“تس سليلة دبرفيل” لتوماس هاردي: فتاة ريفيَّة في تعاسة (5 من 9)

الدكتور عمر مصطفى شركيان [email protected]

 

 

على أيَّة حال، إذ يذهب العريس والعروس إلى البيت الذي استأجراه في مزرعة في ويلبردج لقضاء شهر العسل، وينتظران جوناثان كيل ليحضر لهما أمتعتهما؛ وإذ الانتظار يطول في أشدَّ ما تكون الإطالة، وأخيراً يصل جوناثان ويعتذر عن التأخير؛ وإذا هو يخبرهما بأنَّ ريتي بريدل حاولت أن تنتحر غرقاً، ومريان تعاطت الخمر عمداً حتى أمست ثملة، ولم تكد تعي ماذا هي فاعلة، برغم من أنَّها لم يكن يُعرف عنها تعاطي المشروبات الكحوليَّة من قبل إلا المزر (شراب من نوع الجعة). أما إزابيل فأمست قعود بيت، وهي بالكاد لا تدري من أمر نفسها شيئاً، ويبدو أنَّ عقلها قد ذهب وصارت ملتاعة، وقد حدث هذا كله في الحين الذي كنا فيه نحزم أمتعتكما، وهذا ما أخَّرني، فلا تشمتا بي الأقدار!
وها هما الآن في البيت الذي سوف يقضيان فيه شهر العسل. وما هي إلا لحظات حتى صارحت تس بعلها بتاريخ ماضيها طالما ألحَّت له إلحاحاً، وأصرَّت عليه إصراراً على أن تفشي بما في ثنايا قلبها وعقلها من أسرار، وذلك برغم من وصيَّة والدتها بأن لا تبوح بتأريخها الطارف أو التليد، لأنَّه سوف يسبِّب لها أضراراً، والتي هي في غنى عنها بتاتاً. ومع ذلك، عصت أمَّها وفعلت ما أرادت، وكانت هذه الفعلة هي التي قصمت ظهر البعير. إذ أمسى أنجيل يستمع لها ويرقُّ السمع دون أن ترمش له عين، أو تصدُّ عن حديثها أذن. وما أن فرغت من سرد سيرتها عن تجربتها مع أليكس حتى خرج أنجيل من البيت، وأخذ يتمشَّى في ذلكم الليل الشتوي؛ وإذا هي تخرج وتتبعه بخطى حثيثة، وتلتحق به بعد برهة، دون أن يكلِّم أحدهما الآخر، ويمران فوق جسر، وتنتوي تس الانتحار غرقاً في النهر، ويزجرها أنجيل بألا تفعل ذلك ولا تنطق ببنت شفة من هذا الكلام أبداً؛ ثمَّ يعودان إلى البيت ويطلب أنجيل من تس أن تصعد إلى حجرتها وتهجع إلى النوم، والهجوع هو النوم المتقطع. أما هو فقد استفضل النوم على الأريكة في غرفة الجلوس. ومن ثمَّ طفق ينشد هجاءً من مزامير داؤود، ولسان حاله يقول:
تمهَّل، حين يغدو وجهك عارياً، وها هو الذي أحبَّك قد شرع يبغضك؛
وجهك سوف لا يغدو نزيهاً عند هبوط مصيرك.
لأنَّ حياتك ستسقط كورقة، ويقذفها المطر؛
وإنَّ غطاء رأسك سيصبح حزناً، والتاج سيصير ألماً.
ثمَّ يقضيان ثلاث ليالٍ حسوماً يتخلَّلها كثرٌ من العتاب والجدال اللازب في جو مكفهر، وفي هذا البيت المكتئب في فصل الشتاء ذي المطر المنهمر، وفي حياة غير مستقرِّة بطعام لم يكن يذوقا من طعمه شيئاً. وبعد هذه الأيَّام التعيسة يقرِّران أن يفترقان. وفي اليوم الموعود يستقلان مركبة مرَّت بهما إلى مزرعة كريك لوداعهم، وغادرا حتى انتهت بهما الرحلة على مشارف ديار تس، حيث دفع أنجيل أجرة النقل، واصطحب تسَّاً بعيداً عن سائق المركبة، وأعطاها مبلغاً من المال، وطلب منها ألا تأتي إليه، وألا تكتب إليه، إلا إذا كانت مريضة، فهو الذي سوف يبادر بالكتابة إليها، ويتَّصل بها إذا دعى الأمر، وودَّعها وأمر سائق المركبة أن يوصلها إلى أهلها. أما هو فانتظر قليلاً، وأخذ يرنو إلى المركبة وهي ماضية حتى توارت عن الأنظار، واختفت في الحُجب، ومن ثمَّ ذهب إلى أهله حزيناً كاسف البال. وصلت تس إلى ديارها، وتركت أمتعتها مع البوَّاب لحفظها، ودخلت ووجدت أمَّها مشغولة بغسل الملابس، واصطدمت الأم أن ترى ابنتها العروس دون العريس. وما أن حكت تس لأمِّها ما حدث، حتى حدث ما حدث، وانفجرت الأمُّ باكية صارخة في وجه ابنتها: “أيَّتها الغبيَّة.. أيَّتها الغبيَّة! ألم أقل لك لا تخبرين بعلك عن تأريخك!” إذ كانت حجة تس الوحيدة أنَّها لم تكد تقبل أن تعيش بروح مرتاحة دون أن تصارحه، لكنها لم تع العواقب التي أتت وخيمة وبيلة. وما أن جاء والدها، وعلم بالخبر المر حتى كاد ينفجر من الغيظ، وكيف أنَّه سيقابل أصحابه، وهو الذي ظلَّ يخبرهم بأنَّ ابنته قد تزوَّجت شاباً ذا حسبٍ ونسبٍ كريمين.
أما أنجيل فقد ذهب إلى أهله هو الآخر وفي نفسه حسرات، ووجد والدته التي اندهشت أيما اندهاش أن ترى ابنها العريس دون العروس. وبعد التسآل من والدتها أخبرها بأنَّ العروس قد ذهبت لأهلها لقضاء بعض الحوائج، وسوف يلتقي بها عما قريب. ثمَّ شرعت أم أنجيل تسأل ابنها عن أوصافها وشمائلها، وعن جمالها ومُثلها، وعن نقائها وفضائلها. ومن بعد طفقت تصفها في مخيَّلتها، وأنَّها بالكاد أمست تراها جليَّة، وأنَّها غرَّاء فرعاء مصقول عوارضها، ومستديرة نوعاً ما، وذات شفتين غائرتين كقوس قزح، ورموش وحواجب سوداوات، وشعر مفتول كحبل الفلك المشحون، وعيون ذات ألوان بنفسجيَّة وزرقاء وسوداء. ثمَّ إنَّها أمست تعيش في عزلة، ولم تر فتىً في العالم من قبل حتى رأتك، وأنت حبُّها الأوَّل.
وما كاد الأم تنتهي من حديثها ذي الشجون حتى يفجِّر أنجيل خبراً آخر لوالديه بأنَّه مهاجر إلى البرازيل، حيث أراضي الإمبراطوريَّة البرتغاليَّة الشاسعة، والتي يمكن الحصول عليها بثمنٍ بخس، وسوف لا يصطحب بعلته حاليَّاً على الأقل في عامه الأوَّل؛ وإذا الوالد الأنجليكاني (البروتستانتي) يقول لابنه وكيف يمكنك الاعتياش وسط هؤلاء السكان الكاثوليكيين؛ وإذا بأنجيل يرسل رسالة إلى تس ويقول لها إنَّه قد ذهب إلى شمال إنكلترا؛ ثمَّ إذا بتس تستغل هذه الرسالة كسانحة لمغادرة بيت أهلها، وتمنح والدتها 25 قرشاً، وتخرج وتغادر الديار.

وللرواية بقيَّة،،،

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.