شرعية الدساتير خارج الصندوق: قراءة مقارنة في دستور “تأسيس” السوداني وتجارب دولية:

خالد كودي، بوسطن, 22/ 4/ 2025

 

يتردد كثيرًا في الخطاب النقدي الموجه لتحالف “تأسيس” والحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، أن الدستور الانتقالي الموقع في نيروبي يفتقر إلى الشرعية لأنه تم خارج السودان، ومن دون “تفويض شعبي”. ويقدَّم هذا الادعاء كحكم نهائي، دون اعتبار للتاريخ الدستوري العالمي وللواقع السياسي المركب الذي تعيشه الدول الخارجة من النزاعات. غير أن دراسة النماذج المقارنة تكشف أن أغلب الدساتير التأسيسية الحديثة لم تُصَغ عبر آليات تفويض شعبي مباشر، بل جاءت نتيجة سياقات انتقالية، وضغوط دولية، وتحولات ما بعد الحرب، وفي أحيان كثيرة تمت خارج الحدود الوطنية:

إعادة التفكير في شرط “المحل والتمثيل”:

هل يجب أن تُكتب الدساتير داخل الوطن وبإجماع شعبي؟

الجواب من منظور تجارب التاريخ الدستوري الحديث هو: ليس بالضرورة.

تاريخ كتابة الدساتير يُظهر بوضوح أن كثيرًا من الوثائق الدستورية التي أرست أنظمة سياسية مستقرة وعادلة، لم تُكتب داخل الحدود الوطنية، ولم تكن نتيجة مشاورات جماهيرية أو تفويض شعبي شامل. ما يُمنح الدساتير شرعيتها ليس ظرف ولادتها بل قدرتها على حل الأزمات، التأسيس لسلطة شرعية، وضمان الحقوق.

أولًا: دساتير كُتبت خارج البلاد أو تحت إشراف أجنبي:

١/ دستور ألمانيا الغربية (1949)

صيغ في ظل الاحتلال الأمريكي–البريطاني–الفرنسي، تحت إشراف الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، ولم يُعرض على استفتاء شعبي. أصبح لاحقًا الأساس الذي بُني عليه توحيد ألمانيا كلها.

٢/ دستور اليابان (1947)

صاغه بالكامل فريق قانوني تابع للجنرال ماك آرثر، القائد الأعلى لقوات الحلفاء، وفرض على البرلمان الياباني والإمبراطور، ولم يُعرض على الشعب مباشرة. مع ذلك، استمر حتى اليوم كأساس للديمقراطية اليابانية.

٣/ دستور العراق (2005)

تمت صياغته في ظل الاحتلال الأمريكي، وخضع لضغوطات إقليمية ودولية، وسط تغييب لبعض المكونات السياسية في اللحظات الحرجة، ومع ذلك مثّل إطارًا انتقاليًا لحقبة ما بعد صدام حسين.

٤/ اتفاقية دايتون (1995 – البوسنة والهرسك)

وُقعت خارج البلاد، في قاعدة أمريكية، وفرضت دستورًا معقدًا ينظّم علاقة المكونات العرقية والدينية داخل الدولة، وأنهت واحدة من أبشع الحروب الأهلية في أوروبا الحديثة.

٥/ أفغانستان (2004)

تم وضع دستورها الجديد من خلال “اللويا جيرغا” التقليدية، تحت إشراف أمريكي ودولي، بعد الإطاحة بطالبان، وفي سياق نزاع مسلح دولي مباشر.

٦/ جنوب السودان (2011)

دستوره الانتقالي لم يكن نتيجة استفتاء جماهيري، بل وُضع عبر مؤسسات حزب الحركة الشعبية لتحرير السودان، وتم فرضه كوثيقة حاكمة خلال المرحلة الانتقالية.

٧/ رواندا (2003)

بعد الإبادة الجماعية، صاغ حزب الجبهة الوطنية الدستور بشكل فوقي، دون مشاورات شعبية شاملة، ليضمن وحدة الدولة ومنع تكرار النزاع الإثني.

٨/ تونس (2011 – 2014)

بدأت بصياغة “دستور مؤقت” من داخل هيئة تأسيسية منتخبة، دون تفويض استفتائي مباشر. الوثيقة الدائمة التي أُقرت لاحقًا لم تكن أيضًا نتيجة استفتاء عام بل تصويت في المجلس التأسيسي.

٩/ دستور فرنسا (1958)

وضعه شارل ديغول وفريق قانوني من النخبة القانونية والسياسية، وصيغ في ظرف أزمة سياسية، وتم إقراره بسرعة بالاستفتاء دون مشاورات مجتمعية حقيقية.

١٠/ دستور الجزائر المؤقت (1962) والدستور الأول (1963)

بعد استقلال الجزائر عن فرنسا، لم يُكتب الدستور الأول داخل الجزائر بل في الخارج، وتم الاتفاق عليه في مؤتمرات ولقاءات جمعت قادة جبهة التحرير الوطني في القاهرة وتونس والمغرب. كما أن أول إعلان دستوري صدر مباشرة من الحكومة المؤقتة من الخارج، وأُقر لاحقًا مع ترتيبات الوضع الداخلي.

١١/ دستور موزمبيق (1975)

وضعته جبهة فريليمو بعد الاستقلال عن البرتغال، في ظل غياب استفتاء عام، وبقيت الوثيقة تحكم البلاد لعقود حتى التعديل الديمقراطي في التسعينيات.

الخلاصة: ما الذي يمنح الشرعية للدستور؟

لا مكان الكتابة، ولا الاستفتاء بالضرورة، بل الفعالية السياسية والاجتماعية:

١/ هل يمنح الدستور الحقوق ويؤسس للمساواة؟

٢/ هل يحل النزاع السياسي ويؤسس لنظام مستقر؟

٣/ هل تبنته قوى سياسية تمثل قطاعات من الشعب وقواعده الحية؟

إذا كان الجواب نعم، فذلك هو جوهر الشرعية الدستورية.

في السياق السوداني: نيروبي ليست استثناءً:

كتابة الدستور الانتقالي لتحالف تأسيس في نيروبي، لا تُسقط عنه مشروعيته. فالسودان يعيش حربًا أهلية مفتوحة، وانهيارًا مؤسسيًا، واستحالة لأي حوار شامل داخل البلاد، ومن هنا فإن صياغة دستور انتقالي خارج البلاد أمرٌ طبيعي بل وضروري، مثلما فعلت شعوب أخرى خرجت من الحروب والاستعمار والانقلابات.

الاعتراض على “مكان الكتابة” ليس أكثر من حجة شكلية لتجنب مواجهة مضمون الوثيقة، الذي يُهدد منظومة السودان القديم، ويرسي أسسًا جديدة قائمة على العدالة التاريخية، العلمانية، والمواطنة المتساوية

ثالثًا: ما الذي يجعل من دستور “تأسيس” مشروعًا؟

١/ السياق السياسي: السودان يعيش حربًا مدمرة وانهيارًا مؤسساتيًا، ولا توجد سلطة انتقالية شرعية قادرة على إدارة حوار دستوري شامل.

٢/ الواقعية الثورية: كتلة “تأسيس” تمثل تحالف قوى ثورية ومسلحة وأهلية تقاتل النظام، وبالتالي من حقها بل من واجبها أن تضع وثيقة تعبر عن رؤيتها للسودان الجديد.

٣/ الموقع الجغرافي ليس معيارًا: صياغة الميثاق والدستور في نيروبي لا يسلبه المشروعية، فالدساتير تكتب حيث تتوفر الإمكانية السياسية والأمنية لذلك.

٤/ الطابع المؤسسي: الوثيقة صاغتها مؤسسات قائمة، تمثل تنظيمات ذات قواعد وخطاب ورؤية، وعلى رأسها الحركة الشعبية – شمال، المعروفة بانضباطها السياسي والتنظيمي ومناطقها المحررة التي تديرها بسلطة مدنية وقوانين علمانية.

٥/ المبادئ فوق الدستورية: احتوت الوثيقة على مبادئ لا يمكن تعديلها حتى من قبل الأغلبية، مثل فصل الدين عن الدولة، والمواطنة المتساوية، والوحدة الطوعية، مما يجعلها وثيقة حقوق لا مجرد نص سياسي.

٦/ بداية مسار لا نهايته: الدستور الانتقالي ليس غاية نهائية، بل هو إطار تأسيسي مرحلي يُفتح لاحقًا على عملية سياسية أوسع تشمل تمثيل قاعدي ومؤتمرات شعبية.

أخيرًا: إن انتقاد ميثاق “تأسيس” والدستور الانتقالي، بذريعة أنه كُتب خارج السودان أو افتقر إلى “تفويض شعبي”، لا يكشف عن حرصٍ ديمقراطي حقيقي، بل يُظهر جهلًا بمنطق التحولات الثورية، أو تمسّكًا مفضوحًا بحراسة مركزية سياسية فقدت صلاحيتها التاريخية.

فتاريخ كتابة الدساتير حول العالم كما اثبتنا يؤكد أن الشرعية السياسية ليست دائمًا مرتبطة بالموقع الجغرافي، بل بالانحياز لمصالح الشعب، وقدرة الوثيقة على تمثيل الواقع الجديد، وفتح أفق نحو العدالة.

فدستور جنوب إفريقيا وُضع قبل نهاية الأبارتيد،

ودستور الثورة الأمريكية كُتب في ظل الاحتلال البريطاني،

ووثيقة ميثاق الشرف الجزائري صيغت خارج التراب الوطني الجزائري.

وبالقياس ذاته، فإن ميثاق “تأسيس” الموقع في نيروبي، والدستور الانتقالي المنبثق عنه، يُمثلان أول محاولة سياسية وفكرية جدية منذ الاستقلال لإعادة بناء الدولة من جذورها، على أساس الاعتراف، لا الإنكار؛ والمواطنة، لا الامتياز؛ والعدالة، لا المحاصصة.

من أبرز ملامح الميثاق والدستور الانتقالي:

١/ الاعتراف الصريح بعلمانية الدولة، لضمان حيادها تجاه الأديان والمعتقدات، وإنهاء الاستغلال السياسي للدين؛

٢/ إقرار الحق الديمقراطي في تقرير المصير للشعوب والمناطق التي تعرّضت للتهميش والتصفية، وفقًا لما نصّت عليه المادة الأولى من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية؛

٣/ إدراج العدالة التاريخية كمبدأ تأسيسي، وليس فقط العدالة الانتقالية، بما يعني الاعتراف بالجرائم البنيوية وإعادة توزيع السلطة والثروة على أسس منصفة؛

٤/ إعادة هيكلة القوات النظامية وتفكيك الجيش الحالي، لصالح إنشاء جيش وطني جديد يمثل جميع السودانيين، ولا يتحوّل إلى أداة قمع أو انقلابات؛

٥/ الاعتراف بالتعدد الثقافي واللغوي، واعتماد مبدأ اللامركزية الفيدرالية العادلة، كشرط لبناء وحدة طوعية بين مكونات السودان؛

٦/ الانحياز الكامل لضحايا الحروب والانتهاكات، وعدم منح الحصانة لأي جهة، بما في ذلك القوى التي وقّعت على الميثاق

إن هذا الميثاق لا ينطلق من فراغ، بل من تراكم نضالي طويل قادته الحركة الشعبية لتحرير السودان–شمال، والحركات الثورية الحقيقية، وفتح الباب أمام بناء “كتلة تاريخية جديدة” تُعبّر عن السودان المهمّش والمقاوم.

أما أولئك الذين يهاجمون الميثاق والدستور لأنهما يهددان امتيازاتهم، فهم ببساطة لا يملكون مشروعًا بديلًا، بل يلوذون بالقديم خوفًا من الجديد.

وهم، في حقيقة الأمر، لا يعارضون “المكان” الذي كُتبت فيه الوثيقة، بل المضامين التي كُتبت بها: المساواة، العلمانية، تقرير المصير، والمحاسبة.

إن تحالف “تأسيس” لا يدّعي العصمة، ولايجب، لكنه يملك ما لم تملكه كل المبادرات المدنية والإصلاحية السابقة:

الجرأة على تسمية الأشياء بأسمائها، والوضوح في الانحياز، والاعتراف الصريح بأن السودان القديم لا يُصلَح… بل يجب أن يُعاد تأسيسه.

النضال مستمر والنصر اكيد

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.