حوار الكباشى تحت المجهر
✍🏿 بقلم: الجاك محمود أحمد الجاك
من الطبيعى أن يقرأ أى متابع حصيف حوار الجنرال شمس الدين الكباشى الذى أجرته معه صحيفة اليوم التالى بحر الأسبوع الماضى فى سياق التطور الدرامى فى المشهد السياسى السودانى و تعقيدات الأوضاع السياسية و الإقتصادية و الأمنية فى البلاد و التى باتت مفتوحة على كل الإحتمالات. و لا شك أن الحوار محل الكتابة له مغزاه و دلالته من حيث المحتوى و التوقيت. و طبيعى أن نتساءل: لماذا أطل الكباشى عبر صحيفة اليوم التالى تحديدا و نعلم أنها صحيفة محسوبة على النظام؟! ثم لماذا ظل يتغيب الكباشى من جلسات ورشة التفاوض غير الرسمى ليظهر فى الجلسة الختامية ليرفض ما وافق عليه أعضاء وفده؟!
تحدث الجنرال الكباشى و كعهده فى حواره مع صحيفة اليوم التالى بروح و نبرة كيزانية عالية و كان أسلوبه موغل فى العجرفة و التهكم و الغرور و تضخيم الذات لدرجة الإسترسال فى مغالطة الوثيقة الدستورية زاعما أنه من كتبها حرف حرف، ما يوحى أنه مدفوع و مسنود من جهة نافذة رسمت له مهمة لعب دور الكمبارس من خلال هذا الحوار. إتضحت عجلة و تهكم الجنرال من خلال تنمره على دولة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك لدرجة وصفه بالخارج على مؤسسات الدولة فى حين أن حمدوك دستوريا و كرئيس للوزراء يعتبر الرجل التنفيذى الأول فى الدولة و يتعين إحترامه بغض النظر عن حجم الخلاف معه. شخصيا هذا التنمر لا يمكننى قراءته إلا كمقدمة لخطوة معدة مسبقا أو جارى الإعداد لها.
ذهب الكباشى أبعد من ذلك ليصف إتفاق ٣ سبتمبر الذى تم توقيعه فى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا بين رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك و القائد عبدالعزيز آدم الحلو رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال ب (عطاء من لا يملك لمن لا يستحق). و بالطبع هذا الكلام لابد من الوقوف عنده طويلا بوصفه كلام غير مسئول و يتسم بالتطاول مع الإفتقار للكياسة و النضج السياسى لأنه ينطوى على إحتقار و إستفزاز شديد للملايين من الذين يمثلهم القائد عبدالعزيز الحلو و ظل يناضل من أجل إنتزاع حقوقهم و يكافح لتحقيق تطلعاتهم المشروعة، كما فيه إستفزاز غير لائق للشارع الذى جاء حمدوك رئيسا لوزراء حكومة الثورة. فمن هو الكباشى، و بأى حق يتطاول علينا الكباشى ليحدد من لا يملك و من لا يستحق فى هذا البلد؟! بإختصار، مثل هذا الكلام لا ينبغى أن يخرج من شخص يفترض أن يتحدث كرجل دولة و مفاوض محنك مناط به العمل على بناء الثقة بين الأطراف المتفاوضة معه بدلا من التفوه بكل ما من شأنه هدم جسور الثقة و التشكيك فى إرادة و مصداقية المفاوض الحكومى. لقد أثبت الجنرال كباشى بهذا الكلام الطائش و المستفز أنه يفتقر القدرة على مخاطبة العنصر الأخلاقى لتطمين الثوار الذين يتفاوض معهم بأن لديهم قيمة سياسية محفزة لبناء الحد الأدنى من الثقة كشرط ضرورى لإستمرار و نجاح أى مفاوضات يراد لها أن تنتهى بتسوية تؤسس لشراكة سياسية معهم. يبدو أنه قد فات عليه أنه يفاوض قوة رئيسية مختلفة فى وزنها على الأرض، و كذلك فى نهجها التفاوضى بكل المقاييس و المعايير. بينما تتفاوض حكومته بوفد يفتقر إلى الإنسجام، و ليس أدل على ذلك من أن يتمتع شخص واحد مثل الكباشى فى وفد الحكومة بحق الفيتو لدرجة إلغاء ما وافق عليه أعضاء وفده و يقوم بإخراسهم جميعا.
فى تقديرى حوار الكباشى لم يكن مجرد تاكتك أو مناورة سياسية كما يرى البعض، خاصة إذا قرأناه مع الوقائع على الأرض و تطورات المشهد و ما يجرى فى الظلام من تكتل لقوى الهبوط الناعم و قوى الثورة المضادة فهناك إصطفاف و إعادة فرز سياسى مدعوم من بعض الدول لإجهاض الثورة و قطع الطريق أمام التغيير الجذرى. ثم أن الكباشى قد كشف عن المستور من خلال تأكيده أن مؤسسات الدولة ترفض فصل الدين عن الدولة، ما يعنى بوضوح أن الدولة العميقة ما زالت موجودة و لم يطالها أى تغيير حقيقى (يعنى البشير كرئيس سقط لكن ركب خازوق فى البلد) و بالطبع الخازوق هو الدولة العميقة و سدنتها الذين ما تزال لهم اليد الطولى فى التحكم و السيطرة على مفاصل الدولة و تصريف أمورها بما يضمن لهم الهيمنة الكاملة و الإستمرار فى تعريبها و أسلمتها بالقوة شاء من شاء، و بى من أبى. و هنا يلعب الكباشى دور الحرس الآيديولوجى المخلص و المدافع الشرس عن المشروع الإسلاموعروبى، بل يتقمص دور الحامى لمصالح الرأسمالية الطفيلية المتأسلمة و هذا دور مرسوم ليلعبه أبناء الهامش الذين نجح المركز فى إستيعابهم و أدلجتهم و إعادة إنتاجهم فصاروا وكلاء أخطر من المركز نفسه. و مما يجدر ذكره أن الكباشى قد أكد على ذلك فى ذات الحوار عندما قال أن قراره برفض نتائج الورشة لا يعبر عنه كشخص و إنما عن المؤسسة التى فوضته قائلا: (نعم رفضت التوقيع و سأرفض مرة أخرى حماية لقرار المؤسسة)، إذا على ماذا يريد أن يتفاوض الكباشى و الحركة الشعبية غير مستعدة لفتح إتفاق أديس و إعادة مناقشته؟ و فى تناقض و تبسيط مخل يعرب الكباشى عن تفاؤله بالوصول إلى سلام مع الحركة الشعبية فقط إنطلاقا من الروح الجديدة لدى قيادات الحركة الشعبية و إستنادا على مصافحتهم لبعض أعضاء و فد الحركة. ترى لماذا يختزل الكباشى حل المشكلة فى أشخاص و يعتقد أن المشكلة ستنتهى دون مخاطبة و معالجتها جذريا لمجرد إبداء الروح الإيجابية و المصافحة أو إلتقاط الصور؟!
أخيرا، نعتقد بإتفاق ٣ سبتمبر قدمت الحركة الشعبية تنازلا كبيرا أثبتت من خلاله جديتها فى تحقيق سلام عادل شامل و مستدام يمكن أن يحافظ على وحدة ما تبقى من البلاد. هذا الإتفاق شكل و ما زال يشكل فرصة أخيرة لحقن دماء السودانيين و إنقاذ ما يمكن إنقاذه و يتعين إغتنامها قبل فوات الأوان. و على الشعب و قواه الحية دعمه بقوة لتفويت الفرصة على دعاة أجندة قوى الردة و الظلام و دعاة الحرب. نعم، يجب أن يقول الشعب كلمته فى الإختيار ما بين دولة المواطنة و الدولة الدينية التى تفرق بين المواطنين السودانيين على أساس الدين و العرق و النوع و تهدد وحدة البلاد. يحدثنا التاريخ أن القادة الشجعان وحدهم هم من تمكنوا من العبور بشعوبهم إلى ضفاف السلام و الإستقرار و النماء و التقدم، فقط لأنهم إعترفوا بجذور المشكلة و لم يتهربوا منها كما حدث و يحدث فى عندنا فى السودان، بل خاطبوها و عالجوها بكل شجاعة. فنحن هنا لنفاوض على أساس القضايا التى تمثل جذور مشكلة السودان، فالمطلوب ممارسة حقكم الدستورى فى الضغط على حكومتكم الإنتقالية فى الضفة الأخرى إظهار إرادة حقيقية تجاه السلام العادل الشامل و الإستعداد لدفع إستحقاقاته بدل إتباع سياسة الهروب إلى الأمام……و هنا نريد أفعال و مواقف لا أقوال و كلام معسول فى سياق تكتيكات و مناورات الكباشى.