رفض العلمانية وحق تقرير المصير: عقلية صغار النخاسة ونخب السودان الفاشلة

خالد كودي بوسطن 15/ 3/ 2025

 

 

في تأمل واقع السودان الحديث، نجد أن تكرار الأزمات السياسية والاجتماعية يعكس جوهر العقلية التي حكمت النخب السودانية منذ الاستقلال، بل وحتى قبل ذلك. هذه العقلية التي يمكن وصفها بعقلية “صغار النخاسة” ليست مجرد امتداد لحقبة الرق والاستعمار، بل هي إعادة إنتاج لذات النهج المريض، العنصري والإقصائي القائم على احتكار السلطة والثروة وفرض الهيمنة الثقافية والدينية بغطاء سياسي.

العلمانية وحق تقرير المصير: اختبار المواطنة الحقيقية:

إن الدعوة إلى العلمانية في السودان ليست ترفاً فكرياً ولا استيراداً لقيم غربية، بل هي ضرورة قانونية وتاريخية لضمان التعددية الدينية والعرقية وفقاً للمعايير الدولية لحقوق الإنسان، لا سيما تلك التي كرّستها الأمم المتحدة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966)، حيث تؤكد المادة 18 من العهد الأخير على حرية الفكر والوجدان والدين، بما في ذلك الحق في اعتناق أي دين أو عدم اعتناق أي دين على الإطلاق. كما تنص المادة 26 من نفس العهد على المساواة أمام القانون وحظر جميع أشكال التمييز على أساس الدين أو العرق/الاثنية.

وفي بلد متعدد مثل السودان، حيث تعرضت مجموعات دينية واثنية بعينها لممارسات إقصائية وقمعية، تُعد العلمانية الضمانة الوحيدة لتحقيق المواطنة المتساوية، ومنع تكرار مآسي فرض الأيديولوجيات الدينية بالقوة، كما حدث خلال فترات هيمنة المشروع الإسلامي، الذي استخدم أدوات الدولة لإخضاع المواطنين/ات لدين بعينه، سواء عبر وسائل ناعمة أو عبر آليات القمع والتمييز القانوني والتي بلغت حد الحروب واستخدام خطاب القرن السادس عشر من غزوات وجهاد وما اليه. و بموجب إعلان وبرنامج عمل فيينا (1993)، فإن المجتمع الدولي ملزم بضمان عدم استغلال الدين لأغراض سياسية أو قمعية، وهو ما يجعل فصل الدين عن الدولة أمراً محورياً للحفاظ على التعددية والانسجام الاجتماعي.

إن حق تقرير المصير ليس مجرد شعار سياسي، بل هو مبدأ أساسي في القانون الدولي، أقرّته الأمم المتحدة في ميثاقها (المادة 1، الفقرة 2)، وأعيد التأكيد عليه في قرار الجمعية العامة رقم 1514 (1960)، المعروف بـإعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة، والذي شدّد على أن لكل الشعوب الحق في تقرير مصيرها بحرية، بعيداً عن أي تدخل خارجي، وعلى ضرورة إنهاء كافة أشكال الاستعمار والاستعباد السياسي والاقتصادي.

إلا أن الامر لا يقتصر فقط على الاستعمار التقليدي، فقد أشارت الأمم المتحدة في إعلانها بشأن حقوق الشعوب الأصيلة، الذي اعتمدته الجمعية العامة في 13 سبتمبر 2007 (قرار 61/295)، إلى أن استمرار أنظمة القمع والإقصاء ضد الجماعات والشعوب الأصيلة (المهمشة) يُشكل امتداداً للاستعمار الداخلي، الذي لا يقل خطورة عن الاحتلال الأجنبي. ويؤكد هذا الإعلان على أن الشعوب الأصيلة لها الحق في تقرير مصيرها، وتحديد أوضاعها السياسية، ومتابعة تطورها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بحرية، دون قيود مفروضة من الأنظمة المركزية. ومهمشي السودان برمتهم شعوب اصيلة.

في السودان، لم تأتِ سياسات الإقصاء من مستعمر خارجي فحسب، بل واصلتها النخب السودانية الحاكمة، التي تباهت بمشروعها العربي-الإسلامي، بينما مارست استعماراً داخلياً ضد المجموعات غير العربية وغير المسلمة، مصادرةً حقها في تحديد مصيرها، ومستخدمةً الدولة كأداة للإبقاء على الفئات المهمشة مكبّلة الإرادة، محرومة من حقوقها، ومعزولة عن اتخاذ أي قرارات تخص مستقبلها.

هذا النهج يمثل استمراراً للعقلية الاستعمارية الداخلية، التي لطالما استبدلت الاستعمار الخارجي بهيمنة المركز على الأطراف/الهامش، رافضةً منح الشعوب المهمّشة حقوقها، ومصنّفةً أي مطالبات بالمساواة أو تقرير المصير على أنها تهديد لسيطرتها. وهذا يتناقض مع إعلان المبادئ حول العلاقات الودية والتعاون بين الدول وفقاً لميثاق الأمم المتحدة (قرار الجمعية العامة 2625 لعام 1970)، الذي أكد أن أي محاولة لقمع حق تقرير المصير تُعد انتهاكاً خطيراً للقانون الدولي، كما أكد على أن كل الشعوب التي تواجه التمييز والقمع المنهجي لها الحق في النضال السلمي لنيل حقوقها، بما في ذلك حقها في تقرير المصير.

إن رفض النخب السودانية لهذا المبدأ لا ينبع فقط من خشيتها على وحدة الدولة، وإنما من رغبتها في الحفاظ على الامتيازات التاريخية التي منحتها لها الأنظمة السابقة، حتى وإن كان ذلك يعني استمرار الاستعمار الداخلي الذي يمارس باسم الدين والقومية، ويعيد إنتاج نفس أشكال القمع التي واجهها السودان نفسه خلال فترات الاحتلال الأجنبي.

إن رفض العلمانية وحق تقرير المصير لا يمثل فقط موقفاً رجعياً ومتخلفا، بل هو انتهاك مباشر للالتزامات القانونية الدولية التي يفترض بالسودان، كدولة عضو في الأمم المتحدة، الالتزام بها، لضمان العدالة والمساواة والحقوق الأساسية لجميع مواطنيه/اته.

من مذكرة كرام المواطنين إلى مشروع الإسلام السياسي: استمرارية عقلية الوصاية:

عند مراجعة مذكرة “كرام المواطنين” الموقعة في 6 مارس 1925، نجد فيها تبريراً لاستمرار الرق بذرائع اقتصادية واجتماعية، وتعبيراً واضحاً عن نظرة نخب ذلك الزمان إلى المسترقين كمجرد أدوات عمل، وليس كبشر متساوين في الكرامة والحقوق. هذه المذكرة لم تكن موقفاً فردياً، بل كانت انعكاساً لذهنية الطبقات والمجموعات الدينية والاثنية الحاكمة التي كانت تستفيد من الامتيازات التاريخية للاستعمار والرق.

هذه الذهنية لم تمت مع نهاية الاستعمار، او بهلاك من اخذ مكانه، بل تطورت وتحوّرت لتأخذ أشكالاً جديدة في ظل الأنظمة الوطنية، خاصة بعد الاستقلال ولايزال البعض متوهم بها. فإذا كانت النخب القديمة تدافع عن الرق بصيغته التقليدية، فإن النخب السودانية الحديثة واصلت ممارسته في شكل تمييز عنصري وإقصاء سياسي واقتصادي، مستخدمة أدوات الدولة الحديثة لإعادة إنتاج نفس علاقات القوة الظالمة.

لقد تجلت هذه العقلية في رفض أي حديث عن العلمانية، لأن النخب السودانية الحاكمة تدرك أن إقرار العلمانية يعني فقدانها لأهم أدواتها في السيطرة، أي استخدام الدين كأداة للشرعية السياسية. كما أن رفض حق تقرير المصير كان تعبيراً عن ذات النزعة الاستعمارية الداخلية، التي ترى في السودان أرضاً خاضعة لحكم “الصفوة” وليس وطناً متساوياً لجميع أبنائه وبناته.

عقلية “صغار النخاسة”: إعادة إنتاج الظلم واستمرار الوصاية:

إن مصطلح “صغار النخاسة” يعبر عن نخب سودانية لم تستوعب دروس التاريخ، ولا تزال تتعامل مع السودانيين بعقلية الوصي الذي يفرض هيمنته، متجاهلة أن الزمن قد تغيّر وأن الشعوب لم تعد تقبل الخضوع. هذه النخب، رغم صراعاتها الداخلية، تشترك جميعها في هدف واحد: الإبقاء على الامتيازات التاريخية بأي ثمن، ولو كان ذلك على حساب حقوق الآخرين وكرامتهم.

في الماضي، كان أسياد النخاسة يسيرون القوافل بحثاً عن الرقيق، أما اليوم، فقد تغيرت الأدوات، لكن الجوهر ظل كما هو: توظيف الدين، والاثنية، والسياسة، والقوانين القمعية لإخضاع الشعوب وإدامة السيطرة. لكن الحركة الشعبية لتحرير السودان، عندما طرحت مشروع السودان الجديد، وضعت أسساً جديدة لمعادلة السلطة، تستند إلى العلمانية، الديمقراطية، اللامركزية، وضمانات حق تقرير المصير. هذا المشروع أربك النخب الفاشلة، التي لم تجد وسيلة لمواجهته سوى محاولات الاحتيال السياسي والمراوغة، محاولةً الالتفاف على حق شعوب السودان في تقرير مصيرها، ولكن هيهات!

رفض العلمانية وحق تقرير المصير: عقلية الوصاية والاستبداد:

إن رفض العلمانية وحق تقرير المصير ليس مجرد اختلاف سياسي أو أيديولوجي، بل هو تعبير عن عقلية مريضة ترى الآخرين مجرد أتباع بلا إرادة، وليسوا مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات. هذه العقلية هي التي أدت إلى انفصال الجنوب، وإشعال الحروب في دارفور، وجبال النوبة، والنيل الأزرق، وهي التي ستواصل تمزيق السودان وإغراقه في مزيد من الفوضى والانهيار إن لم يتم مواجهتها بوضوح .

إن ميثاق التأسيس والدستور الانتقالي، الذي رسم خارطة طريق جديدة، يمثل الفرصة الأخيرة أمام هذه النخب لتقبل التغيير والانصياع لمبادئ العدالة والمساواة. فإما أن تقر بحق الشعوب في تقرير مصيرها وتبني نظاماً ديمقراطياً حقيقياً، أو ستظل عالقة في مستنقع الاستبداد، حتى تتجاوزها الشعوب وتفرض إرادتها بالقوة التاريخية التي لا تُقاوم!

الطريق إلى المستقبل: القطيعة مع إرث النخاسة السياسية:

إذا أراد السودان أن ينهض من رماد حروبه وأزماته، فلا بد من قطيعة حقيقية مع هذه العقلية، التي لم تقدم للبلاد سوى الدمار والخراب. هذه القطيعة تبدأ ببناء الدولة السودانية على أسس المواطنة المتساوية، وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل نظام علماني يفصل الدين عن السياسة، ويمنح كل السودانيين حقوقهم دون تمييز بما في ذلك الاقرار بالحق في تقرير المصير.

كما أن احترام حق تقرير المصير يجب أن يكون جزءاً من هذه القطيعة، ليس فقط باعتباره مبدأ قانونياً، بل كوسيلة لإنهاء نزعة الوصاية التي حكمت السودان لعقود. فالسودانيون ليسوا قُصَّراً يحتاجون إلى وصي، ولا عبيداً يحتاجون إلى سيد، بل هم شعوب حرة قادرة على تقرير مصيرها بنفسها.

إن العقلية التي صاغت مذكرة كرام المواطنين عام 1925 لا تزال حية، لكنها اليوم تتخفى وراء شعارات الوطنية والوحدة الزائفة. مواجهة هذه العقلية تتطلب شجاعة فكرية وسياسية، لأنها تعني مواجهة كل الامتيازات التاريخية التي قامت عليها الدولة السودانية الحديثة. ولكن بدون هذه المواجهة، سيظل السودان عالقاً في دوامة الأزمات، محكوماً بعقلية الماضي، وغير قادر على بناء مستقبل يليق بشعبه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.