السودان: معضلة العنف الممنهج والتطلع نحو فجرٍ جديد
شريف محمد عثمان
٥ مايو ٢٠٢٤ م
على مدى ثمانية وستين عاماً من عمر الاستقلال، كانت الحرب هي السمة الملازمة لكل حقب الحُكم الوطني، هذه مسألةٌ يعرفها الجميع، لكن ما يتناساه الجميع أن هذه الحروب كانت أيضاً بذات بشاعة الحرب الحالية، ونفذت فيها كل أنواع الجرائم ابتداءً بالقتل خارج القانون مروراً بالتمثيل بالجثث والقتل على أساس الهوية والموقف السياسي وإعدام الأسرى والاغتصاب والعنف الجنسي واستخدام المساعدات الإنسانية كسلاح حرب دوناً عن فرض الحصار على السودانيين والسودانيات وإنزال كل صنوف الانتهاكات التي لا يسع خيال من في قلبه ذرة من الإنسانية أن يحتمل فكرة أن هنالك بشراً – سوياً كان أم لا – يمكنه أن ينفذ كل هذه الجرائم.
إن الكارثة ليست في الجرائم والانتهاكات وحدها، فهي مدانة لا شك في ذلك من كل إنسان يحمل قيم الإنسانية السوية، لكن الكارثة تكمُن في أن كل هذه الجرائم كانت تتم تحت بصر وسمع وكل حواس المنظومة الأمنية، بل الأبشع من ذلك أنها كانت تتم بخطابات تعبئة تتم من القيادات السياسية والعسكرية وكانت تمثل إحدى أدوات التعبئة، ويعود الجنود والمقاتلون وأيديهم ملطخة بالدماء وهم فرحون بنصرهم البائس والسعادة تغمر وجوه قادتهم العسكريين والسياسيين.
إن الشواهد على هذه الجرائم والانتهاكات لا تحصى ولا تعد، ولن تكلف المرء إلا أن يجري عملية بحث في محركات البحث وسيجد من الخطب التي تحرض على القتل والتنكيل ما يشيب له الرأس، وسيجد من التقارير حول انتهاكات حقوق الإنسان والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب في السودان منذُ استقلاله ما يندى له الجبين.
إن الحقيقة الأكثر إيلاماً من كل هذه الجرائم الوحشية، أنهُ وطوال سنوات حروب الطويلة لم يحدث أن قدمت منظوماتنا الأمنية فرداً واحداً لمحاكمة بسبب ارتكابه جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، فالعنف في السودان عنفٌ ممنهج ترعاه منظومتنا الأمنية وتحتفي به يوماً بعد يوم، بل يُرقّى الجلاوزة فيه ليتنسموا المواقع القيادية، فلا عجب أن تتصل أنساق الممارسات الاجرامية بعد ذلك، لكن فإن ما ميز حرب الخامس عشر من أبريل عن سواها أنها جاءت في عصر لا يستحي فيه الجُناة من توثيق جرائمهم، وهو ما كشف لمن جهل جرائم هذه المنظومات العسكرية والامنية عوراتها التي حاولت أن تخصف عليها بالأكاذيب حتى تغطيها، لكن الجناة عجزوا عن ستر هذه الأكاذيب فنقلو بكل بشجاعة جرائمهم لكل العالم، محتفين بانتصاراتٍ زائفة، أي انتصار والقاتل والمقتول أبناء عم، أي انتصار والبلاد يتمزق نسيجها الاجتماعي وتتمزق وحدتها نتيجة لهذا العنف؟
إن ما شهدناه في غرب دارفور في الجنينة وأردمتا فضلاً عن حوادث قطع الرؤوس والسلخ وقتل الأسرى هو نسقٌ إجرامي متكرر لذات المنظومة ظل يتكرر على مدى عقود، فلا يمكن قراءة هذا العنف بمعزل عن حرب دارفور التي راح ضحيتها أكثر من ثلاثمئة ألف سوداني وسودانية وحرق القرى وحوادث الاغتصاب الجماعي، وقبلها في جنوب السودان من قتل لما يناهز الاثنين مليون ضحية والإبادات الجماعية وحوادث العنف في جبال النوبة والنيل الأزرق.
هذا التاريخ الدموي يكشف لنا أن أي حديث عن قداسة متوهمة لمنظومتنا الأمنية، وما تنتجه من مليشيات، هو محض تزييف لتاريخنا المليء بالانتهاكات بشتى أصنافها، هذه المنظومة الفاسدة بتاريخها الدموي البشع التي لم تجر أي مراجعات في تاريخها السيء الذكر حول قضايا حقوق الإنسان، فالحرب أيضاً لها قانون واتفاقات دولية تنظمها وتنظم حياة المدنيين/ات وحمايتهم/ن ومعاملة الأسرى إلى آخره، وللمفارقة المؤسفة فإن ما تم التوقيع عليه بين الجيش والدعم السريع في مايو من العام الماضي (إعلان جدة) كان بمثابة إعلان لتنظيم الحرب و حياة المدنيين/ات في الحرب وحفظ حقوقهم وحمايتهم استناداً على اتفاقية جنيف.
إن بشاعة حادثة الأمس يجب أن تقرأ مع تاريخ المنظومة العسكرية والأمنية في السودان ومنهجية ارتكاب الجرائم و الانتهاكات المنظمة ويجب أن تقرأ مع سياسيات منع وصول المساعدات الإنسانية والغذاء واستخدامها من الطرفين كسلاح في مواجهة المدنيين/ات وأيضاً مع قطع الاتصالات والإنترنت واستخدامها كسلاح في هذه الحرب اللعينة، إن الواجب علينا الآن أن ننظر إلى هذه الانتهاكات كحقيقة ماثلة يجب العمل على القضاء عليها من جذورها وهو الأمر الذي يتطلب أن يحشد السودانيون والسودانيات طاقتهم ضده ولا يمكن لذلك أن يحدث دون إيقاف هذه الحرب وأن يعمل الجميع على عزل خطابها ووقفها ومن ثم – وعبر ترتيبات سياسية ودستورية وامنية – العمل على إعادة بناء جيش وطني ملتزم بمعايير حقوق الإنسان وحماية المدنيين/ات ينأى عن السياسية والاقتصاد وينهي الوجود السياسي داخلهُ، وأن يعبر عن تنوع السودان، وفرادة الفسيفساء الوطنية، كما أن هذا الأمر يقترن مع ترتيبات العدالة الانتقالية الشاملة وأن يقدم مرتكبو الجرائم والمحرضين عليها في هذه الحرب وحروب الإنقاذ لمحاكمات تنهي هذه السلسلة المتصلة من الانتهاكات.
إن المنحدر الذي بلغناه هذا العام يمثل إعلان تهديدٍ لحياة الملايين من شعبنا هذا أولاً .. وثانياً عن أن الحرب الأهلية هي واقع نعيشه الآن وأن حركة السودانيين شمالًا وغربًا أصبح يحيط بها عديد المخاطر والتصنيف على أساس الهوية هو أمر تؤكده عديد من الشواهد من الاعتقال والتعذيب والقتل. أما ثالثة الأثافي، فهاهو الجوع الذي يهدد الملايين معلناً عن نفسه كمهدد أكبر في مواجهة السودانيين والسودانيات حيث يستخدم الطرفان قضية إيصال المساعدات الإنسانية والإمداد بالغذاء أسلحة في مواجهة شعبنا، إن الواجب الآن هو حث الطرفين على الوصول إلى اتفاق ينظم عملية إيصال المساعدات الإنسانية وتنظيم أعمال منظمات الإغاثة وحمايتها وتوفير كل الوسائل والأدوات اللازمة من ممرات إنسانية ونقاط إيصال المساعدات الإنسانية، إن عدم الوصول إلى هذا الاتفاق يمثل كارثة لم تشهد لها الإنسانية مثيل، كما يجب أن يصنف الطرف – الذي يعيق الوصول إلى هذا الاتفاق – كطرف إرهابي فاشي مرتكب لجرائم ضد الإنسانية ويجب إدانة هذا الفعل وتجريمه في الداخل والخارج.
ختاماً؛
في ظل هذه الظروف القاسية والتحديات الجسام التي تواجه بلادنا، يجب أن نقف جميعاً، يداً بيد لننبذ العنف والانقسام .. إن الوقت قد حان لنتحد في مواجهة الظلم والاستبداد أياً كان مصدرهُ، ونعمل معاً كُلنا – إلا فلول الظلام والردة وواجهاتهم الارهابية – لصياغة مستقبل يسوده السلام والعدالة والمساواة والحرية، كما أنه لا يمكننا أن نتجاهل الجرائم التي ارتكبت – أياً كان مصدرها – والتي ما زالت ترتكب، ولا يمكننا أن نسمح لها بأن تمر دون عقاب، يجب أن نسعى لتحقيق العدالة الانتقالية الشاملة ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، وأن نقطع عهداً نضمن بهِ عدم تكرار هذه الأفعال الشنيعة في المستقبل.
إن دماء الأبرياء التي سالت على أرض السودان لن تذهب هدراً، وستظل شاهدة على الحاجة الماسة للتغيير والإصلاح. يجب أن نعمل على إعادة بناء مؤسساتنا الوطنية بما يتماشى مع مبادئ حقوق الإنسان وكرامة الفرد، وأن نضع حداً للإفلات من العقاب. إن مسؤوليتنا تجاه الأجيال القادمة تحتم علينا أن نترك لهم وطناً يعمه الأمان والاستقرار، وطناً يفخرون بالانتماء إليه ويسهمون في رقيه وازدهاره.
رغم هذه الأحداث الدامية، والأوجاع العظيمة إلا أن هذه الحرب مصيرها المحتوم إلى نهاية، وسيظل عهدنا أن نجعل من السودان مثالاً يحتذى به في التسامح والتعايش السلمي، ولنثبت للعالم أننا شعب يعرف كيف يتجاوز محنته ويبني مستقبله بأيديه، شعب لا يقهره الظلم ولا تلين عزيمته أمام الصعاب .. إن الطريق أمامنا طويل وشاق، لكن بالإرادة والعزم والتضامن، سنتمكن من تجاوز كل العقبات ونحقق السلام والازدهار لبلادنا الحبيبة، ليشرق بعد ليل الوجع هذا فجرُ السودان الذي يسعُ الجميع.