-صك اللعنة-

د.احمد المعتز

================

رأى فلم المصير ليوسف شاهين النور في العام1997 و أثار جدلاً واسعاً وسط النقاد السينمائيين والكتاب والأدباء وكل أدلى بدلوه فالاسقاط السياسي على الواقع عبر بوابة الحدث التاريخي وضع المشاهد بين قطبي الرحى وهما دقة التوثيق لأحداث تاريخية والمتخيل داخل المعالجة السينمائية ومما أضفى المزيد من حالة التداخل والاضطراب في فهم العمل وتأويله استخدام اللغة الشعبية اليومية أو اللغة العامية المصرية وهو ما يفرض على المشاهد التفكير في الحاضر ويقصي العمل عن الالتزام الصارم بالجانب التوثيقي… الشخصية المحورية في الفلم هو المفكر الأندلسي ابن رشد الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي بقرطبة أدى دوره الفنان الراحل نور الشريف وإذا كان الحديث عن محنة الفيلسوف الأندلسي ابن رشد يقودنا إلى صراع المفكر و السلطة على مستوياتها الإجتماعية و الدينيه والسياسية، فإن تمزيق الراسخ والمستقر ومنازلته ندا لند وفكرة بفكرة مضادة له ثمن باهظ، ويذكر التاريخ إنه في كثير من الأحيان يكون الثمن هو التصفية الجسدية، ابن رشد وعلى عكس عادة الأنظمة اختار نظام الخليفه المنصور الموحدي أن يصفيه معنوياً عن طريق سجنه ونفيه وإحراق كتبه… ابن رشد الذي كان قاضي القضاة في قرطبة وعلى علاقة وثيقة بالقصر والسلطان نجح الفقهاء الأشاعرة وجماعات الإسلام السياسي في قلب الطاولة عليه بإشعال دعايه مؤداها أن كتبه تدعو إلى الكفر والزندقه وهي دعاوى قديمة متجددة بدأت منذ أن رفع شعار
(من تمنطق فقد تزندق)…
من قبل الفقيه ابن الصلاح الشهرزوري ثم تبناه ابن تيمية، إن الخطاب الديني الهادف إلى إقصاء الفلسفة كعلم والمفكرين كأداة ناقلة من عملية الإصلاح الاجتماعي والسياسي يقصد به السيطرة على مفاصل السلطة والثروة والحياة العامة وهو خطاب دنيوي بامتياز له القدرة على التشكل والتبدل براغماتي الممارسه يؤمن بالميكافيليه فكراً وهوى ونسيج نفسي شكل كل دعاته ومتبنيه عبر العصور ولنا في حادثة تكفير اسبينوزا على يد قوى الكهنوت اليهودي عبرة… يقول قرار لعنة اسبينوزا الذي أصدره السنهدربن اليهودي كما فعل من قبل مع السيد المسيح (بقرار الملائكة و حكم القديسين نحرم و نلعن و ننبذ و نصب دعاءنا على باروخ اسبينوزا و ليكن مغضوباً و ملعوناً نهاراً وليلاً وفي نومه و صبحه في ذهابه و إيابه وفي خروجه و دخوله و نرجو الله أن لا يشمله بعفوه ابداً وأن ينزل عليه غضب الله و سخطه دائماً و أن لا يتحدث معه أحد بكلمة أو يتصل به كتابه وأن لايقدم له أحد مساعدة أو معروفاً وأن لا يعيش معه أحد تحت سقف واحد وأن لا يقترب منه أحد مسافه أربع أذرع وأن لا يقرأ أحد شيئاً جرى به قلمه أو أملاه لسانه)… صدر هذا القرار في الوقت الذي كان فيه السل ينهش صدر سبينوزا ولقد تفادى سبينوزا إصدار كتابه عن الأخلاق فاعطاه لمالك البيت الذي كان يستأجره الذي نجح في إخفاء ليصدر بعد وفاة اسبينوزا بعيدا عن أعين العسعس… وقبل وفاة سبينوزا بنحو قرنين أستدعت الكنيسة الكاثوليكية في مدينة كونستاس على الحدود النمساوية السويسرية المصلح الديني التشيكي جان هوز واتهمته بالهرطقه والكفر بعد أن شن هجوماً قاسياً على الرهبان وأتهمهم بالفساد المالي و بيع صكوك الغفران، نجح جان هوس في الإفلات من عقوبة الكنيسة إلا أنه وقع في قبضة الملك سيجمونسبد بألمانيا الذي أعطاه الأمان ثم غدر، حكم عليه بالحرق حياً بتهمة الكفر والهرطقه… أبو الوليد ابن رشد الطبيب الفقيه و الفيلسوف صاحب المؤلفات الضخمة كتهافت التهافت و قاضي قضاة قرطبة تعرض لنفس الحملة بعد أن نجح رجال الدين في تثَوبر العامة عليه فطرد وابنه من جامع قرطبة قبل أن ينفى إلى قرية اللياسه نواحي مراكش َو هو شيخ في السبعين َوقد جاء في خطاب لعنه ما يلي (جاء في قرار لعن ابن رشد ما يلي:
( وقد كان في سالف الدهر قوم ، خاضوا في بحور الأوهام… فخلدوا في العالم صحفاً، مالها من خلاق، مسودة المعاني والأوراق… يوهمون أن العقل ميزانها، والحق برهانها… ونشأ منهم شياطين يخادعون الله والذين آمنوا… فكانوا أضر عليها من أهل الكتاب… وهؤلاء قصارى همهم الغمومة والتخييل، وبث عقاربهم في الآفاق… فاحذروا – وفقكم الله –
هذه الشرذمة حذركم من السموم السارية في الأبدان.
ومن عَثر له على كتاب من كتبهم؛ فجزاؤه النار التي بها يعذب أربابه، وإليها يكون مآل مؤلفه وقارئه…
والله تعالى يطهر من دنس الملحدين أصقاعكم،
ويكتب في صحف الأبرار تضافركم على الحق واجتماعكم، إنه منعم كريم)؟!.والطريف أن الكنيسة أصدرت أيضا بيان ذم لابن رشد فقد تأثر الفلاسفة الأوربيين بشروحاته لفلسفه أرسطو (توما الاكويني نموذجا) ونشأت مدرسه عرفت بالرشديه الارسطيه مما اثار حفيظة رجال الكنيسه فجاء على لسان برتراك(انه ذلك الكلب الدي هاجه غيظ ممقوت فأخذ ينبح على سيده ومولاه المسيح والديانه الكاثوليكية) …الملاحظ في كل المعارك الفكريه التي خاضها المفكرون والفلاسفه والمصلحون مع المؤسسات الدينية أن تلك المؤسسات كانت تستعين بالعامه للفتك بخصومها وهم أفراد ومرد ذلك يعود إلى رسَوخ الوعي الجمعي عند العامة وهو الوعي الذي ساهمت في تأسيسه تلك المؤسسات فهي من خلقت المتخيل الجمعي عن الثواب والعقاب والحياة بعد الموت وسناريوهات الخلود في النعيم أو الشقاء والحريق الأبدي واللمعضله الحقيقيه تتمثل في احتكار صوت الحقيقة وربط رضاها برضا الرب… نتج عن ذلك استبداد وعجرفه مردهما التحالف مع السلطة التي عادة ما تكون غاشمه وباطشه وقادرة على إصدار صكوك اللعنه وصكوك الغفران في آن واحد ، غير أن اغتيال المفكرين وتصفيتهم لا يمر بدون عقوبة فإما أن تغرق تلك الامه التي تغتال مفكريها في الظلام والدجل وأما إن يقود مهر الدم الذي بذله المفكر إلى ثورة تقتلع النظام القديم من جذوره…. في السودان قدم السودانيون العديد من التضحيات مهرا للحرية حتى بعد أن تطورت آلة البطش و الاغتيال في الديكتاتورية الثالثه 1989-1919….. ركزت تلك الترسانة الامنيه اللعينة للديكتاتوريه الثالثة على على قنص قادة اي حراك شعبي على الأخص من عرفوا بالنباهه والنبوغ على المستوى الأكاديمي أو من أظهروا قدرات قيادية في مجال العمل العام ولقد توجت تلك الترسانة أعمالها في الدكتاتورية الرابعه باغتيال بهاء و ود عكر…. القنص بالرصاص أو إصدار صكوك اللعنه… الأمر سواء.

========================================

* – المصادر :مصير ابن رشد… خالص جلبي… مجله إيلاف الإلكترونية سبتمبر 2007

** – هل يتكرر مصير ابن رشد؟.. رياض عصمت… موقع الحرة الإلكتروني… 19 أغسطس 2018

* – فلم المصير… محنة المثقف العربي بين الدين والسياسة… حكيم مرزوقي… صحيفة العرب 4 مايو 2019

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.