تحالف الهمباته: و تفكيك التمركز النيلي ‏ (De-Nile-Centralization)

بقلم ✍️🏽/ عمار نجم الدين

 

 

المركزية العرقية في السياق السوداني تعني اعتبار ثقافة مجموعة معينة، مثل نخب نهر النيل يجعلوا  ‏-Nile-Centralisation، معيارًا لتقييم المجتمعات الأخرى، ما أدى إلى تهميش الأطراف كجنوب السودان و دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة. نشأت هذه النزعة خلال فترات الاستعمار التركي والبريطاني، حيث تحالفت النخب المحلية مع المستعمرين لتعزيز نموذج هيمنة عرقي وثقافي اعتبر ثقافتهم الأكثر تفوقًا وشرعية.

بعد الاستقلال، استمرت هذه النخب في استخدام الدين والعروبة كأدوات أيديولوجية لإقصاء المجتمعات غير المنتمية إلى المركز، مما أدى إلى انقسامات اجتماعية وعنف ممنهج. رغم تنوع السودان العرقي والثقافي، لم يُستفد من هذا التنوع في بناء مجتمع تعاوني، بل استُبدل الحوار بصراعات عنيفة.

*اختلال ميزان العدالة في توزيع السلطة في السودان*

 

تعكس الإحصائيات التاريخية لاختلال التوزيع الجهوي للمناصب الدستورية في السودان غياب العدالة بين المركز والأطراف. فقد احتكر المركز الشمالي معظم المناصب على مدى العقود المختلفة منذ الاستقلال حتى الان ، رغم قلة سكانه مقارنة بالأطراف الأخرى.

 

في العهد الوطني إلى الاستقلال (1954-1964)، حصل الشمال على 79.5% من المناصب رغم أن سكانه لم يتجاوزوا 5.4% ، بينما حُرمت أطراف الغرب من أي تمثيل. وخلال فترة الديمقراطية الأولى (1964-1969)، استحوذ الشمال النيلي على 67.9% من المناصب. واستمر هذا النمط في عهد نميري (1969-1985)، حيث حاز الشمال 68.7% من السلطة.

حتى في المجلس العسكري الانتقالي الأول بقيادة سوار الذهب (1985-1986)، نال الشمال النيلي 70% من المناصب، مع استمرار تهميش الأطراف. ورغم تحسن طفيف في الديمقراطية الثانية (1986-1989)، بقي التمثيل غير متوازن، حيث حصل الشمال النيلي على 47.4% من المناصب، في مقابل حصص متواضعة للأطراف، لا سيما الشرق.

تظهر هذه الإحصائيات أن التمييز العرقي والثقافي أدى إلى استبعاد الأطراف من مواقع السلطة، مما عمّق التهميش وأفقدها حق المشاركة العادلة.

الجزء الأول: نشأة التحالف وأثره على التوزيع الاجتماعي والاقتصادي في السودان

تاريخ السودان معقد، وقد تأثر بشكل كبير بتفاعل القوى الاستعمارية مع النخب المحلية. يعكس “تحالف الهمباته” هذا التفاعل بين المستعمرين الأتراك والبريطانيين ونخب نهر النيل و لكي لا يجرم خطابي لا اتحدث عن انسان وشعوب نهر النيل اتحدث النخبة النيلية ، حيث احتُكرت السلطة والثروة من قبل مجموعة صغيرة جدا مقارنة بغيرها في السودان .

تعود جذور هذا التحالف إلى معركة كورتي عام 1821، حيث هُزمت قبيلة الشايقية أمام إسماعيل باشا بن محمد علي. بعد المعركة، قام إسماعيل باشا بإكرام صفية بنت المك صبير وإعادتها إلى أبيها مُكرمةً ، مما شجع المك صبير على الاستسلام طائعًا والانضمام الى الحملة الاستعمارية . بالمقابل، جاء المك جاويش إلى إسماعيل باشا مع 200 رجل وانضم إلى جيش المستعمر. هذا الانضمام لم يكن مجرد تعاون عابر، بل أسس لولادة أول مليشيات غير نظامية تُعرف باسم “الباشبوزق” ،

تشير هذه الأحداث إلى أن النخب المحلية من الشمال النيلي لم تكتفِ بالاستسلام فحسب، بل أصبحت شريكًا فاعلًا في الاستعمار. إذ ساهمت في الغزو و في بناء هياكل السلطة التي استمرت حتى بعد الاستقلال. ورثت النخب الموالية للسلطة الاستعمارية، مثل نخب الشايقية والجعليين، الهيمنة السياسية والاقتصادية، مما جعلهم أكثر تعليمًا وتأهيلاً و فرضت معاييرها الثقافية على الآخرين بل و جعلتها مقياسا لغيرها من الثقافات في حين أن المجتمعات المهمشة، مثل جنوب السودان و النيل الأزرق النوبة ودارفور، عانت من الاستغلال والفقر و الاسترقاق من قبل المستعمر و من قبلهم بعد خروج الاستعمار وان منع الاسترقاق و لكن مازالت شروطه قائمة على مستوى التراتيبية الاجتماعية و توزيع السلطة و الثروة في السودان .

بعد انتهاء الاستعمار التركي والبريطاني، ورثت النخب المحلية نفس البنية العسكرية التي تم تشكيلها خلال فترة الاستعمار، والتي اعتمدت على العنف كوسيلة لفرض السيطرة و الحفاظ على الامتيازات التي تم وراثتها من المستعمرين . استمرت هذه النخب في استخدام الجيش لصنع مليشيات على نمط الباشبوزق كأدوات قمع، مما أدى إلى استمرارية الاستبعاد الاجتماعي والاقتصادي للعديد من المناطق، خاصة تلك التي يقطنها السكان المهمشون.

لم يقتصر الأمر على الهيمنة الاقتصادية فحسب، بل استخدمت هذه النخب الدين والعروبة كأدوات تمييز، مما عزز الفجوات الثقافية والاجتماعية. كان هذا النهج مدفوعًا بالرغبة في الحفاظ على السيطرة، حيث استُخدم الدين كذريعة للعنف والقمع.

لم تقتصر هذه الهيمنة على الفئات المهمشة فقط، بل استهدفت أيضًا الفئات التي كانت تتطلع إلى التحرر من القيود المفروضة عليها. على سبيل المثال، استخدمت النخب الهمباتية الدين والعروبة كأدوات للتفرقة العرقية والهيمنة الثقافية، حيث كانت الرواية السائدة تدور حول ضرورة الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية للصراع

الاستغلال الاقتصادي والتهميش

أن سياسات النخبة الحاكمة أدت إلى تركز الثروة والموارد في يد فئة محدودة، بينما عانت المناطق المهمشة من الفقر والحرمان. فعلى الرغم من غنى السودان بالموارد الطبيعية، إلا أن العديد من هذه المناطق، مثل دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة، تعاني من مستويات عالية من الفقر . هذا الاستبعاد العرقي و الثقافي و التهميش الاقتصادي قد ساهم بشكل كبير في تصاعد النزاعات، حيث شعرت المجتمعات بأنها محاصرة وغير قادرة على الوصول إلى مواردها الطبيعية.

للتغلب على إرث تحالف الهمباته، يجب على السودان تبني نموذج جديد يركز على الشراكة والعدالة الاجتماعية بين جميع مكونات المجتمع. ينبغي أن تكون الخطوات الأساسية في هذا التحول إعادة هيكلة مؤسسات الدولة، وخاصة العسكرية، لضمان عدم استخدامها كأدوات قمع. يجب أن تعكس هذه المؤسسات قيم العدالة والمهنية، بعيدًا عن السياسة.

مع استمرار الصراع على الهوية والمكانة في السودان، يبرز تحدٍ كبير يتعلق بإعادة تشكيل الدولة على أسس جديدة تتجاوز النماذج الإقصائية السابقة. تاريخيًا، بُنيت الدولة السودانية على هيمنة المركز، الذي يحتكر السلطة السياسية والاقتصادية والثقافية، ويُقصي الأطراف والمجموعات الإثنية والثقافية التي لا تنتمي إلى الهوية المركزية المفروضة. هذه الهيمنة أثرت بشكل كبير على تشكل الدولة الحديثة وعمقت مشكلات عدم المساواة والتهميش، مما أدى إلى تفجر صراعات طويلة الأمد.

 

في الختام، فإن تحالف الهمباته المركزي لم يكن مجرد تحالف عسكري-سياسي عابر، بل كان قاعدة الهيمنة التي أرستها النخب المتحالفة مع المستعمرين الأتراك والبريطانيين، والتي استمرت في استغلال السودان لعقود طويلة. هذا التحالف أدى إلى تكوين دولة هشة قائمة على الإقصاء والتمييز العرقي والديني، ما أسهم في تفكك السودان وزيادة النزاعات.

إذاً من أجل تخطي هذه العقبات، لا بد من التفكير في إعادة بناء العقد الاجتماعي السوداني على أسس من العدالة والمساواة والاعتراف بالتنوع. هذا يعني إعادة النظر في هيكل الدولة السودانية، ومراجعة التصورات القديمة حول مفهوم الهوية الوطنية. إن التعريف الحصري للسودان على أساس العروبة الإسلامية لم يعد يتماشى مع واقع البلاد وتنوعها، وبالتالي فإن هذا النموذج بحاجة إلى تغيير جذري.

 

—————————————–

1/ تفكيك التمركز النيلي (De-Nile-Centralization):

قمت بصياغة هذا المصطلح الذي يشير إلى عملية إعادة توزيع السلطة والثروة بشكل عادل، وتفكيك الأنظمة التي تستند إلى المركزية العرقية والثقافية، بهدف تحقيق التوازن بين المركز والهامش في السودان و يعكس الطبيعة البنيوية للصراع في السودان، حيث تقوم النخب المركزية بفرض هيمنتها الثقافية والعرقية، مما يدفع الأطراف إلى تبني مواقف مقاومة لتحقيق العدالة عبر أشكال مختلفة من الثورات

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.