
نخب المنافي بين اختلال المعايير والخوف من التحولات الجذرية.
بروف: خالد كودي
تعليق علي الأستاذ وائل محجوب واخرين في ندوة تجمع السودانيين بالخارج :
1-3
السودان أمام معركة التغيير: بين الانتقائية السياسية والخوف من التحولات الجذرية:
يمر السودان بمنعطف تاريخي معقد، حيث تتقاطع التحديات السياسية مع متطلبات إنهاء الحرب وإعادة تأسيس الدولة، ما يفرض على القوى الوطنية اتخاذ قرارات كبيرة، جريئة ومسؤولة. غير أن بعض القوى السياسية والمدنية المحافظة وان كانت (ثورية الادعاء) لا تزال رهينة رؤى مكررة اثبت التاريخ فشلها، وهي ترفض الاعتراف بأن التغيير قد لا يأتي بالضرورة من داخل الدوائر الإصلاحية التقليدية، وإنما قد يكون نتاج تحالفات سياسية وعسكرية جديدة، تستجيب لمعطيات الواقع المتحول. وبدلاً من تبني رؤية متقدمة قادرة على مواجهة الأزمات، تستمر هذه القوى في انتهاج انتقائية سياسية تساهم في اعاقة التغيير، بدلًا من إيجاد حلول فعلية.
نظم تجمع السودانيين بالخارج لدعم الثورة ندوة بعنوان: اتفاق سياسي ام مشروع انفصال لمناقشة توقيع الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال تحالفا مع قوات الدعم السريع واخرين، شارك فيها الأستاذ وائل محجوب، الكاتب الصحفي والمحلل السياسي، ود. عمر عبد الله عمر، نائب رئيس الحركة الشعبية شمال – مكتب الولايات المتحدة الأمريكية، فيما أدارت الندوة د. إشراقة مصطفى حامد، التي عبرت عن إدانة تحالف التأسيس، باسم التجمع الذي تمثل، و هو في تقدري تبني لموقف خفيف، متسرع ومشوش.
من خلال عنوان الندوة ذاته، يتضح أن الجهة المنظمة حسمت موقفها مسبقًا، حيث تم تصوير تحالف التأسيس وكأنه تحالف انفصالي، رغم أن الوثائق الصادرة عنه جاءت مباشرة في تأكيدها على وحدة السودان وفق أسس جديدة تقوم على العدالة والمواطنة المتساوية. يبدو أن التخوف من أي مشروع سياسي يأتي من خارج البنى التقليدية السياسية والاجتماعية هو الدافع الأساسي وراء هذا التخوف، مما أدى إلى موقف عدائي غير موضوعي، بني على افتراضات مسبقة، وليس على تحليل حقيقي لمضامين التحالف وأهدافه.
ويظهر هذا النهج الانتقائي بوضوح في الجدل الدائر حول تحالف الحركة الشعبية مع قوات الدعم السريع، عبر عن هذا الأستاذ وائل محجوب واحدي المتداخلات باعتبار التحالف مع الدعم السريع خطوة غير أخلاقية بالنظر إلى سجل هذه القوات في انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب، والجرائم ضد الانسانية. آخرون يعتبرو ان هذا التحالف خطوة براغماتية ضرورية لإنهاء الحرب، استنادًا إلى مفهوم التفاهمات السياسية كأداة رئيسية في عمليات السلام، وهو مبدأ أساسي في كل تجارب إنهاء الحروب الأهلية عالميًا وعبر التاريخ، فالحروب لا تتوقف لوحدها.
المفارقة الكبرى أن القوى المدنية التي تهاجم اليوم الحركة الشعبية بسبب تحالفها الأخير، هي ذاتها التي كانت في السابق شريكة لنفس قوات الدعم السريع في تحالفات سياسية ودستورية، بل ووقّعت معها اتفاقيات، بما في ذلك الوثيقة الدستورية لعام 2019! ومع ذلك، لم تخضع تلك القوى لأي مستوى مماثل من الإدانة أو التشكيك رغم تجاوزات الدعم السريع في دارفور وجبال النوبة والنيل الازرق، ما يعكس ازدواجية صارخة في معايير التقييم السياسي والاخلاقي. هذه المواقف المتناقضة تكشف عن نهج انتقائي يتجاهل الحقائق على الأرض، ويتعمد تقييم التحالفات بناءً على المصالح الضيقة، لا على مبدأ أخلاقي ثابت!
ما يجري اليوم في السودان ليس مجرد خلاف سياسي عابر، بل هو صراع جوهري حول مستقبل السودان ووجوده، بين قوى تحاول إعادة إنتاج النظام القديم بآلياته المهترئة، وقوى أخرى تسعى إلى إعادة تأسيس الدولة على أسس المواطنة، العدالة، والمساواة. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: لماذا تقيم الحركة الشعبية وفق معايير لم تُطبق على القوى السياسية والمدنية الأخرى، كما حاول البعض في هذه الندوة؟ واضح ان الرفض الحقيقي لهذا التحالف ناتج عن مخاوف النخب التقليدية من أي مشروع سياسي لا يأتي من داخل دوائرها الضيقة قد يفقدها امتيازات ما مادية او معنوية!
التحالفات السياسية: بين الضرورات الأخلاقية والواقع السياسي:
هل يمكن إنهاء الحرب دون تفاهمات مع القوى المتحاربة؟ يبدو أن بعض القوى المدنية السودانية تعتقد أن الحرب يمكن أن تتوقف ببيان حالم أو منشور ثوري غاضب، دون الحاجة إلى مفاوضات مع الأطراف المتحاربة! وكأن الحروب تنتهي بالتمنيات الحسنة وليس عبر تفاهمات واصتطافات سياسية وعسكرية واقعية.
الحقيقة البسيطة التي يرفض البعض مواجهتها هي أن أي حرب لا يمكن إنهاؤها دون الدخول في تفاهمات مباشرة مع الأطراف المتحاربة، حتى وإن كانت هذه الأطراف قد ارتكبت جرائم حرب أو انتهاكات جسيمة. هذه ليست وجهة نظر وحسب، بل حقيقة تاريخية تؤكدها جميع تجارب إنهاء النزاعات المسلحة حول العالم. حتى القوى التي ارتكبت أفظع الجرائم، كما في جنوب إفريقيا، رواندا، أو حتى في أوروبا، كانت جزءًا من عمليات السلام التي أنهت الصراعات. في هذا السياق، نجد أن الدستور الانتقالي والوثائق الموقعة تؤكد بشكل واضح أن السلام هو أحد الأهداف الرئيسية للحركة الشعبية، ويتم تحقيقه عبر آليات متعددة، من بينها التفاوض والتحالفات السياسية، وكذلك النضال المسلح وفقًا لرؤية الحركة الشعبية كما عبرت عنها في وثائقها الأساسية.
المفارقة أن القوى المدنية السودانية، رغم ضعفها وتخبطها السياسي، ترفع شعارات وقف الحرب لكنها ترفض كل الإجراءات العملية لتحقيق ذلك! هذا التناقض يكشف عن نهج مثالي منفصل عن الواقع، حيث تتجنب هذه القوى اتخاذ قرارات صعبة، مكتفية بإدانة أي تحرك جاد لإنهاء الصراع. إن محاولة النيل من الحركة الشعبية بسبب تحالفها مع أحد أطراف الحرب لا تعكس سوى استعلاء طوباوي على الحقائق السياسية، فالصراع في السودان لن ينتهي بالشعارات، بل عبر خيارات صعبة تتطلب شجاعة وواقعية، وهو ما يواجهه تحالف التأسيس بوعي ومسؤولية، سعيًا نحو حل مستدام بتأسيس وطن.
الشرعية الدستورية وصناعة الدساتير: بين الإقصاء والتناقضات السياسية
هل ثمة طريقة واحدة لصياغة الدساتير؟
من القضايا التي طرحها الأستاذ وائل محجوب في انتقاده لتحالف التأسيس هي أن هذا التحالف قدم مسودة دستور انتقالي لعام 2025 دون المرور بالية لصناعة الدستور تشترط المشاورات المجتمعية الواسعة. ويستند في حجته إلى أن الدساتير يجب أن تُصاغ وفق مشاركات و استشارات شاملة، مشيرًا إلى عمليات صناعة الدساتير حتي التي تمت خلال فترة حكم الإسلاميين، أجرت مشاورات مجتمعية واسعة آنذاك.
الأستاذ وائل يتجاهل عدة حقائق جوهرية، أولها أن المشاورات المجتمعية ليست الطريقة الوحيدة لصياغة الدساتير، وثانيها أن استخدام هذه الآلية في الماضي لم يمنع إنتاج دساتير إقصائية كرست الاستبداد، وثالثها أن السودان خارج من تجربة استبدادية طغت فيها الأيديولوجيا الدينية على كل مناحي الحياة، مما يتطلب إعادة هيكلة جذرية لا تخضع لشروط القوى التقليدية التي كانت جزءًا من المشكلة.
التناقض في خطاب النخب السياسية: الأستاذ وائل محجوب نموذجًا:
عند الحديث عن صناعة الدساتير والشرعية التمثيلية، يبرز سؤال جوهري: هل تمت استشارة جميع مكونات الثورة عند صياغة الوثيقة الدستورية لعام 2019؟ الإجابة ببساطة هي لا. فقد تمت صياغتها من قبل تحالفات مدنية ضيقة الأفق والتمثيل (قوي الحرية والتغيير) لم تعكس هذه المجموعة التنوع الحقيقي للقوى التي أسقطت نظام الانقاذ، بل تنكرت لها ولرؤيتها الثورية، ولم تشمل الفاعلين السياسيين والمجتمعيين الذين تحملوا عبء النضال المدني والعسكري على مدى عقود. ورغم ذلك، دافعت تلك القوى عن شرعية الوثيقة الدستورية دون مساءلة أو مراجعة حينها.
واليوم، تجد النخب ذاتها التي أبرمت تحالفات سياسية ودستورية مع الجيش السوداني وقوات الدعم السريع نفسها في موقع الاتهام، متهمةً تحالف التأسيس والحركة الشعبية بالإقصاء، رغم أنها لم تستشر الحركة الشعبية أو القوى الثورية الأخرى عندما عقدت شراكاتها مع ذات الجهات التي ارتكبت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان!
ورغم أن تلك الاتفاقيات كانت تحالفات سياسية مصيرية، لم تطرح هذه النخب أي تساؤلات أخلاقية حول مشروعيتها آنذاك، ولم تشكك في مبدأ الشراكة مع تلك القوى، لأنها ببساطة كانت تخدم أجندتها السياسية. أما اليوم، حين اختارت الحركة الشعبية بناء تحالفاتها وفق رؤيتها المؤسسية واستراتيجيتها السياسية، بات المبدأ ذاته مرفوضًا، وهو ما يكشف ازدواجية المعايير والنفاق السياسي الذي تحكم به بعض القوى مواقفها تجاه الصراع السوداني.
والسؤال، لماذا يحق لهذه القوى اتخاذ قرارات مصيرية دون مساءلة، بينما تحاول فرض الوصاية على الحركة الشعبية عندما تتخذ قراراتها بناءً على رؤيتها الوطنية ومصلحة قواعدها؟ هذا التناقض الفاضح يعكس انتقائية سياسية متكررة في تحديد موازين الشرعية، حيث تُفرض معايير مزدوجة على الفاعلين السياسيين وفقًا لمواقعهم داخل المنظومة التقليدية للسلطة، وليس استنادًا إلى مبادئ موضوعية وعادلة.
الان لنعلق علي ادعاء الأستاذ وائل محجوب وغيره حول صناعة الدستور:
شرعية صناعة الدساتير: هل تعتمد فقط على الانتخابات أو المشاورات الجماهيرية الواسعة ؟
يقدم الأستاذ وائل حجة مفادها أن أي دستور يجب أن يكون وليد عملية تشاورية واسعة تشمل جميع القوى السياسية والمجتمعية، ولكن التاريخ السياسي والدستوري يثبت أن العديد من الدساتير المؤثرة لم تُكتب بهذه الطريقة، بل جاءت نتيجة تفاهمات بين نخب سياسية، أو صراعات داخلية، أو حتى قرارات فردية لزعماء سياسيين. ومن أبرز الأمثلة:
١/ الدستور الأمريكي (1787): شرعية النخب لا الانتخابات!
لم يتم إقرار الدستور الأمريكي عبر استفتاء شعبي شامل، بل تمت صياغته خلال مؤتمر فيلادلفيا عام 1787، حيث اجتمع 55 مندوبًا يمثلون الولايات الـ13، وتم التفاوض بين النخب السياسية والاقتصادية حول شكل الحكومة الفيدرالية.
لم يكن للفئات المهمشة، مثل النساء والسود والطبقات الفقيرة، أي صوت في هذه العملية، ومع ذلك، أصبح الدستور الأمريكي أحد أكثر الدساتير استدامة وتأثيرًا في العالم.
٢/ الدستور الفرنسي (1791 و1958): ثورة لم تشمل الجميع!
جاء دستور 1791 نتيجة للثورة الفرنسية لكنه لم يكن وليد توافق شعبي شامل، بل فرضته القوى الثورية دون استشارة جميع الفئات.
أما دستور الجمهورية الخامسة عام 1958، فقد صاغه الجنرال شارل ديغول ونخبة من الخبراء، كرد فعل على أزمة الجزائر، ولم يكن نتيجة استفتاء شعبي او استشارات واسعة.
٣/ دستور جنوب إفريقيا (1996): التفاوض بدل الثورة!
بعد سقوط نظام الفصل العنصري، لم تتم صياغة الدستور عبر استفتاء جماهيري، بل تم التفاوض بين حزب المؤتمر الوطني بقيادة نيلسون مانديلا، وحزب المؤتمر الوطني الذي كان يمثل نظام الفصل العنصري.
٤/ دستور الهند (1950): نخبة سياسية حددت المسار!
لم يأتِ دستور الهند نتيجة لثورة شاملة أو استفتاء، بل تم وضعه بواسطة جمعية تأسيسية شكلها حزب المؤتمر الهندي واستبعدت جماعات سياسية أخرى.
ما الذي نستخلصه من هذه النماذج؟
توضح هذه التجارب أن شرعية الدساتير لا تُستمد فقط من الانتخابات أو المشاورات الجماهيرية الواسعة، بل من قدرتها على معالجة الأزمات والتأسيس لدولة مستقرة. فإذا أخذنا بمنطق الأستاذ وائل، فإن دستور الولايات المتحدة الذي أُقر عام 1787 رغم احتوائه على مواد تجيز الرق، ودستور جنوب إفريقيا الذي صيغ عبر تفاهمات بين النخب دون مشاركة جميع السكان الأصليين، كانا غير شرعيين فقط لأنهما لم يكونا نتاج ثورات شاملة أو استفتاءات جماهيرية واسعة.
لكن الحقيقة أن الشرعية الدستورية لا تُقاس فقط بالإجماع الشعبي عند لحظة التأسيس، بل بمدى قدرتها على تحقيق العدالة والاستقرار. فكثيرٌ من القوانين التي أقرتها أغلبية ديمقراطية لم تكن عادلة ولا أخلاقية، مثل قوانين الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وقوانين العبودية في الولايات المتحدة، والتي كانت “ديمقراطية” من حيث الإجراءات، لكنها لم تكن منصفة، عادلة أو أخلاقية!
ولهذا السبب، وضعت الحركة الشعبية مبادئ فوق دستورية – أي مبادئ تأسيسية لا يمكن إلغاؤها أو تعديلها، لضمان أن تكون أسس الدولة السودانية قائمة على العدالة والمواطنة المتساوية، وليس على إرادة الأغلبية وحدها، التي قد تستخدم سلطتها لإعادة إنتاج التمييز والتهميش عبر أدوات ديمقراطية شكلية.
يتواصل المقال في الجزء الثاني: