
حين يُعاد إنتاج القيد من داخله: في مواجهة معارضي “تحالف تأسيس” من أبناء المجتمعات المهمشة:
خالد كودي، بوسطن،
كتب أنطونيو غرامشي:
“الهيمنة لا تحتاج إلى السلاح حين يكون المستبعَد مقتنعًا بموقعه داخل التراتب”
وهنا تكمن المعضلة الأخطر في الوعي السياسي السوداني الراهن، لا سيما حين تأتي معارضة تحالف تأسيس –بوصفه مشروعًا لتفكيك الدولة المركزية وإعادة تأسيس السودان من الهامش– من فئةٍ كان يُفترض بها أن تكون في مقدمة الصفوف، لأنها هي من تذوقت مرارة التهميش، وحملت عبء الدولة الجائرة على ظهورها، جيلًا بعد جيل.
النخب: معارضة مفهومة، ولو كانت فجّة:
لا غرابة في أن تعارض النخب التقليدية تحالف “تأسيس”. فهذه النخب التي تشكلت في رحم الامتيازات الإثنية–الجغرافية، ومنظومة “العقل النيلي–الاسلموعروبي”، ترى في مشروع “تأسيس” تهديدًا مباشرًا لموقعها الرمزي والمادي. إنها تخشى من إعادة توزيع السلطة والثروة، ومن إزاحة مفاهيم احتكرت بها تعريف الوطنية والمواطنة، منذ الاستقلال وحتى اليوم.
وبالتالي، فإن معارضتها لا تحتاج إلى كثير شرح. إنها رد فعل غريزي على مشروع يهدف إلى مساءلتها، لا مجاملتها، إلى خلخلتها، لا إدماجها.
لكن ما يستوجب التحليل العميق هو حين تنبع المعارضة من داخل المجتمعات المقهورة ذاتها – من بعض أبناء دارفور، أو جبال النوبة، أو النيل الأزرق، أو شرق السودان – ضد مشروع يسعى صراحة لإعادة تعريف الدولة على أسس العدالة التاريخية والمواطنة المتساوية. لماذا يحدث ذلك؟ ولماذا تتماهى بعض الضحايا مع من قهرهم؟ هنا تصبح رؤي ونظريات مثل الاسلاموعروبية، اليسار العريض اوالماركسية وحدها غير كافية، ويصبح تحليل غرامشي وفانون أكثر إلحاحًا.
فانون والوعي المُستعمَر: حين يستبطن الضحية قاموس جلاده:
كتب فرانز فانون في “معذبو الأرض:”
“المُستعمَر لا يرى ذاته إلا في صورة الآخر؛ يتبنى لغته، وأحكامه، وحتى احتقاره له”
في السودان، أدت عقود من الهيمنة المركزية إلى ترسيخ ما يمكن تسميته بالهوية القهرية لدى كثير من أبناء المجتمعات المهمشة. فالمركز لم يحتل الأرض فقط، بل احتل الذهن أيضًا، وأعاد تشكيل إدراكهم لذاتهم وهويتهم ومستقبلهم. والنتيجة: يتحول الضحية إلى مدافع عن النظام الرمزي الذي أذله، وينظر إلى أي مشروع راديكالي لتفكيكه باعتباره تهديدًا للفوضى، لا وعدًا بالتحرر.
وقد أكدت الدراسات السيكولوجية الحديثة هذا النمط. فعلى سبيل المثال، يُظهر بحث منشور في
Journal of Social Issues (2015)
أن الجماعات المهمشة في الأنظمة التراتبية تميل، في بعض الحالات، إلى
“internalized oppression”
أي “الاستبطان الداخلي للقهر”، فتتبنى رواية الأغلبية عن ذاتها وتعيد إنتاجها.
وفي السياق السوداني، تظهر هذه الظاهرة حين يهاجم شاب من دارفور، أو من جبال النوبة او الفونج، ميثاق “تأسيس” بحجج لا تختلف عن حجج النخب الخرطومية التي احتقرت قريته بالأمس، وقتلت أهله، وجعلته لاجئًا اليوم.
نحو فهم نفسي–ثقافي أعمق: لماذا يدافع الضحية عن الجلاد؟
يشرح عالم النفس الاجتماعي جون جوست في نظرية:
Just World Hypothesis
أن بعض الأفراد، حين يواجهون ظلماً لا يمكن تفسيره، يفضلون الاعتقاد أن العالم عادل، وبالتالي يستحقون ما وقع لهم، بدلاً من الاعتراف بأن النظام نفسه ظالم.
وهنا بالضبط تتولد المفارقة: كيلا يعترف الإنسان بأنه ضحية، يقنع نفسه بأن النظام عادل وأن من يحاول تغييره مخطئ أو خطير. وهذا ما نشهده في بعض الخطابات التي تهاجم “تأسيس” باسم “السلام”، أو “الاستقرار”، أو حتى “الوحدة الوطنية”، رغم أن هذه المفردات كانت دومًا الغطاء البلاغي للاغتصاب السياسي والقهر الهيكلي.
كما أظهرت دراسة في
Harvard Political Review (2020)
أن المجتمعات المهمشة تاريخيًا غالبًا ما تطور حساسية مفرطة تجاه “التمثيل الزائد” لأي خطاب جذري يصدر منها، خشية وصمها بالفوضى أو التطرف. ولهذا، فإن بعض المثقفين من الهامش يفضلون “الاندماج التوافقي” في مشاريع النخبة، حتى إن كانت تلك المشاريع ميتة، بدلًا من الانتماء لمشروع تحرري يُتهم بالمبالغة أو بالتحالفات الجريئة و الغير مريحة، وهذا مايفسر ان الكثير من أبناء الهامش لازالوا يعتقدوا في أحزاب النخب وهي تتحدث عن التحول المدني الديمقراطي باليات الاحتجاج السلمي الخرطومي.
الخوف من الحرية: حين يرتبك الضحية أمام خلاصه:
في كتابه الكلاسيكي “تعليم المقهورين”، يكتب باولو فريري ما هو أشبه بتعويذة لفهم آليات إخضاع الضحية:
.”الخوف من الحرية يجعل المقهورين يحلمون بأن يصيروا مثل الظالم، لا أن يتحرروا منه”
وهذا بالضبط ما يتجلى اليوم في بعض الأصوات الخارجة من الهامش ضد مشروع “تأسيس”: ليس رفضًا للتحالف لأنه عاجز، بل لأن تحققه يعني كسر العلاقة الطويلة مع السلطة، وتفكيك أوهام الانتماء إليها. إنهم لا يريدون هدم الدولة القديمة، بل دخولها. لا يطالبون بتحرير الجماعة، بل بقبول فردي مشروط في تراتبية القمع.
وهنا لا بد أن نتجاوز السؤال المألوف: “لماذا يعارض بعض أبناء الهامش مشروعًا كُتب باسمهم وكتبه بعضهم؟”
إلى سؤال أكثر جذرية: كيف تحوّل حلم التحرر نفسه إلى كابوس في الذاكرة الجمعية لمن كان يُفترض أن يكون طليعة التغيير؟
في رواية 1984، كتب جورج أورويل أن الحزب لم يكن بحاجة إلى أسوار، بل إلى وعيٍ مراقَب من الداخل. فكان المستَعبَد هو من يدير السجن، وكان الكذب يُحفظ كما تُحفظ الحقيقة.
وفي حالتنا، لم تكن الهيمنة السياسية مجرد قهر، بل إعادة تشكيل الوعي الجمعي للمهمش، حتى بات الانحناء هو “القامة الوطنية المقبولة”.
إن رفض مشروع “تأسيس” من داخل المجتمعات التي كُتب على عظامها وجدرانها، ليس موقفًا سياسيًا عابرًا، بل عرضٌ متأخرٌ لصدمةٍ جماعية غير معالجة.
فهو انعكاس لما يسميه علم النفس السياسي بـ”التماهي مع المعتدي” – حيث يبدأ المضطهَد في تبني لغة جلاده، لا كرهاً لنفسه بل بحثًا عن النجاة ضمن شروط القهر القائمة.
وقد أشار إلى هذه الظاهرة إريك فروم حين كتب:
“الناس لا يختارون الطغيان لأنهم يحبون الألم، بل لأنهم يخشون الحرية التي لا يعرفون كيف يتعاملون معها”
وهنا لا تنفع المواجهة بالصراخ أو الاتهام، بل بفهم الآليات العميقة التي جعلت المقهور يرتاب من حريته، ويرى في التمرد خطراً على “التوازن”، حتى وإن كان هذا التوازن بني على الدم.
إننا بحاجة إلى إعادة تعريف الهامش، لا كجغرافيا منفية، بل كوعي مُنتج، كما كتب إدوارد سعيد. فالهامش الحقيقي هو من يخلق لغته وسرديته، لا من ينتظر تسميته من المركز. ومن لا يشارك في إنتاج رمزية الذات، سيبقى تابعاً، حتى ولو كان في قلب المعاناة.
ليست كل معارضة ناتجة عن مؤامرة، لكنها ليست بريئة دائمًا. وبعض الصمت ليس تأملاً، بل شكلٌ راقٍ من أشكال التواطؤ النفسي مع الاستمرار.
لقد نشأ مشروع “تأسيس” لا ليكمل سردية النخب، بل ليقاطعها، لا ليسترد رموز “الزمن الجميل”، بل ليكتب زمناً آخر، بصوت الذين لم يُسمَعوا، ولم يُمثّلوا، ولم يُعترف بهم حتى وهم يحترقون.
ليس المطلوب أن يصفق الجميع،
بل أن لا تكون أولى رصاصات الرفض من بندقية الجريح.
ليس كل مشكك عدواً،
لكن كل من يصمت عن السؤال الحقيقي، يفتح الباب لمجاورة الظلم باسم الحكمة.
نحن نكتب، لا لنلغي أحدًا، بل لنستعيد حقًّا فُقِد منذ أن صودرت الحكاية من أصحابها الأصليين.
خاتمة: ما العمل؟ وكيف نكسر هذا القيد من داخله؟
لسنا هنا في مقام توجيه اللوم للضحايا، بل في مقام تفكيك البنية النفسية–الاجتماعية التي تجعلهم، أحيانًا، جزءًا من الدفاع عن القيد الذي يكبلهم.
إن ما يطرحه “تحالف تأسيس” لا يمكن اختزاله في برنامج حكومة لنخبة بديلة، بل هو عقد تأسيسي جديد لسودان مغاير، يعترف أن التهميش ليس عارًا، بل جريمة مؤسسة، وأن العدالة لا تُقاس بجرعة الخدمات، بل بمن يعيد كتابة العقد الوطني نفسه.
من الطبيعي أن تعارض النخب هذا المشروع، فهو يهدد امتيازاتها البنيوية. لكن حين تأتي المعارضة من الداخل، من أبناء الهامش، فإن الأمر يتجاوز السياسة إلى الجغرافيا النفسية للاستعمار.
إنها اللحظة التي وصفها فانون ببلاغة مرة:
“حين يبدأ المستعمَر برؤية نفسه بعين مستعمِره، لا يحتاج العدو إلى أن يبقى.”
نحن أمام اختبار أخلاقي ومعرفي: إما أن نعيد إنتاج بنية الإقصاء، وإن غيرنا جلدها،
أو نبدأ السير نحو مشروع اعتراف كامل، لا بالماضي فقط، بل بحق الضحية في أن يكون هو من يروي الحكاية!
لذلك، فإن أول خطوة هي أن نعلن بلا مواربة:
لا، ليس كل من عارض “تأسيس” يمثل الهامش.
ولا كل من صمت، فاهمٌ ما يفوّت عليه.
ولا كل من تردد، يمكنه بعد اليوم الادعاء بأنه لم يعرف ما هو المطروح.
وكما كتب ألبير كامو:
.”المثقف ليس من يشرح العالم فقط، بل من لا يتردد في الانحياز حين يصل العالم إلى لحظة القرار”
ونحن الآن في لحظة القرار.
نكتب لا لنبني جمهورية أفلاطونية،
بل لننتزع من التاريخ موقعًا كان محجوزًا للضحية، ونجعله مكانًا للفاعل.
لا من أجل وطن يتعافى في نشرة الأخبار،
بل وطنٍ يولد هذه المرة، دون كذب، ودون وسطاء.
النضال مستمر والنصر اكيد