الموقع الرسمى يعيد نشر مقابلة الصحفى “نانى أوبت” إندى مع “القائد يوسف كوة مكى” بلندن (1-8)
ترجمة: الجاك محمود : SPLMN.NET
مقدمة المترجم:
أجرى هذا الحوار النادر و المهم الصحافى الهولندى نان أوپت إندى، مع القائد يوسف كوة مكى، فى مدينة لندن بين يومى 12 و13 فبراير من العام 2001، و ذلك أثناء تفاقم المرض الأخير للقائد يوسف كوة، الذى وافته المنية بعد أسابيع من هذا الحوار. تأتى أهمية الحوار من أنه آخر و أطول حوار أجراه القائد الراحل يوسف كوة، و كذلك لما ورد فى الحوار من حقائق كثيرة عن سيرته الذاتية و مسيرته النضالية الطويلة التى إمتدت لأكثر من أربعة عقود بحثا حرية و كرامة شعبه. هذه الحقائق ربما للمرة الأولى التى أفصح عنها القائد يوسف كوة مكى بصورة واضحة و مفصلة، كما أجاب بكل صراحة فى صلب الحوار عن أسباب و أسرار و مآلات الخلاف بينه و بين تلفون كوكو أبوجلحة. سبق و أن نشرنا النسخة الأصلية من الحوار باللغة الإنجليزية، لكن و لتعميم الفائدة رأينا ضرورة ترجمته و إعادة نشره.
الصحافى نانى أوبت إندى:
⭕#توفى القائد يوسف كوة، بمدينة نورويتش بإنجلترا بتاريخ31/03/2001. وافق يوسف كوة قبل فترة قصيرة من رحيله على إجراء مقابلة طويلة للغاية، و قد إستغرقت المقابلة يومين حتى تكتمل. تحدث يوسف كوة فى عدة جلسات، تراوحت مدة كل جلسة لنحو نصف ساعة – تحدث بصوت خافت و لكن بعقل و ذهنية متقدة لا تعرف التلعثم، تحدث عن حياته مرة أخرى، حكى عن النضال من أجل حقوق شعب النوبة، و أخيراً عن الصراع ضد مرض السرطان، فإلى مضابط الحوار:
س: السيد كوة، متى ولدت؟
⭕#حسناً، فى تلك الأيام لم يكن شعبنا يهتم بتاريخ ميلاد الأطفال، لكن والدتى قالت إننى ولدت عندما عاد والدى إلى المنزل من حرب تولشى فى العام 1945 و التى كانت آخر معركة بين البريطانيين و شعب النوبة، كان والدى ضابط صف خلال الحرب العالمية الثانية، لقد حارب فى أماكن كثيرة: فى أثيوبيا، و فى العلمين، و غيرهما.
س: و أين نشأت؟
* فى البداية كنا فى جبال النوبة، و لكن بعد مضى بعض الوقت قرر والدى الذهاب إلى مدينة مدنى فتبعته الأسرة إلى هناك، ثم بدأت حكومة السودان بعد الإستقلال تطلب من الجنود القدامى التبليغ لديها “العودة إلى وحداتهم و ثكناتهم،” كانت الحكومة فى حاجة إلى جنود لمحاربة التمرد فى الجنوب؛ أى حركة أنانيا الأولى، تم إغراء الكثيرين بالعودة إلى الجيش بعد تقديم الحكومة لوعود برواتب جيدة و بعض الإمتيازات بنهاية الخدمة، قرر والدى أيضاً الذهاب إلى الجيش، فيما عدت إلى جبال النوبة.
س: هل أثرت مهنة والدك كجندى على تصورك للوضع فى السودان؟
* لقد أثرت مهنة أبى عليَّ كثيراً عندما فهمت كيف كان يتم إستغلاله، لقد أُخِذَ أبى لمحاربة إخوانه فى الجنوب، لم يكن هذا عادلاً.
س: ماذا عن تعليمك؟
* ذهبت إلى أول مدرسة إبتدائية، فى منطقة ميرى، و جلسنا للإمتحان فى العام 1957. لقد أبليت حسنا، و لكن لم ينجح أحد من مدرستنا لأن المعلمين لم يعلمونا بشكل صحيح، أو كما ينبغى. على سبيل المثال، مدير المدرسة، كان من المفترض أن يعطينا دروساً فى الرياضيات، و لكن حينما يدخل التلاميذ الفصل، كان مدير المدرسة يأخذ كرسيه فقط و يجلس تحت شجرة فى الخارج، لقد كان مدير المدرسة من الشمال، و لم يكن يرى الرجل أى أهمية فى أن ينال أبناء النوبة قسطاً من التعليم.
س: لكن هل نجحت فى نهاية الأمر؟
⭕#ذهبت إلى والدى و الذى كان حينها فى مدينة ملكال بجنوب السودان، سافرت إلى كادقلى و من هناك إلى كاكا، ثم إلى ملكال، عندما وصلت إلى هناك، كانت كتيبة والدى على وشك أن تنقل إلى الشمال، و تحديدا إلى شرق السودان، فذهبت معه، و هناك أعدت العام الدراسى فى مدينة جبيت، و هذه المرة نجحت فى الإمتحان، لقد أمضيت عامين دراسيين فى مدرسة سنكات بمدينة كسلا ثم بقيت فى سنكات نفسها، بعد ذلك ذهبت إلى مدرسة الخرطوم الثانوية التجارية، يمكننى القول أننى كنت تلميذاً جيداً فى المدرسة المتوسطة، و حتى إننى كنت مسلماً جيداً، لكن عندما جئت إلى مدرسة الخرطوم الثانوية التجارية فى العام 1964، مررت ببعض الأحداث التى أثرت حقاً فى طريقة تفكيرى. فبعد الإنتفاضة ضد عبود كانت لدينا حكومة وطنية و كان هناك الكثير من النقاش داخل المجتمع، من القضايا التى قسمت السودانيين آنذاك كان حق المرأة فى التصويت، فى أحد تلك الأيام، طرح أحد المدرسين و الذى كان يدرسنا مادة التربية الإسلامية سؤالاً على الفصل: “حسناً، ما رأيكم فى حق المرأة فى التصويت؟” لقد شاركنا جميعاً، البعض إنحاز لحق المرأة فى التصويت، فيما وقف البعض ضد هذا الحق، و هكذا.
س: ماذا كان رأيك؟
⭕#بالتأكيد لقد كنت مع حق المرأة فى التصويت، نحن فى مجتمعات النوبة، لا نفكر فى المرأة على أنها أدنى مكانة من الرجل بأى شكل من الأشكال، و بعد إنتهاء النقاش طرح بعض الطلاب سؤالاً على المدرس: “…و أنت يا أستاذ، ما هى فكرتك؟” قال: “حقوق المرأة؟! لماذا يجب منحها أى حقوق؟! المرأة لا تعمل حتى فى منزلها أو فى مطبخها، فلديها أبناء النوبة من أجل القيام بهذه الأعمال” شعرتُ بالإحباط الشديد، فرميت الكتب فجأة و خرجت من الفصل، كان هذا هو الإنطباع الذى تشكل فينا كأبناء نوبة: لقد أثر هذا الشعور بالإستخفاف و التجاهل بكل تأكيد على مسيرتى السياسية.
بعد إجتياز إمتحانات الشهادة الثانوية لم أذهب إلى الجامعة؛ بدلاً من ذلك ذهبت إلى إقليم دارفور للعمل كمدرس، حيث عملت فى مدرسة متوسطة فى مدينة الضعين لمدة خمس سنوات، ثم سنة أو سنتين فى مدينة نيالا و التى فيها إجتزت الإمتحانات و قبلت فى جامعة الخرطوم – كلية الإقتصاد فى العام 1975.
س: كيف كانت تبدو الخرطوم فى ذلك الوقت؟
⭕#حسناً يا أخى،.. لا أعرف، كانت الخرطوم مدينة إعتيادية فى الشمال، مع التمييز الإعتيادى، فقد كان السودان كذلك: إذا كنت أسوداً، فسيتم معاملتك دائماً كعبد، فهذه كانت واحدة من المشاكل هناك. لكن أود التلميح إلى بعض النقاط الأخرى التى ألقت حينها بظلالها على تفكيرى السياسى فى ذلك الوقت. عندما تقدمت بطلب الإنضمام إلى جامعة الخرطوم كانت رغبتى دخول كلية الآداب لدراسة اللغات. لكن بدلاً عن ذلك، أخذنى الإقتراع إلى كلية الإقتصاد، لم أندم مطلقاً على ذلك. فقد فتحت دراسة السياسة و الأنثروبولوچيا عيناى على الحياة و الوضع السياسى، و ما إلى ذلك من الأشياء. ذات يوم، صادفت كتاباً كتبه جوليوس نيريرى، كان ذلك الكتاب بعنوان (دعونا نركض أثناء سيرهم) حيث كان يقول نيريرى، نحن الأفارقة يجب أن نركض بينما البيض يسيرون، يجب علينا الركض لأنهم متقدمون علينا كثيراً. لكن بالنسبة لى، كان أهم قضية تناولها الكتاب هو دور الأديان الأصيلة “كريم المعتقدات الإفريقية.”
مع الأحداث التى وقعت و أنا فى المرحلة الثانوية، و مع الحياة التى كنت أعيشها بصورة متدينة، لم أكن فى حالة توازن نفسى. على الرغم من أننى كنت أحس بأننى مسلم، إلا أننى كنت أشعر أيضاً أن هناك شيئاً ما يعتمل صدرى لكن لم أشعر بأى وعى بالذات. كنت على هذه الحالة حتى أمدنى نيريرى بإجابة، حيث قال: (لقد أصبحت مسيحياً عندما كنت فى الثانية عشرة من عمرى و أؤمن بالمسيحية) لكننى ما زلت أعتقد أننا كأفارقة لدينا طقوسنا الخاصة. و على سبيل المثال، حكى نيريرى كيف أن والده – الذى كان زعيم قبيلة، و بالطبع له العديد من الزوجات – أمره بالذهاب مع إحدى زوجاته لحضور جنازة أحد الأقارب، ذهب نيريرى معها، و عندما إنتهت الجنازة أرادوا العودة إلى المنزل. فى أفريقيا، إذا كان أقاربك جيدين، فسوف يعطونك شيئاً لتعود به إلى ديارك، – لذا أعطوا إبنتهم عنزة، و بالطبع كان على نيريرى أخذ العنزة معه و إقتيادها. عندما حاول جوليوس نيريرى جر العنزة، وجد واقع الأمر أن العنزة هى من تجره فعليا تجاهها.
كان نيريرى و العنزة يتبادلان سحب بعضهما البعض حتى رأهما أحد الأقارب. أخذ الرجل خصلات من شعر رأس نيريرى، و أخذ بعض الشعر من الماعز، و فركهم معاً ثم قال تعويذةً ما، و فى الحال ذهبت العنزة مباشرة إلى المنزل. فى الواقع، إيمان نيريرى بالتقاليد الأفريقية قد أراحنى نفسيا، لأننا لدينا الكجور فى جبال النوبة و الذى يقوم أحيانا ببعض الأفعال التى تشاهدها و لكنك لا تستطيع تفسيرها.
س: هل هناك حدث معين فى ذهنك؟
⭕#على سبيل المثال، عندما لا يكون هناك مطر يطلب الناس قدوم الكجور ليؤدى طقوس معينة تجلب المطر.
س: إذا أظهر لك الكتاب إمكانية الجمع بين الإسلام و التقاليد الأفريقية؟
⭕#ليس هذا فقط، لقد أراحنى حقاً و أعطانى شعوراً بأن كل الأديان هى نفس الشيء، سواء كان ذلك الدين هو الإسلام أو المسيحية أو اليهودية أو أياً كان ذلك الدين، فالشىء الوحيد المهم هو الإيمان و هذه واحدة من الأشياء التى أثرت فى شخصى. و بالطبع بدأنا نؤمن بالإشتراكية الأفريقية فى ذلك الوقت و هى غير قائمة على أساس الصراع الطبقى، و إنما على فكرة المجتمع الأفريقى التقليدى الذى يقدم لجميع أعضاءه.
يتبع،،،