البصيرة السياسية

فاروق عثمان

 

علي الأقل في العشر سنوات القادمة، لن يستطيع أي حزب سوداني منفرد ان يفوز بعشرين في المية من أصوات الناخبين ناهيك أن يكتسح باغلبية تؤهله للحكم منفردا. كل هذا لدواعي معلومة، فالاحزاب خرجت من معركة طويلة وقاسية لثلاث عقود من التفكيك الممنهج، والاضعاف والتغويص، والإنهاك المادي والتنظيمي وغيرها من أدوات مما جعلها تلج للفترة الانتقالية بضعف بائن فكريا وسياسيا وتنظيميا وكادريا. ولا يفوت علي المتابع حالة التشويه الممنهج التي مارستها الإنقاذ علي الاحزاب حتى بدت في العقل الجمعي انها مرداف للسوء والفساد والفشل، وهذا مما نراه من حملات رفض لها، حتى من مجاميع ثورية مع ان الاحزاب هي حجر الزاوية والرافعة الطبيعية لأي نظام ديمقراطي وهذا مما يستدعي عمل كؤود ودؤوب من هذه الاحزاب لإزالة هذا الوعي السالب والملتبس تجاهها. كما أن الجيل الجديد ممن هم دون الثلاثين وفوق الثمانية عشر عام، ما عادت تستويهم شعارات الإسلام السياسي، او الطائفي، بل أن كثير منهم تجاوز حتي العلمانية كنظام حكم سياسي، الي اللاأدرية أو الإلحاد كملجأ وجودي لهم، وأيضا هذا لدواعي معروفة لا داعي لتفصيلها وتبيانها هنا، ومن المعلوم أن الماركسية بشقيها السلفي والحداثوي ما عادت تجذبهم كما كان حالها ستينات القرن الماضي أيام أوج إنتشارها وسطوتها.
كما أضحت مناطق النفوذ الطائفي في دارفور وكردفان أو الشرق وحتي الشمال النيلي، وبموجات الوعي والتغيير الإدراكي وسلطة الثورة التقنية والتواصلية، تلجأ وتتمترس خلف خطابات الحركات المطلبية التي تلبي أشواقها وهمومها وتخاطب مشاكلها التاريخية والديموغرافية، والتي فشلت النخب الطائفية واليسارية والإسلاموية في حلها منذ الاستقلال وإلي الآن ، فتحررت من عباءات الطائفية والإسلام السياسي واليسار النستالجوي، وركلت الانتماء بالوراثة أو وفق الأنماط البطرياركية.
عليه الإصطراع المفتعل أو الغير ناضج والمراهق من بعض أعضاء مكونات ما يمكن أن يكون قوي حديثة، علمانية ديمقراطية تشكل لبنة لحكم ديمقراطي علماني مستدام، وتشمل علمانيي حركات الكفاح المسلح مع أحزاب الوسط ذات البعد العلماني الديمقراطي، هذا الإصطراع والضرب المتبادل في فترة انتقالية هشة هو نوع من قصور الرؤي الإستراتيجية، وعمي بصيرة للمستقبل السياسي.
إن أي تضعضع أو انهيار لهذه القوي، يفتح المجال الي تحالف الإسلامويين، والعسكر الطامحين للحكم مع قليلي الوعي من العامة، ممن تنطلي عليهم خطابات الحشد الديني او التخويف العنصري( من ان قادة الكفاح هم محض حاقدين وعنصريين) ، وهؤلاء العامة كثر والذين يتوهمون أن العلمانية تعني هدم الدين والحرب عليه، بالإضافة الي سماسرة الدين والنفعيين ممن يجيدون تسويق هذا الخطاب من أجل بقاء مصالحهم وديمومتها، بمقدور هذا التحالف النفعي من بقايا الإنقاذ والنفعيين وفي ظل تباعد المعادل الجماهيري الموضوعي له، ان يكون كتلة جماهيرية وتحالفية بمقدورها الحكم بكل يسر مستقبلا، او أن يعيق ويفشل آنيا الفترة الانتقالية حتي يبرهن للعامة أن ثورة من يدعون للمدنية فشلت وانهم هم الأصلح بالحكم .
علي كل الاحزاب والتنظيمات التي تتكئ فكريا علي مبدأ فصل الدين عن السياسة وتؤمن يقينا بالديمقراطية وقيمها اللازمة من حرية وسلام وعدالة، أن تعلم علما يقينيا أن تحالفا صادقا وواعيا بعيدا عن الذاتية والكسب الآني العجول ، يضمها، و يضع رؤية للحل الجذري، وفق دولة علمانية ديمقراطية فدرالية لا مركزية، هو السبيل الوحيد لحلحلة هذا الحرج الوجودي للدولة السودانية والإحتقان السياسي للتنظيمات، وهو الباب الوحيد الذي من الممكن أن يعبر من خلاله الوطن الي براحات التقدم والبقاء موحدا، أو لوصولها للحكم كحزمة تحالفية، وأن تشاكسها وأختلافها هو نوع من إطلاق النار علي ذاتها، وقصور في التبصر السياسي الإستراتيجي والموضوعي.
وأن دعوات المصالحة مع الأسلاميين وعدم عزلهم من بعض القوي المتبنية لفصل الدين عن السياسة، أولي بيها بناء تنظيماتهم الضعيفة، ومراجعة مرتكزاتهم الفكرية ومصالحة الأقرب إليهم فكرا ورؤي وبرامج.
وان اختلافات وتنافر بعضها الماثل، هو نوع من توهمات الحواس الإرتيابية لبعض أعضائها المنجرفين في عمق تاريخ الحمية الطلابية وتشاكساتها اللامبررة، والتي غذاها النظام السابق ، وأشعل أوراها وما زال، لوعيه الصمدي، أن تحالفا حقيقيا وصادقا لهذه القوي هو الخطر الوحيد والداهم عليه وعلي مشروعه وعلي بقائه، و تجديد دورة حياته، في لولب التأريخ.

فاروق عثمان
28 اكتوبر 2019

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.