دكتور عمر القراي يفحم لجنة الحكماء
د. عمر القراي
( حكماء) .. بزعمهم !!
(وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)
صدق الله العظيم
أذاع منبر “سونا”، وهو جهة حكومية رسمية، في بث مباشر مشترك مع التلفزيون القومي، ما سمي بالمبادرة الوطنية الشاملة : رؤية حكماء السودان لحل الأزمة وصناعة المستقبل السوداني. ولو كانت هذه الرؤية بالفعل محايدة، ولا تخدم غرض الانقلاب العسكري، لما وجدت الفرصة الإعلامية التي وجدتها.
أول ما تجدر الإشارة إليه، هو هذه الجرأة العجيبة، والإدعاء العريض، الذي يتمتع به القائمون على أمر هذه المبادرة. فقد سموا أنفسهم بأنفسهم (حكماء) السودان !! ولو كانوا بحق حكماء، لقدموا مبادرتهم كمواطنين، وحين يقبلها الشعب، ويشيد بهم، وتخرج البلد بفضلها من ازمتها، عند ذلك يسميهم الشعب الحكماء، ويقبل أن يكونوا هم المستشارين الذين على هدى معرفتهم تطبق رؤيتهم القيّمة. ولقد أعطوا أنفسهم الحق في جرأة لا يملكها العارفون، أن يقرروا بشأن حاضر ومستقبل السودان، مع أنهم لم يشاركوا في ثورته، ولم يدينوا قتلة الشباب، بل لم يترحم أي من المتحدثين الثلاثة على ارواح الشهداء، ولم يرد في حديثهم أي ادانه للانقلاب العسكري، الذي اهدر هذه الارواح الزكية البريئة.
والذي يقود هذه المبادرة هو البروفسير محمد حسين ابوصالح الخبير الاستراتيجي المعروف، فمن هو محمد حسين أبوصالح؟ لقد كان وزيراً للشؤون الاستراتيجية بولاية الخرطوم في عام 2017م، وهو بحكم موقعه قد كان عضواً في حزب المؤتمر الوطني، ثم عين مستشاراً للشؤون الاستراتيجية والمعلومات في عام 2018م، وكان محاضراً بأكاديمية الأمن العليا، وهو بذلك ينتسب بصورة من الصور، لجهاز الأمن في حكومة الاخوان المسلمين التي اطاحت بها ثورة ديسمبر المجيدة. ولقد انتشرت له مؤخراً في وسائل التواصل الاجتماعي، صورة يقف فيها على يمين السيدة وداد زوجة الرئيس المخلوع البشير، وهو من ضمن اللجنة التي اعطتها الدكتوراة. وقد كتب تحت الصورة “من يخون الشرف الأكاديمي لا يؤتمن على مصير الوطن”.
ولقد قدم بروفسير ابوصالح خلاصة رؤيته الاستراتيجية لاصلاح السودان، لحكومة البشير من داخل مؤسساتها الإدارية والأمنية. ومع ذلك آلت حكومة الاخوان المسلمين لمستوى غير مسبوق من الفشل والفساد، وتقتيل المواطنين، ونهب المال العام، أدى الى زوالها. فلماذا يريد اليوم للثوار أن يأخذوا برؤيته التي ثبت عدم جدواها بالتجربة ؟! فإذا قال إن رؤيته الاستراتيجية كانت جيدة، ولكن حكومة الاخوان المسلمين المبادة لم تعمل بها، بل جعلته مستشاراً لا يستشار، فلماذا لم يعلن ذلك ويقدم استقالته من الحكومة ومن الحزب ؟! فإذا كان خائراً وضعيفاً، ولا يستطيع أن يقف مثل هذا الموقف، فهل يريد أن ينظّر الآن ويقود الثوار، الذين يبذلون ارواحهم كل يوم، من أجل تحقيق مبادئهم ؟!
بدأ بروفسير محمد حديثه عن أن لديهم مؤسسة اسمها ” بيت الحكمة” تأسست قبل 7 سنوات، وهي مؤسسة اكاديمية وليست حزباً سياسياً. وقد كتبت دراسة عن حل مشكلة السودان ضمنت في 9 مجلدات وبلغت 5400 صفحة. واضح أن هذه المؤسسة كانت متصالحة مع حكومة البشير، بدليل أنها لم توقفها ولم تصادرها، كما فعلت مع كثير من مؤسسات المجتمع المدني. ثم أننا لم نقرأ لهذه المؤسسة العلمية أي شئ عن الإبادة الجماعية قام بها نظام البشير، ضد الشعب السوداني في دارفور، وجبال النوبة، والنيل الأزرق. فهل هذا أمر يمكن ان تتجاوزه أي دراسة جادة لحاضر السودان ومستقبله ؟!
ثم ذهب يحدثنا عن أن مشكلة السودان، لا يمكن أن يحلها غير حكماء السودان. وليؤكد لنا أهمية الحكماء، ذكر لنا ان نلسون مانديلا كان حكيماً!! والآباء المؤسسين لأمريكا كانوا حكماء!! والحقيقة أن هؤلاء كانوا ثواراً شجعاناً، خاضوا معارك التحرير، وضحوا من أجل أوطانهم، وسجنوا، وعذبوا، ولم يستكينوا للباطل، ولم يخضعوا لمن قتل شعبهم ونهب خيرات بلادهم. ثم أنهم لم يسموا أنفسهم (حكماء) وإنما اعتبرتهم شعوبهم كذلك، بعد أن حققوا احلامها.
تحتوي المبادرة كما ذكر بروفسير محمد على مجلس الحكماء، ودونه مجلس الخبراء، وفي القاعدة المجلس التنفيذي. ويخبرنا أن مجلس الحكماء يكون حاضنة وطنية، تضم شخصيات وطنية مقبولة من السودانيين، ويتولى هذا المجلس انفاذ وتشكيل السلطة الانتقالية، وحل الازمات بين الفرقاء، ومتابعة الآداء. وبعد حوالي دقيقتين من هذا الحديث، وحتى يشكك في أهلية لجان المقاومة، كما هو ديدن المكون العسكري قال(لا توجد في الساحة جهة مفوضة من الشعب أو من الثوار مافي زول يقدر يتكلم باسم الشعب السوداني أي حديث عن انفاذ ترتيبات أو اتفاقيات أو سياسات أو مصالح بغياب الشعب يبقى هذا هو تعدي على الإرادة السودانية وتحايل)!! فماذا يكون دور مجلس الحكماء إذاً ؟! وهل هو مجلس انتخبه الشعب السوداني؟ ومن الذي سماهم (حكماء) ؟!
تحدث بروفسير محمد أبو صالح حديثاً مطولاً عن التخطيط الاستراتيجي، وأهميته، وحلل مشكلتنا بأنها انعدام الرؤية الاستراتيجية منذ الاستقلال. وكيف أننا بجانب الرؤية الوطنية، نحتاج لمعرفة مسارنا الاستراتيجي، ورؤيتنا الاستراتيجية للشراكة الدولية والاقليمية. ومع أن حديثه من ناحية علمية صحيح إلا أنه استطال فيه، وكأنه يستعرض علمه ويلمع في نفسه. مع أنه لم يؤلف علم الاستراتيجية، ويمكن لطالب أن يفتح “الانترنت” ويقرأ أكثر وأعمق مما ذكر بروف محمد أبو صالح عن الدراسات الاستراتيجية، والتخطيط الاستراتيجي. فالغائب اليوم ليس المعلومة، وإنما الشخصية التي تنفذها في الواقع، كمبدأ يمكن أن تضحي من أجله. على أن البروفسير أورد كل هذا الحديث المطول، ليخلص إلى نتيجة خاطئة. وهي أننا الآن لا نحتاج إلى مواثيق، تتحدث عن شكل الحكم في 5 أو 6 صفحات. وإنما نحتاج الى دراسة موسعة للاستراتيجية، تحدد الرؤية الوطنية والتخطيط الاستراتيجي. والحق أننا نحتاج الى هذه المواثيق التي تحدد شكل الحكم. ونحتاج الى أن نتفق حول ميثاق واحد. فإذا اتفقنا توفرت الرؤية، وملكت الشرعية بإجماع الناس عليها. واذا قامت الوزارات والمفوضيات التي ذكرتها المواثيق، يمكن أن تكون لها مجالس استشارية، يعمل فيها خبراء استراتيجيون، يقدمون مثل رؤية البروفسير أبو صالح، لكنه لن يكن معهم، لأنه يمثل حزب المؤتمر الوطني، الذي حتى البرهان يستثنيه من المشاركة في العمل السياسي!!
إن مبادرة (الحكماء) تقوم على أعفاء المجرمين من المحاكمة على جرائمهم، وأيجاد مخرج لهم، إذ يحدثنا بروفسير محمد أن رؤيتهم الوطنية تقوم على “التوقف من النظر للماضي وترك الانتقامات والتصفيات والاقصاء” ويجب علينا ” ان نقلب الصفحة ونعترف أننا جميعاً أخطأنا” ما هذا الكذب والتدليس يا(حكماء) السوء ؟! هل أخطأ الشباب حين خرجوا ينادون بالحرية والعدالة والسلام، في مظاهرات سلمية، أم أخطأت لجنة البشير الأمنية التي ضربتهم بالرصاص، بل استعملت مع العزل المسالمين مدافع الدوشكا؟! هل أخطأت الشابات السودانيات اللاتي خرجن يهتفن بالسلمية، أم أخطأ المجرمون الذين تربصوا بهن في الظلام وقاموا باغتصابهن؟! ولا يستحي ممثل (الحكماء)، أن يتبنى خطاب حميدتي، فيخبرنا أننا سنتمزق، ونصبح مثل سوريا، إذا طالبنا بمعاقبة المجرمين. ويجب علينا أن نطبق العدالة الانتقالية، التي تجعلنا نسامح المجرمين، مثلما فعل الناس في جنوب افريقيا، وفي رواندا. مع أن الحقيقة هي أن العدالة الانتقالية، تحتوي على المحاكمات والعقوبات ولا تعني بأي حال الافلات من العقاب.
ولأن المجلس العسكري يرفض تسليم السلطة للمدنيين، ويقول أنه سيسلمها الى حكومة منتخبة، ولهذا يركز على أن تتم الانتخابات في الفترة المتبقية، التي لا تزيد على عام وشهور، بعجلة دون الاعداد اللازم لها، حتى يسلمها للاخوان المسليمن الذين سيخضونها باسم جديد ، فإن مبادرة (الحكماء) تدعم هذا الاتجاه. فهي تحدثنا أن كل ما ذكرته من اصلاحات، ورؤية استراتيجية، يمكن أن تتم في هذه المدة القصيرة، ويجب أن نستعد للانتخابات، دون القيام بأي تغيير اساسي، في المتبقي من الفترة الانتقالية. فيحدثنا البروفسير بأنه في ظل الفراغ الدستوري الحالي، لا يمكن للحكومة الانتقالية أن تجري تغييرات اساسية. ولا يمكنها أن تقوم بهيكلة الجيش، ما لم يكن هناك برلمان منتخب، لأن ذلك يعد تحايل وتجاوز للديمقراطية. يجب أولاً حسب رأيه، أن تتم الانتخابات وبعد ذلك يمكن أن يقرر البرلمان ما يشاء. هذا مع أن الشرعية الثورية قد اسقط نظام البشير، واقامت حكومة بديلة عنها، فما الذي يمنع نفس الشرعية التي تعبر عنها ثورة الشارع الآن، أن تستكمل بناء كافة التغييرات الأساسية، للفترة الانتقالية، بل واقتراح فترة زمنية جديدة، كافية لـتأمين هذا التغيير، على اساس أن المكون العسكري والفلول قد عطلوا الفترة الانتقالية السابقة ومنعوها التغيير.
طرحت مبادرة الحكماء الشراكة بين المدنيين والعسكريين لإدارة الحكومة، مع تغيير ممثلي الطرفين. واختيار مجلس سيادة جديد مكون من 11 عضو اغلبيته من المدنيين الممثلين للاقاليم المختلفة. على أن يكون رئيس المجلس مدني بخلفية عسكرية، واقترحوا عسكري بالمعاش. كما أن البرلمان يكون ثلثه من مناضلي الشارع أي لجان المقاومة، وثلثه من مناضلي الفكر، وقصد بهم تجمعات المهنيين، وثلثه من المناضلين السياسيين والعسكريين. وتكون الحكومة مكونة من كفاءات مستقلة. ولا يخفى على أحد أن هذا هو طرح المجلس العسكري، فهو يريد أن يستمر في الشراكة في الحكم، وأن يكون له ممثلين في البرلمان، مثله مثل لجان المقاومة. وأن يكون له رئاسة مجلس السيادة بصورة خفيه، دبرها له هؤلاء (الحكماء)، الذين لم يخبرونا من الذي يحدد المناضلين السياسيين، ولماذا يعتبر المهنيون مناضلي الفكر، ولا يعتبر اعضاء لجان المقاومة كذلك ؟ إن هؤلاء (الحكماء) بزعمهم يسعون لشرعنة الانقلاب، وتجاوز مطالب الثوار، واخضاع ارادة الشعب لمخاوف ومطامع العسكر. ثم بعد كل ذلك يسمون أنفسهم (حكماء) !!
إن القائمة التي قرأها علينا بروفسير محمد حسين أبو صالح، وقال أن هؤلاء هم حكماء السودان، ليسوا حكماء!! لأن الحكمة هي وضع الأشياء في موضعها الصحيح. ومن هؤلاء من وضعوا أنفسهم تحت تصرف النظام البائد، ومعظمهم صمت عن فساده وجرائمه، فهم بعيدون عن الحكمة. ووضع الأشياء في موضعها يقتضي هنا أن نعتبر الفريق البرهان وحميدتي، ومجلسهم العسكري، قتلة ومجرمين، لأن هذا هو وضعهم الحقيقي. وأن نعتبر الثوار هم من يستحق أن يحكم السودان بعد الثورة، وكل من له وطنيه يجب أن يكون مساعداً لهم، لا بديلاً عنهم. هذا هو الحق وما بعد الحق إلا الضلال.
29 يناير 2022م
عين الحق