هل سيحقِّق معارضو الحركة الشعبيَّة من “أبناء النُّوبة” بالخارج ما لم يتحقَّق؟ (الحلقة الرابعة)

الدكتور قندول إبراهيم قندول   [email protected]

نستهل هذه الحلقة بالتعليق على كلام الأخ “ناصر جانو” الذي قال فيه: “لا يمكن أن نقبل الاستهبال السياسي، الذي تمارسه علي شعبنا” انتهى الاقتباس. كلمة “الاستهبال” هنا استخدمت عشوائيَّاً. لذا ينبغي تحليل معناها اللغوي والمدلول لنبيِّن أين يقف “ناصر جانو” منها. ففي المعجم العربي يُقال استهبل الشخص: يعني ادَّعى الجنون وتظاهر به أي فقد عقله! وفي اللغة الإنجليزيَّة، يشير معنى الكلمة إلى “فحص أو ملاحظة للعمليَّات العقليَّة والعاطفيَّة للفرد”، أي اختبار الحالة العقليَّة غير المستقرة له.  وعادة تتم هذه الملاحظة لفاقدي عقولهم أو الذين تسيطر عليهم العاطفة الشديدة وبالتالي على سلوكهم وتصرفاتهم.  وفي السياسة يختلف تشير المفردة إلى عدم الاستقرار على رأي حول ثوابت جوهريَّة وأهداف محدَّدة يضعها السياسي في برنامجه العام الكلي والسعي لتحقيقها، وبالتالي فهو يدور في حلقة فارغة بدون هدف. ما نخشاه أن يكون هذا هو حال “ناصر” كسياسي مستهبل كما يدل تصريحٌ له (سنأتي بعد حين).
عبد العزيز آدم الحلو رجل معروف بجديته وحزمه فيما يقوم به كما أثبتت تجاربه مع خطوب النضال. فالحركة الشعبيَّة تعرَّضت لهزات عنيفة كثيرة وكبيرة منذ تأسيسها عام ١٩٨٣م؛ ولكنها استطاعت اجتيازها بنجاح لحكمة قادتها ومنسوبيها ووقوف جماهيرها المخلصين معها ومن خلفها. يعتبر القائد عبد العزيز الحلو أحد الأركان الأساسيَّة في ذلك النجاح.  فقد وقف يقاوم بثبات في الميدان وكل إغراءات الوظيفة والمناصب التي وقع الكثيرون فريسة لها.  الأمر الذي دفع “ناصر جانو”، الإقرار بثلاث صفات للحلو هي: العظمة، والإلهام والإدراك بما يريده شعبه. جاء الإقرار فيما كتبه هو في جريدة الراكوبة تحت عنوان: “جمهورية النُّوبة (٤)”، بتاريخ ١١ أغسطس ٢٠١١م، إذ قال في تلك الشهادة:
“النجمة أو الهجمة كلمتان مليئتان بالثقة لا يدرك مغزاهما إلا العظماء لأنَّهم يدركون ماذا يريد شعبهم، عندما أقول إنَّ “عبد العزيز آدم الحلو” ملهم الشعب لم يفهمني الأعراب”. في هذا المقال سأشرح لهم مغزى “كلمتا النجمة أو الهجمة” ومن خلاله سيدركون عظمة هذا الرجل الملهم لشعب الهامش”. انتهى الاقتباس.
تأكيداً في “الاستهبال”، مضى “ناصر” في تسخيف الأعراب بأنَّهم لم يفهموا ما يقوله عن الحلو. مقارنة هذه الشهادة والسب والشتم اللذين ألحقهما “ناصر” يتضِّح بلا شك أنَّه هو الذي يمارس الاستهبال السياسي على شعب النُّوبة، وليس العكس. ومن الغرائب أنَّه (أي ناصر) لا يدرك أنَّه يفعل ذلك.  ولو أنَّ “ناصراً” ومجموعته التي دفعته تريَّثوا قليلاً وراجعوا سجل الحركة واستراتيجيتها في عقد التحالفات مع الأحزاب والأجسام المدنيَّة والمكونات المختلفة وتواريخها المرحليَّة، والقراءة المتأنيَّة بفهم، لضبطوا عواطفهم، ما شمت الأعداء لحال الحركة الشعبيَّة التي يدَّعون الانتماء لها.
الرجل الحصيف والفطن في عالم السياسة لا يميل إلى السب والشتم بل مقارعة الحجة بالحجة، ويترك مساحة مريحة بينه وبين خصمه ليتحرَّك فيها لأنَّ يكمن في السياسة “فن الممكن”. فليس فيها صديقٌ دائم ولا عدوٌ دائم أو “نائم”، كما أظهر “ناصر ومجموعته” عداءهم السافر للحركة وكرههم وبغضهم للقائد عبد العزيز آدم الحلو. ومن الحكمة والحنكة والكياسة ألا يدمِّر الفرد الجسور التي عبر منها لعلَّه قد يحتاجها مرة ثانية. ولكن هيهات!
الأفراد لا محالة زائلون ولكن تبقى أفكارهم وأعمالهم الجليلة وأقوالهم المستنيرة وكلامهم الطيب. فعبد العزيز آدم الحلو عاش مع أهله النُّوبة وغيرهم من الإثنيات الأخرى مشاركاً إياهم السراء بقلته، والضراء بكثرته والمحن فظاعتها، رغم ما يناصبه له بعض رفاق الأمس من كراهية لا مثيل لها إطلاقاً. لكنه لم ولن يكترث لذا قرَّر أن يمشي بينهم، يخالطهم ويشاركهم همومهم، فأحبوه حباً جماً، وبادلهم الحب أكثر. على الجانب الآخر، هجره وانفض من حوله بعض رفاقه وتركوه قائماً على القضية مع بعض المؤمنين بعدالتها. ثابتاً على مبادئ الحركة المعلنة مستهديَّاً بما جاء في المنفيستو والدستور. “الراجل دا ما مستهبل”. نقطة، سطر جديد!
فجأة انتقل “ناصر” في بيانه غير المتماسك ليكتب: “كفي قتل الرفاق بدم بارد وسجن الرفاق في الحفر”.  هذا اتهام مردود فيه ولا أساس له من الصحة، إذ هناك مجموعة من الأسئلة يجب الإجابة عنها قبل إطلاق مثل هذه الاتهامات، على شاكلة:  كيف ومتى؟ وأين هي؟ وغيرها من التساؤلات.  ثم السؤال الأكبر ما هي الجرائم التي ارتكبوها في حق الحركة الشعبيَّة كمؤسسة؟ يلقون تلك الفقاعات وهم: صمٌ، بكمٌ، عمينٌ عن كل الجرائم التي تمت في حق المواطنين الأبرياء خاصة النُّوبة بواسطة الحكومات المتعاقبة على حكم السُّودان؟  إنَّ تسويق قضية شعب النُّوبة العظيم بهذه الكيفية الرخيصة لا تجدي مع الوعي الجمعي الرأسي والأفقي للنُّوبة، خاصة، والمهمَّشين بصورة عامة.  فمن الأفضل البحث عن مواضيع أخرى، أو الرجوع إلى الطريق السوي، طريق الحركة الشعبيَّة، فذلك ليس مشيناً ولا عيباً. التاريخ العام يحدِّثنا عن مراجعات وتراجعات كبيرة وكثيرة في مواقف أفراد أو تنظيمات بعد انسلاخات من مؤسساتهم الرئيسيَّة، ربما عملاً وتحسباً للمقولة التي تجسِّد مكر الذئب: “الذئب” يأكل الشاة القصية”.  وعندما نقول هذا فلا يعني استجداء لمن قرَّر الذهاب عننا “لكم دينكم ولي دين” (الكافرون/٦)، و”لنا أعمالنا ولكم أعمالكم” (القصص/٥٥).
ما ورد في البيان أنَّ الحلو قام “(…) وتشريد القيادات الحقيقيَّة وإبعادهم من مواقع صنع القرار في الحركة الشعبيَّة”، مجرَّد فرية. الكل يعلم أنَّ أعضاء الحركة في كل بقاع الأرضي متطوعين بدون مرتبات نظير عملهم.  بمعنى أنَّهم قدَّموا أرواحهم ومالهم وكل ما يملكون من غالٍ ونفيس من أجل القضية لا يرجون مردوداً ماديَّاً.  هذه الحقيقة لا بد من توضيحها.  فالشخص المشرَّد هو من “لا بيت له ولا وظيفة، ويتجوَّل بدون هدف، ويقوم بأفعال غريبة، سائلاً الناس لكسب معيشته”. الحركة الشعبيَّة لا تملك شيئاً لتوظِّف وليس لها عقارات توزِّعها للناس، فلا يمكن أن تعطي من لا يستحق، لأنَّ فاقد الشيء لا يعطيه! فالذين انسلخوا قد يكونوا غير راضين بالخدمة المجانية، فهرعوا وهرولوا إلى حيث المنزل، والسيارة والمرتب وغيرها من المقابل.  فهؤلاء هم من نبذ “الإرادة الحرة”، وأبعدوا أنفسهم عن مواقع صنع القرارات. فأكثرهم الآن لا يستطيعون صنع قرارتهم في مواقعهم الحالية كما كانوا في السابق.  فهم، إذن، أنفسَهم يَظلِمون.  ومن عجائب الدنيا السبع +١، يأتي نفرٌ – نتساءل من أين – ليرمي عبد العزيز آدم الحلو بأغلظ التهم.
أغلب “القيادات الحقيقيَّة” المشرَّدة والمبعِدة؛ التي يتحدَّث عنها البيان، هي التي تنعم بنعيم الحياة أينما هي، ونسيت المسغبة التي كانت تعيشها، عكس رفاقهم في السابق.  وعندما نقول “أغلب”، نعنى هؤلاء مارسوا التهميش الوظيفي على شركائهم في الصنيعة!  إذن، أين هم من الذين لا يزالون يتمسكون بالجمرة في الوديان والكراكير، وتحت ظلال الرواكيب التي لا تقي من حر شمس الظهيرة ولا زمهرير البرد، ولا من مطر الخريف؟  التشريد والإبعاد اللذين تخشونهما وتحاجون بهما، أجدى أن تفرحوا بهما. فأهدافكم لا تتسق أو تتوافق مع الغالبية المهمَّشة.  فلا تخلطوا الأوراق للخداع لتعتدوا على الآخرين بالاستهبال السياسي وغيره، حتى لا يحق عليكم قوله تعالى: “وإنَّ كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض” (ص/٢٤). …. نواصل

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.