلى متى سيستمر النُّوبة في التنديد وشجب أفعال الآخرين ووصفها بالتفلُّت الأمني؟ إلى متى سيستمرون في تبادل التعازي بينهم وقراءة القرآن والانجيل وأداء الترانيم، لأنَّ فلاناً قد مات من أجل رفاهية أُناس آخرين! إلى متى سيستمر نساء النُّوبة في الترمل، وفي النواح، والتثكُّل بسبب فقد الابن، والضرب على الخدود ونثر الرماد على رؤوسهن لفقدهن عزيز لديهن: زوجاً أو أباً أو أخاً كان يعول، ويعتني ويرعى الأسرة؟
لماذا يموت الشباب النُّوبة في طرفي الصراع باسم الوطنيَّة وبحجة جلب الديمقراطيَّة. الوطنيَّة التي تجعل منهم مواطنين من الدرجة الثانية بحكم عرقهم ودينهم الذي ارتضوه! نقول هذا ونحن على يقين أنَّ هناك من لا يرضيه قولنا، ولكنه هو الحق من واقع السُّودان المستفز . الواقع الذي ثار عليه الرعيل الأول والثاني والثالث من أجل قضية عادلة عامة، ليست خاصة. فقد ثار القديل كما أشرنا، والميراوي، وعجبنا وكوبانقو؛ وانتفض خير الله، وبوش والزئبق، وثار علي عبد اللطيف، أبو السُّوداناويَّة. لم يهدأ بال الأب فيليب إلى أن انتقل من الدنيا وترك إرثاً عظيماً، وكذلك محمود حسيب ويوسف كوة مكي وصحبه، رحمهم الله جميعاً، واقتفى أثرهم عبد العزيز الحلو ورفاقه ومن سياتي من بعدهم. وسيسأل التاريخ أين مكانكم فيه؟ بالتأكيد هم في الجانب الصحيح والمشرق.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.