الإعلان التأسيسي بنيروبي وجغلبة سلطة بورسودان(3-3).

حب الدين إسحاق (ارسطو)

 

في الجزأين السابقين، تناولنا المخاوف الحقيقية وراء جغلبة نخبة سودان القديم ببورسودان من الإعلان التأسيسي بنيروبي واستعرضنا خمسة ثوابت يزعم أصحاب الامتيازات التاريخية بأنها ثوابت وطنية وتسع إعلان التأسيسي بنيروبي تفكيكها لأنها تشكل بنية الأساسية لدولة القديمة وهي( الهوية العربية الإسلامية- الحكم المركزي- الوحدة القسرية حدود القهر الاستعماري – الخدمة المدنية المختلة – الدولة الدينية).

وأوضحنا بأن ثوابت الوطنية المذكورة تمثل اهم جذور التاريخية للأزمة السودانية ورغم ذلك تصر جماعات المهيمنة المحافظة عليها ورفض كل الحلول المقدمة من أطراف السلمية والثورية.

في هذا الجزء الثالث والأخير، سنتناول أهم الثوابت الوطنية للدولة القديمة التي تحمي بها جماعات المسيطرة امتيازاتها التاريخية ومكاسبه المادية والرمزية وكأداة حاسم في حلبة الصراع السياسي وهي أجهزة العنف المادية.

 

و- الأجهزة العنف المادية:

١- الجيش:

ظلت الدولة القديمة تفرض وتحرس الأوضاع المختلة المدعاة بثوابت الوطنية بقوة من خلال استخدام الأجهزة النظامية وغير النظامية، وأهم هذه الأجهزة الأمنية المادية هو الجيش السوداني، تأسست هذا الجيش في عام 1925من قبل الإستعمار الإنجليزي المصري باسم قوات دفاع السودان وتمثل أهدافه الأساسية في تأسيسه مساعدة المستعمر في غزو المواطنين السودانين ونهب الموارد وجلب العبيد وإذلال المواطنين السودانين واحتكار العنف لصالح الأجهزة الإدارية الاستعمارية.

 

وبعد خروج المستعمر وتسليم السلطة للجماعات من وسط وشمال السودان (الجلابة) تم إعطاء عقيدة جديدة للجيش تمثلت في حماية العروبة والحكم المركزي ووحدة القسرية وخدمة المدنية المختلة ودولة الدينية وتحولت الجيش الى جيش جلابي كريم تحمي جماعات محددة وتصادر حقوق فئات التي التمت استبعادها من حيازة السلطة والثروة ووجاهة الاجتماعية.

فقد شنت هذا الجيش خلال تاريخه الطويل حروب في معظم أنحاء البلاد مرتكبآ سلسلة من الابادات الجماعية والتطهير العرقي وجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية بدء من 18 أغسطس 1955 بتوريت بجنوب السودان واستمر حتى بعد توقيع اتفاق السلام الشامل2005 – جبال النوبة 1984 – النيل الأزرق 1985 – دارفور ودار مساليت 1985 – شرق السودان 1995 – خرطوم وبقية مدن السودان 2023 حتى وقت كتابة هذا المقال.

وتفوق الجيش بسجل الانقلابات العسكرية وتقويض الأنظمة الديمقراطية وتدخل في شؤون السياسية والأنشطة الإقتصادية وكما تم إستخدامه في تصفية خصوم السياسين.

عقيدة هذا الجيش التأسيسية كانت لحماية المستعمر وبعد عملية سودنة استبدلت لحماية العروبة والإسلام ومصالح الفئات المسيطرة بوسط وشمال السودان.

ويمكن حصر إجمالي ملامح ومبادئ وأهداف الجيش السوداني بعد السودنة في الآتي ( صناعة استعمارية – تركيبه عبودي- قادة من قبائل وسط وشمال السودان وجنود من الهامش الثقافي – عنصري – يمتاز بالفساد – يفتقد المهنية والاحترافية – غايته ميتافزيقي وليس ارضي دينوي – متخصص في صناعة المليشيات – مسيس وغير محايد – إرهابي لا يلتزم بحقوق الإنسان – انقلابي- يقتل الشعب – حروبه داخلية – فشل في احتكار العنف لصالح المواطن – ينطبق فيه معايير الجيوش الفاشلة).

 

وهذا الأهداف والمبادئ تمثل جوهر عقيدة الجيش السوداني وهو يتناقض ما مبادئ وأهداف الجيوش الإحترافية الحديثة المتمثلة في الآتي: (المهنية والإحترافية والخضوع للسلطة الشعب- الولاء للدولة – الالتزام بالحياد السياسي – حماية الدستور والنظام السياسي وسيادة الوطنية – التزام بحقوق الانسان الدولية والإقليمية والوطنية- التنوع والمساواة والعدالة – احتكار العنف المادي لصالح دولة المواطنة).

 

ورغم سجله السيئ وفشله وعدم استيفاءه بمعايير جيوش الحديثة، يدافع عنها الجماعات المسيطرة ويرفضون إعادة هيكلته بمعايير ومبادئ وأهداف الجيوش الإحترافية الوطنية الحديثة ويدعون إبقاءه بعلاته وهو ما رفضته الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال طيلة تاريخها النضالي الطويل، وهو ما أكدته الميثاق التأسيسي بنيروبي بضرورة حل الجيش الجلابي ومليشياته وتأسيس جيش السودان الجديد بعقيدة وطنية جديدة تلتزم بمعايير الجيوش الوطنية الحديثة.

 

٢- جهاز الشرطة:

تم تأسيس جهاز الشرطة لأول مرة في السودان عام 1821، عندما غزا الأتراك السودان، تحت مسميات عدة مثل الجهادية والباشبزق وكان الملك (شاويش) ملك الشايقية الذي هزم في معركة كورتى من الاتراك واستسلم وقبل العمل معهم اختيرآ قائدآ لقوات الباشبزق والتي تمثل أول نواة شرطة في سودان الحديث.

 

اما في زمن الاستعمار البريطاني قام حاكم عام السودان الاستعمارية ونجت باشا عام 1924، بأنشاء قوة شرطة السودان بشكل رسمي، وفي عام 1928شرع لها قانون خاص سمي قانون بوليس السودان لسنة 1928، وكانت مهام هذه القوات في ذلك الزمان في حفظ وحماية النظام الاستعماري وجمع الضرائب ومساعدة الأجهزة الإدارية في نهب موارد السودانية الطبيعية والبشرية وفرض سياسات أجهزة الإدارية الاستعمارية وعقاب المعارضين وحراسة العبيد وتأمين الأسواق وإذلال المواطنين وجلب النساء الحسناوات للقادة الإستعماريين !

 

وبعد خروج المستعمر في عام 1956 قام الجماعات الميهمنة في بواكير أيام سودنة الوظائف (جلبنة جهاز الشرطة) وجعلها منحازة للفئات الذي ورثت السلطة الاستعمارية واصبحت تركيبتها عبودية وعنصرية قادتها من شمال ووسط السودان وجنودها من عوام المجتمعات وينتشر فيها الفساد وتدار مركزيآ وفشلت في أداء مهامها المؤكلة في حفظ الأمن مما اثر سلبآ في تحقيق العدالة للضحايا، وكانت توجهاتها الرسالية تستهدف الضحايا والمهمشين، وتستخدم كعصا باطش لتصفية خصوم السياسيين.

 

وتتناقض أهدافها ومبادئها مع مبادئ وأهداف الشرطة الحديثة المتمثلة ( الولاء لسلطة الشعب – حفظ الأمن- الاستجابة في تطبيق القانون تحت اشراف وتوجيهات القانون والمقدرة على رد الفعل السريع للحوادث ونداءات الطوارئ- الفاعلية في التعامل مع كافة الحوادث بالجدارة والاقتدار – الشفافية ووضوح الإجراءات وبساطتها وتميزها بالنزاهة – الموضوعية والأمانة ومحاربة الفساد – الاحترافية والتزام بالمهنية والحياد من السياسة وأداء اعمالها بالكفاءة – التزام بقيم ومعايير ومبادئ حقوق الإنسان ).

 

تقوم جهاز شرطة السودان القديم على أسس ومعايير متناقضة مع أسس ومعايير الشرطة الحديثة الذي أوضحناه فهي جهاز تقهر الشعب وتخضع لسلطة الجماعات المهيمنة وتحافظ على نظام العبودي وموغلة في الفساد بكافة أشكاله لذا فالجماعات المهيمنة في بورسودان تعتبرها إحدى ثوابت الوطنية وترفض أي دعوة لإعادة تأسيس جهاز شرطة جديد تلتزم بمعايير ومبادئ الشرطة الحديثة التي مضت عليها إعلان التأسيسي بنيروبي لبناء جهاز الشرطة في السودان الجديد.

 

٣ – جهاز المخابرات العامة:

ظلت جهاز الامن أداة للعنف واحد اليات السلطة السياسية الحاكمة ويدها الباطش للضحايا وخصوم السياسين لجماعات المهيمنة على مر الحقب، وهي أداة السحري في حياكة المؤامرات وصناعة الأزمات في البلاد ولن تسلم منها شعوب المهمشة في كل ربوع البلاد وقد تنامت جرائمها بشكل أوسع خلال حقبة الحركة الإسلامية، ونفذت اغتيالات واسعة للقادة المجتمعات والمثقفيين المستنريين الذين يظنون بأنهم يشكلون تهديد للحكومات الظالمة في الخرطوم.

 

وهي جهاز تتدخل في شؤون الخاصة وتصادرة الحريات وتعذب وتذل المواطنين وخصص داخل فروعها وظيفة مغتصب الرجال في المعتقلات دعك من النساء؛

وهي مسؤولة من تزوير الحقائق وأصوات الجماهير لصالح الجماعات المسيطرة في اي عملية إنتخابات تجري في البلاد وفي المؤسسات وتتوشح ثوب الفساد بدرجة امتياز !

 

فالمبادئ جهاز مخابرات العامة السودانية تتناقض مع معايير وجهاز الأمن الحديثة الوطنية التى تتمثل في حماية الدولة في امنها واستقرارها والمحافظة على كيانها وسيادتها من جميع المخاطر او التهديدات سوى كانت صادرة من الافراد او الجماعات او تكتلات وجمع المعلومات وتحليلها وتسليمها للجهات المختصة باتخاذ الإجراءات اللازمة. واس مشكلة جهاز مخابرات العامة السودانية في مفهومها للوطن، فالوطن عنده هي حزب الحركة الإسلامية وجماعات المسيطرة اما بقية فهم الأعداء ويجب ردعهم بقوة.

 

وتعتبر جهاز مخابرات العامة اهم أضلاع اجهزة الاحتكار العنف المادية للدولة القديمة التي تساعد الأقلية الحاكمة في ترجيح ميزان الهيمنة على السلطة والثروة وقد دعت الإعلان التأسيسي بنيروبي إلى حله وإعادة هيكلته بما يتوافق ما معايير ومبادئ الأجهزة الأمنية الوطنية، المتمثلة فى خضوع جهاز الأمن لسلطة الشعب وان تكون مهنية ومعايير دخولها قائمة على الكفاءة وتشرف عليها السلطة التنفيذية وهي محايدة وغير متحزب تلتزم بدستور وولاءه للوطن وليس لأحزاب والجماعات.

 

هكذا فإن مصدر مشروعية سلطة بورسودان لإدارة الدولة تستند على مشروعية العنف والغلبة وتحاول أن تفرض وتحرس هذه الأوضاع المختلة المسمى بالثوابت الوطنية الذي أوضحناه بقوة السلاح من خلال استخدام الأجهزة العنف المادية المذكورة وترفض إلى أي محاولة للحديث عنها أو إعادة النظر فيها او هيكلتها من جديد، مثلما دعت له إعلان نيروبي التأسيسي بضرورة حل أجهزة عنف الدولة القديمة وبناء أجهزة العنف المادية الجديدة القائمة على مشروعية العقد الإجتماعي وليس على العنف والغلبة.

 

وفي ختام المقال نشير ان الغرض الأساسي من جغلبة جماعة بورسودان من إعلان التأسيسي بنيروبي هي في الأساس من أجل محافظة على الامتيازات التاريخية المدعاة بالثوابت الوطنية التي استعرضناه وهي في الأصل مصالح للفئات المسيطرة في السودان خلال سبعين عام ونيف.

 

وتعلم الجماعة المهيمنة حين يتم إعادة النظر في ثوابتهما الوطنية وتأسيسها من جديد سيفقدون النعم التي يتمتعون بها على مر التاريخ على حساب المهمشين، لذا يتخندقون ويطلقون أحاديث ذات توابع اطلاقية بغرض التشويش وحجب الرؤية أمام المواطنين السودانيين عن أهمية القضايا التي تناولتها الإعلان التأسيسي بنيروبي.

 

لأن إذا أدرك المواطنين السودانيين حقائق المظالم التاريخية بوعي وتجرد بعيدآ عن تأثيرات هايبتوس التمركز يبقي ذلك بداية نهاية حكم العصابة البورسودانية وسيكون يوم خراب بيت طربوش الداخلي؛ وإعلان دولة الحرية المساواة والعدالة.

 

ويجب أن تعي الشلة البورسودانية بأن الإعلان التأسيسي بنيروبي أكدت بلا رجعة كسر ثوابت الوطنية الجلابية واتيان بثوابت دولة المواطنة السودانية الحديثة المتمثلة في الدولة العلمانية الديمقراطية وهوية السودانوية والحكم اللامركزي ووحدة الطوعية القائمة على الإرادة الحرة للمواطنين وجيش سودان الجديد الخاضع للسلطة الشعب ويحمي الدستور، لذا لا حل لكم في الجغلبة بقدر ما الحل هو في قبول ما ورد في الإعلان التأسيسي بنيروبي ومضى قدما لبناء السودان الجديد وإنهاء عهود ماساة الحروب والفشل الطويل في بناء دولة تسع الجميع.

 

N̰âgû Sasaborno N̰âgû Jammba

السبت- 15مارس- 2025م

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.