من سلسلة أعرف هويتك (٣)

الدكتور عمر مصطفى شركيان

 

كما وعدناكم ها أنذا ننشر لكم القصيدة الثانية للرفيق الثوري جميل مكي عبده، وهي تلك التي لا تقل ثورية في عنفوانها وكلماتها عن القصيدة السابقة. ثم إنها لهي القصيدة التي تحتوي على ٣١ بيتا. جاءت القصيدة اللامية هديرا كهدير موج البحر يرخي سدوله، وقد حملت العنوان “تحية ثورية “. إذ لم تكن لاميتها مثلما جاءت لامية أبي فراس الحمداني “وفي قلبه شغل عن اللوم شاغل”، ولا لامية كعب بن زهير بن أبي سلمى الأشهر في “بانت سعاد فقلبي اليوم متبول/ متيم أثرها لم يفد مكبول”، ولا لامية الشنفرى من البحر الطويل، وهو الذي قال فيها “أقيموا بني أمي صدور مطيكم/ فإني إلى قوم سواكم أميل”، ولا كما جاءت لامية خلدون جاويد، التي افتتحها بالبيت التالي: “أنا بالحكومة والسياسة جاهل/ عما يدور من المكائد غافل”، ثم كذلك لم تكن لامية جميل مكي عبده كما جاء في تقصيد شاعر عربي آخر:
بلوت الناس قرنا بعد قرن/ فلم أر غير ختال وقال
ولم أر في الخطوب أشد وقعا/ وأصعب من معاداة الرجال
وذقت مرارة الأشياء طرا/ فما شيء أمر من السؤال
إذا، يا ترى أية لامية كتب بها الرفيق جميل مكي عبده قصيدته المحملة بالتحايا الثورية، والمشغوفة بالحرية، إذا جاز لنا التسال؟ أهي لامية اسمه الجميل، أم غيرها، أم هي ذاتها، وأضاف إليها لاميات أخرى؟ لعل لامية رفيقنا جميل مكي عبده جاءت منبثقة من اللامية التي تجسد نضال أهالي جبال النوبة الأفاضل، ونساءهم البواسل، وتحكي عن أدوات الدفاع عن الجبال، والقيم النفسية للمورال، ومقاصد المنال، والدم السال، وقناديل شمعات المستقبل المأمول، وهكذا من العبارات التي تصف شموخ جبال النوبة، وصناديدها من الأبناء، وبواسلها من النساء. وإذا كان لسوانا حكامات محرضات القتلة الفجرة إلى الشر، فلنا في جبال النوبة شواعر مغنيات يحثن الناس إلى الخير.
يا ترى هل نظر رفيقنا نظرة إلى النجوم، فقال ما قال، وتنبأ بنكبة الخرطوم، كما جاءت الإشارة إلى ذلك في بيت من أبيات قصيدته أدناه!
مهما يكن من شأن، فبرغم من أن الإنسان قد لا يعلم بأي أرض يموت، إلا أن رفيقنا جميل مكي عبده كان قد تمنى أن يموت عزيزا في وطنه، وكان هذا ما جرى له حين سقط صريعا في الأرض المحررة من هجوم جيش الخرطوم الغشوم. إنا نتوسل إلى الله الرحمن الرحيم الغفار أن يرحم الرفيق جميل مكي عبده الرحمة الواسعة، وأن يغفر له الغفران العظيم، وأن يسكنه فسيح الجنان، خالدا مخلدا فيها.
أما بعد، دعنا ندلف إلى أبيات القصيدة:

أهديك تحية ثورية/ ثورية لأبطال
لأهلي وشعبي/ في وطني الجبال
تحية مقرونة بالبارود/ والكلاشنيكوف قال
انحن أولادك قابضين الزناد/ في أدنسا عرين الأبطال
يا يمة قولي للشاردين أنحن/ وراك مورال فوق مورال
وقول لناس الخرطوم يا/ المكابر أهو دا اليوم لا محال
في أرضي وبكرامتي/ وحريتي شرف الرجال
يا زنوبة بت كاكا مقامكن/ زي حمرة بت كمال
وقول للجلابة الما عارفين/ أسود قمم الجبال
بالموقع والدبابة والكلاشنيكوف/ يكون تحريرنا منال
زي كل شعوب العالم/ من ناميبيا لسنغال

أهديك تحية ثورية/ لأهلي في وطني الجبال
بلاد جدودي وأولادي/ من نمولي لحلفا شمال
لو قلت الحرب تشهد بطولات/ كرري ومؤتمر كاودا الشلال
لو قلت السلام أنحن/ أهل السلام عديل في الحال
مكتوبة ومسموعة بالتلفاز/ ومقروءة في النفير جورنال
يا جلابة يا خونة اللئام/ نوبة اليوم ما قبال
كل التفاوض أديس أبابا/ وأبوجا ومشاكوس جال
يالمرهون بالأقاليم/ جنوب والباقي شمال
تقرير مصيرنا منو بقول/ غير فم ماسورة والحبر السال

أهديك تحية ثورية/ لأهلي في وطني
وللطيور المهاجرة عبر/ البحار من ود العم والخال
تكون رسالتي ليك/ لأخبار بدايتو سؤال
من القتل الأطفال غير/ الجلابة المرض العضال
منو الأجبر كوكو يكون/ في وطنو جوال
أكان المدرسة والتعليم ياهو/ دم الطلبة والأستاذ سال
منو الدمر ومنو الشرد/ غير المستعمر العربي الهزيل
صبرا يكون المدفع والرشاش/ للحرية والدرب قنديل
أكرر أقول لنوبة بت كاكا/ قشي الدمعة بالمنديل
ما دام أخوك دفع كلاشنيكوف/ للتحرير عديل
أو أموت عزيز في وطني/ ما دام كومرد جون للسلاح موال

٣٠ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٢م

من نافلة القول نستطيع أن نقول إن الرفيق الشهيد جميل مكي عبده كان قد كتب القصيدة إياها في لحظة من لحظات وسن، حيث أغسلت عنه أحزانه، وحملته راجعا إلى عيون وطنه؛ أو كما قال محمد المفتاح الفيتوري (١٩٣٦-٢٠١٥م)، شاعر إفريقيا الأعظم هو الآخر، وأخرجها الموسيقار محمد وردي (١٩٣٢-٢٠١٢م) لحنا عذبا، وأذاعها في الناس غناء طروبا:
لو لحظة من وسن
تغسل عني حزني
تحملني ترجعني
إلى عيون وطني

بريطانيا، الثلاثاء، الموافق ٢١ تشرين الثاني (أكتوبر ) ٢٠٢٣م

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.