حينما يفقد “عيال المندكورات” امتيازاتهم.. يبدأ الصراخ! مأساة النخب، دكتور عبد الله علي إبراهيم نموذجا: 3-3

✍️🏽 خالد كودي، بوسطن، مارس 2025

 

مقدمة الجزء الثالث: السودان الجديد.. لا وقت للمراوغات:

في الجزأين السابقين، استعرضنا كيف أن السودان الجديد يتشكل خارج قبضة النخب التقليدية، بل وخارج وعيها غير متوقف عليه، وكيف أن الخطاب المراوغ والمحتال حول “الدولة المدنية” لم يعد كافيًا لتغطية عجز تلك النخب عن تقديم مشروع حقيقي قائم على المواطنة المتساوية. أوضحنا كيف أن الوثيقة التأسيسية والدستور الانتقالي قدما رؤية واضحة لحسم القضايا الجوهرية التي ظلت تُستخدم كأدوات للهيمنة منذ الاستقلال، وأثبتنا كيف أن رفض العلمانية ليس موقفًا فكريًا أو دينيًا، بل استراتيجية غريزية للحفاظ على الامتيازات القديمة.

في هذا الجزء الثالث والأخير، سنتناول كيف أن السودان الجديد لم يعد بحاجة إلى إجازة من النخب التقليدية، ولم يعد ينتظر من يتقبل أو يرفض أسسه الجديدة. فقد بدأت مرحلة التأسيس الحقيقي لدولة المواطنة المتساوية. الخيار اليوم واضح إما الانحياز لمستقبل قائم على العدالة والديمقراطية واللامركزية، أو البقاء أسرى أوهام الماضي في دولة لم يعد لها وجود.

اليوم، تقف القوى السياسية السودانية أمام مفترق طرق تاريخي لا يحتمل أنصاف الحلول، فإما أن تواصل تحالفها مع النظام العسكري الإسلامي بزعامة عبد الفتاح البرهان، أو تنحاز إلى مشروع السودان الجديد القائم على العلمانية، الديمقراطية، واللامركزية، حيث تُبنى الدولة على أسس العدالة والمواطنة المتساوية، بعيدًا عن الامتيازات التاريخية الموروثة.

الخيار الأول: السودان القديم تحت حكم البرهان والوثيقة الدستورية المعدلة:

بعد أن أطاح بشركائه المدنيين في انقلاب اكتوبر 2021/ 25/ عمد البرهان إلى تفصيل الوثيقة الدستورية على مقاس سلطته المطلقة، محولًا الدولة السودانية إلى نظام عسكري استبدادي بغطاء قانوني، يُعيد إنتاج نفس الهياكل القمعية التي دمرت السودان لعقود.

كيف كرس البرهان سلطته المطلقة عبر التعديلات الدستورية؟

إلغاء مجلس السيادة كجسم تشاركي وتحويله إلى أداة بيده./ ١

بعد أن كان مجلس السيادة مكونًا من عسكريين ومدنيين يمثلون مختلف القوى السياسية والاجتماعية، أصبحت كل سلطات المجلس متركزة بيد البرهان، مما حوله إلى حاكم مطلق.

٢/ منح نفسه سلطة تعيين وعزل الوزراء والولاة دون مشاورة أي جهة.

في تعديلاته، ألغى البرهان أي دور للمدنيين في اختيار الحكومة، ومنح نفسه الحق في تعيين رئيس الوزراء، والوزراء، وولاة الولايات، متجاوزًا أي تمثيل شعبي أو حزبي.

٣/ تكريس هيمنة الجيش على السلطة السياسية

التعديلات الدستورية أبقت على سيطرة الجيش على كل مفاصل الدولة، وكرست هيمنته على الاقتصاد، دون أي آلية لمحاسبته على الانتهاكات أو الفساد

٤/ إعفاء القوات النظامية من المساءلة والمحاسبة:

حصّنت التعديلات أفراد الجيش والمليشيات الأخرى من أي محاكمات مستقبلية، مما أعاد إنتاج سياسة الإفلات من العقاب التي كانت السبب الرئيسي في استمرار جرائم الحرب والانتهاكات ضد المدنيين.

٥/ إلغاء أي التزام بفصل الدين عن الدولة، وإبقاء الباب مفتوحًا لتطبيق الشريعة الإسلامية:

أبقت الوثيقة المعدلة على الصياغات الغامضة حول الدين، مما يفتح المجال أمام الإسلاميين لإعادة فرض هيمنتهم على التشريعات والقوانين.

٦/ ترسيخ الدولة المركزية وهيمنة الخرطوم على حساب الأقاليم

لم تتضمن الوثيقة أي إصلاح حقيقي لتوزيع السلطة والثروة، بل أبقت على هيمنة المركز، وحرمان الأقاليم المهمشة من إدارة شؤونها.

الخيار الثاني: السودان الجديد وفقًا للميثاق التأسيسي والدستور الانتقالي

على النقيض، يمثل الميثاق التأسيسي والدستور الانتقالي رؤية حقيقية لقطيعة مع الماضي الفاشل، وبناء دولة جديدة، قائمة على أسس المواطنة المتساوية والعدالة الشاملة

كيف يتفوق الميثاق التأسيسي والدستور الانتقالي على التعديلات الدستورية للبرهان؟

١/ إقرار المواطنة كقاعدة وحيدة للحقوق والواجبات

ينص الدستور الانتقالي بوضوح على أن السودانيين متساوون بغض النظر عن العرق، الدين، أو الإقليم، مما ينهي عقودًا من التمييز والإقصاء

٢/ فصل الدين عن الدولة بشكل صريح ونهائي

خلافًا للوثيقة المعدلة، تم حسم مسألة العلاقة بين الدين والدولة بشكل واضح، حيث تم التأكيد على أن الدولة السودانية ستكون علمانية بالكامل، مما يحمي الحقوق الدينية لجميع المواطنين، ويمنع استخدام الدين كأداة سياسية

٣/ إلغاء المركزية واتباع نظام فيدرالي حقيقي

بدلًا من هيمنة الخرطوم، يضمن الدستور الانتقالي تقاسم السلطة بين الأقاليم، بحيث تتم إدارة الموارد محليًا لصالح سكان المناطق، وليس لصالح النخب في المركز.

٤/ إعادة بناء الجيش وفق عقيدة مهنية وطنية

ينص الميثاق التأسيسي على تفكيك الجيش الحالي والمليشيات الموازية، وإعادة بنائه على أساس وطني، بحيث يصبح مؤسسة مهنية محايدة، لا تتدخل في السياسة.

٥/ إرساء العدالة التاريخية وإنهاء الإفلات من العقاب

على عكس تعديلات البرهان، يضمن الدستور الانتقالي محاسبة كل من ارتكب جرائم حرب أو انتهاكات ضد حقوق الإنسان، بغض النظر عن منصبه.

٦/ تحقيق عدالة اقتصادية وإنهاء احتكار الثروة

سيتم إلغاء سيطرة الجيش على الاقتصاد، وإعادة توزيع الموارد الوطنية بعدالة بين الأقاليم، مما ينهي احتكار النخب لمقدرات البلاد.

لماذا تهاجم النخب التقليدية الميثاق التأسيسي والدستور الانتقالي؟

إن الرفض الهستيري للميثاق التأسيسي والدستور الانتقالي لا يعود إلى أي قصور في محتواهما، بل لأنهما يمثلان أول محاولة حقيقية لإنهاء الامتيازات التاريخية التي تمتعت بها النخب التقليدية.

• هذه النخب لم تعرف يومًا كيف تدير السودان إلا عبر الإقصاء والهيمنة، وعندما واجهت مشروعًا حقيقيًا للمواطنة المتساوية، لم يكن لديها ما تقدمه سوى التشكيك والتخوين والصراخ.

• لم تقدم أي رؤية بديلة، لأنها ببساطة لا تؤمن بأي تغيير حقيقي، بل تفضل الاستمرار في المراوغة والاحتيال، كما فعلت خلال كل الفترات الانتقالية السابقة.

السودان الجديد قادم.. والاختيار واضح

لم يعد هناك مجال للتردد أو الوقوف في المنطقة الرمادية. السودان اليوم أمام مفترق طرق، وخياران لا ثالث لهما

١/ البقاء في قبضة الدولة العسكرية الاستبدادية التي رسّخها البرهان وحلفاؤه الإسلاميون، حيث تُعاد إنتاج الامتيازات التاريخية، ويتم تكريس القمع والتمييز، في محاولة يائسة للحفاظ على نظام حكم فاشل، قائم على القهر والاستبداد والعنصرية.

٢/ الانحياز إلى السودان الجديد، القائم على الديمقراطية، العدالة، والعلمانية، حيث المواطنة المتساوية هي المبدأ الحاكم، ولا أحد يمتلك حقًا مقدسًا في السيطرة على الآخرين باسم العرق أو الدين أو المركزية السياسية.

التعديلات الدستورية التي أدخلها البرهان لم تكن مجرد إجراءات قانونية، بل كانت آخر محاولات الطغمة العسكرية لإطالة عمر نظامها القمعي، وإبقاء السودان أسيرًا لدوامة الديكتاتورية والفشل. لكن السودان الجديد لا ينتظر إذنًا من أحد. لقد بدأ يتشكل، ومن لم يلتحق به سيجد نفسه محاصرًا في ماضٍ انتهت صلاحيته، في دولة صنعتها الامتيازات التاريخية، لكنها فقدت شرعيتها إلى الأبد.

السودان الجديد قادم.. برضا النخب القديمة أو بدونها:

ما يحدث في السودان اليوم ليس مجرد إعادة ترتيب لموازين القوى، بل هو إعادة تعريف كاملة للهوية الوطنية، وإعادة توزيع للسلطة والثروة، وترسيخ لمفهوم الدولة الحقيقية، التي تنتمي إلى جميع مواطنيها، وليس إلى قلة تحتكرها منذ الاستقلال.

عبد الله علي إبراهيم وأمثاله يمكنهم الاستمرار في الإنكار والمكابرة ، والتعلق بأوهام دورهم المركزي في تحديد مستقبل السودان، لكن الحقيقة واضحة انتهى عهد النخب التي اعتقدت أن السودان إرثٌ خاص لها، تتحكم فيه كما تشاء، وتحدد من يحكم ومن يُحكم.

: السودان الجديد لا يحتاج إلى مباركتهم، ولن ينتظر موافقتهم

التاريخ لا يسير للخلف، والسودان الجديد يُكتب الآن بأيدي من دفعوا ثمنه غاليًا. أما أولئك الذين لا يزالون يتمسكون بالماضي البائد، فعليهم أن يسألوا أنفسهم هل سيظلون أسرى لنظام انتهى فعليًا، أم سينضمون إلى المستقبل الذي لا ينتظر أحدًا.

 

 

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.