نُخَب الوسط والشمال النيلي وفقدان أهلية إدارة الدولة.

متوكل عثمان سلامات

 

ظلت قوانين المعاملات المدنية في الدول تتكفل بتفصيل أهلية الأشخاص الطبيعيين والإعتبارين الذين بمقدورهم القيام بكل الإلتزامات المدنية متى ما توفرت لديهم هذه الشروط ولا تشوبها أي عارض من العوارض، لذا بشكل عام يُعرّف بعض فقهاء القانون الأهلية بأنها صلاحية الشخص لأن تُقرر له او عليه الحقوق ولأن يباشر بنفسه الأعمال القانونية والقضائية المتعلقة بهذه الحقوق. وبناءً على هذا التعريف يمكن أن تكون هناك أهلية للحكومات بإعتبارها شخصيات إعتبارية ويتكفل بها القانون الدستوري، كما يشار إليها في دساتير الدول ويفصّل في قانون الإنتخابات من حيث شرعيتها، وأهلية الأشخاص الطبيعيين شاغلي الوظائف الدستورية والقيادية من حيث شروط أهلية شغل المناصب /الوظائف التشريعية والتنفيذية والقضائية، وهي الأهلية التي نحن بصددها في هذا المقال، كما وأن هناك أهلية الدولة (الدول) وينظمها بشكل أساسي القانون الدولي العام وهي الأهلية التي ما أن توفرت شروطها تصبح الدولة صالحة لإكتساب او الحصول على عضوية المجتمع الدولي (الأمم المتحدة) والمجتمع الإقليمي (الإتحاد الإفريقي)، وهي أهليات يمكن أن تعتريها بعض العوارض او فقدان بعض الشروط التي تجعل الحكومة او الدولة تفقد أهليتها، كتلك التي تشوب او تعتري أهلية الشخص العادي، كأن تصاب الحكومة او الدولة بالسفه او العته او الجنون، (إشارات وحديث البرهان، وقبله البشير ونافع وغيرهم) ؟؟، لذا تجد بعض الدول او بعض الحكومات تبحث دائماً عن (ولاية او وصاية او قوامة) من دولة أخرى (السودان نموذجاً)، وما يؤسفنا أن كل الذين تناوبوا على حكم الدولة السودانية منذ خروج المستعمر وحتى الآن كانوا من كيانات ومكونات الوسط والشمال النيلي دون سواهم من الشعوب السودانية.
المتابع للتاريخ السياسي السوداني قبل خروج المستعمر بقليل وبعده يدرك تماماً مدى الدمار والخراب الذي أحدثته ومازالت تحدثه نخب مكونات الوسط والشمال النيلي بالدولة السودانية، وتثبت في كل مرة للسودانيين وكل المجتمع الإقليمي والدولي أنها فاقدة تماماً لأهلية حكم وإدارة الدولة السودانية ولا يمكن أن تؤتمن على المصالح العليا او غيرها من مصالح الشعوب السودانية، فالأمر يدعونا بكل جد إلى مراجعة أهلية شغل الوظائف الدستورية والقيادية.

في الفترة ما قبل الفترة الإنتقالية الأولى، ونقصد بها هنا الفترة التي إشتملت على ترتيبات خروج المستعمر البريطاني والمصري والتي هيمن المستعمر على كل شئ فيها ووجهها وفق مصالحه بعيداً عن إرادة كل السودانيين وتحقيقاً لإرادته في مواصلة الإستعمار غير المباشر من خلال الخروج الصوري والوجود الفعلي المتمثل في بعض السودانيين الشماليين الذين سيشكلون فيما بعد وكلاؤهم في المحافظة على وإدارة بنية الدولة الإستعمارية التي بقيت حتى اليوم، وقد شكل هؤلاء السودانيين الشماليين مع بعض نخب الوسط نواة ما بات يعرف في أدبيات السياسة السودانية بـــمكونات الوسط والشمال النيلي الذين زوروا إرادة السودانيين فيما يتعلق بهوية الدولة السودانية، وظلت هذه المكونات والكيانات موحدة في رؤاها لحكم وإدارة الدولة سواء كانوا في المعارضة او الحكم، وسواء كانوا مدنيين أو عسكر. وتعد تلك الفترة أي الفترة الإنتقالية الأولى من أخطر الفترات التي ألقت بظلالها على مستقبل السودان فيما بعد بإعتبارها شكلت منصات التأسيس الخاطئة من خلال مؤتمرات وحوارات ومؤسسات قادت للتشوهات والإختلالات المستقبلية الملازمة للدولة السودانية بعد خروج المستعمر إلى يومنا هذا. وما الفيديو المتداول في وسائط التواصل الإجتماعي منذ الأمس ويظهر طبيعة المعاملة الرسمية القاسية وغير الإنسانية من قبل السلطات وبعض المواطنيين في ولاية نهر النيل للسودانيين المنحدرين من خارج تلك الولايات وغيرها من الممارسات الموثقة في ذاكرة الشعوب السودانية إلا القليل من تلك التشوهات والتي تؤكد للأسف وبإستمرار أن بعض كيانات ومكونات الوسط والشمال النيلي من خلال التجربة العملية في حكم البلاد تفتقر للحكمة والنزاهة والإخلاص والأمانة للوطن والمواطن وتسيطر عليها روح العنصرية والمؤامرات والأنانية وعقلية {الفارس الجهجاه}، فهي عقلية لا تستطيع أن تحكم السودان إلا من خلال جهجهة السودانيين وجعلهم عرب اومسلمين او الإثنين معاً ولو كذباً، وحتى في هذا فشلت تماماً، فهي مكونات غير قادرة على قبول التنوع والتعدد والإختلاف وبالتالي يصعب عليها إدارة ذلك الواقع السوداني المعاصر، لذا فشلت تاريخياً في إحداث أي إنتقال صحيح او تحول ديمقراطي، وتعمل الآن بكل همة وتناغم لتضليل المجتمع الإقليمي والدولي للإبقاء على بنيات الدولة المختلة والمشوهة والمنتجة للعنصرية والكراهية، وهي بالتالي فاقدة للأهلية الكافية التي تجعلها تستمر في حكم وإدارة الدولة السودانية للأسباب الآتية:

أولاً: غياب الإرادة الصادقة، وإصرار بعض سودانيي الوسط والشمال النيلي وتنظيماتهم السياسية على فرض الدولة الدينية والإبقاء على بنيتها سواء بشكل مباشر او غير مباشر في تناقض واضح مع التنوع والتعدد الذي يشكل المكون البشري للدولة وفشلهم المستمر في إدارة ذلك التنوع، ورفضهم غير المبرر للدولة العلمانية الموحدة طوعياً، التي تحقق العدالة والمساوة وتنجز التحول المدني الديمقراطي الحقيقي، وتحترم إرادة الشعوب السودانية في فضاء من الحرية.

ثانياً: إصرار بعض السودانيين الشماليين الذين سلمهم المستعمر الحكم على ممارسة الهيمنة والإستبداد على بقية السودانيين، ويرون أنهم وحدهم دون غيرهم من السودانيين يمتلكون الكفاءة لرئاسة الدولة وإدارة مؤسساتها الحيوية رغم فشلهم التاريخي.

ثالثاً: إصرار السودانيين الشماليين/ات على توثيق فترة حكم إسماعيل الأزهري بإعتبارها “الديمقراطية الأولى” بالرغم من عدم مشاركة السودانيين/ات المقصيين/ات من تدابير الإنتقال والسودنة، رسخ في عقل الإنسان السوداني الشمالي وبعض السودانيين فيما بعد أن الإنتخابات حتى وإن لم يشارك فيها جميع السودانيين/ات، او تتوفر فيها الحد الأدنى من شروط القبول فهي “ديمقراطية”، وأن العملية الإنتخابية معني بها السودانيين الشماليين/ات او مكونات الوسط والشمال النيلي فقط، رغم أن هذا السبب تاريخي إلا أن العقلية مازالت موجودة وتقاوم الفهم المغاير من خلال تصدير النواب وشراء الزمم والتزوير الذي يبدأ من السجل الإنتخابي وينتهي بسرقة أصوات الناخبين.

رابعاً: عدم قدرة بعض السودانيين الشماليين على القبول بسودانيين المناطق المقفولة تاريخياً وغيرهم والسعي المستمر لإقصائهم وتهميشهم وإبادتهم بالإهمال والفتن والجهاد في ظل الوحدة القسرية القائمة على الفكر الإسلاموعروبي، وفي ذات الوقت يستنكرون حق السودانيين في تلك المناطق المقفولة في حكم وإدارة الدولة، ويتم ذلك ببث “الهلع الإخلاقي” إمعاناً في الحط من كرامتهم، وتشبثاً بالإمتيازات التي حازوا عليها من المستعمر، وطمعاً في الموارد والثروات التي تزخر بها مناطقهم.
علماً بأنه تاريخياً كان إقليمي جبال النوبة والفونج وجزء من دارفور من الأقاليم التى كانت تدار في فترة الإستعمار الإنجليزي المصري بقانون المناطق المقفولة الذي أصدره السير/ لي إستاك الحاكم العام للسودان سنة 1922م، حيث ظلت إدارة هذين الإقليمين ككيانين منفصلين عن إدارة شمال السودان ولم يكونا جزءً منه إلا بعد إلغاء قانون المناطق المقفولة سنة 1952م أي قبل (4) أربع سنوات فقط من إستقلال السودان، وأصبح جزء من السودان إدارياً ولكن عملياً وموضوعياً ظلت حكومات الوسط والشمال النيلي المتعاقبة والمسماة جزافاً وإحتيالاً بــ(الحكومات الوطنية) تتعامل مع سكان هذه المناطق بإعتبارهم غير منتميين للدولة ولا يقبل بهم إلا بعد إبادتهم ثقافياً بأسلمتهم وتعريبهم، ويكون مصير الرافضين للأسلمة والتعريب هو التجريد من المواطنة وحقوقها او الإبادة الحسية.

خامساً: وضع دساتير مشوهة لا تعبر عن الشعوب السودانية وسيادتها، لذا فإن التشوه او الفراغ الدستوري الحالي، ما هو إلا نتاج للفراغ الدستوري التاريخي الناتج عن التأسيس الخاطئ، وفي ذلك الفراغ بيئة صالحة لإستمرار التشريع العبودي والديني الذي يشرعن إستمرار العبودية والرق والعنصرية التي مازالت تمارس حتى اليوم.

سادساً: ممارسة العنصرية المزدوجة والعمل على توسيع وتطوير خطاب الكراهية ضد السودانيين الآخرين الذين يتحدثون عن الحقائق بتجرد بغية المعالجة والتصحيح مما جعلهم يفتقرون لثقة الشعوب السودانية الأخرى.

سابعاً: عدم إحترام او وجود لمبدأ سيادة حكم القانون، ويسود عندهم دائماً وأبداً مبدأ الإفلات من العقاب حتى ولو إرتكبوا الجرائم الكبرى مثل الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب او جرائم الخيانة العظمى التي يرتكبونها طيلة فترة وجودهم على سدة حكم الدولة، على نحو ما قيل “البشير جلدنا ما بنجرو في الشوك”، وما تم على مستوى تزوير إرادة السودانيين فيما يتعلق بهوية الدولة، وعلى مستوى رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء والمؤسسات التنفيذية الأخرى، والبرلمان، والسلطة القضائية، فالقوانين لأنها قوانين عبودية فهي مصممة لتطبق على غير سودانيي الوسط والشمال النيلي “قانون الوجوه الغريبة” مثلاً، وكما تطبق تلك القوانين على بعض الخصوم السياسيين الصادقين في عدائهم لهذا السفه والعته والجنون السياسي والثقافي والإجتماعي والإقتصادي المستمر.

ثامناً: بتاريخ الخميس 18/9/2024م ناشد الرئيس الأمريكي جو بايدن الطرفين المتحاربين للعودة إلى طاولة المفاوضات، نشكر الجهد المتواصل للولايات المتحدة الأمريكية والأمم المتحدة والمملكة العربية السعودية وبعض دول الإتحاد الأوربي والإتحاد الإفريقي والإيقاد، وكل الدول الساعية لوقف الحرب في السودان، ولكن من المهم تنبيههم إلى أن وقف الحروب الحالية لاتعني إنهاء الحروب في السودان، فإنهاء الحروب تبدأ من معالجة الجذور التاريخية للمشكلة المسببة لها، كما ننبههم على أنهم يتعاملون مع مجموعة ورثت حكم السودان منذ خروج المستعمر فشلت تماماً في حكم الدولة بسبب نقضها المستمر للإتفاقيات والعهود، وتسعى بإستمرار لقطع الطريق أمام أي معالجة لجذور المشكلة المسببة للحروب بإنقلابات عسكرية مستمرة حفظاً على بنيات الدولة التي تمنحهم إمتيازات إحتكار السلطة ونهب الثروات وفرض الثقافة والدين واللغة على بقية السودانيين الأمر الذي يجعلها فاقدة لأهلية تحمُل أي مسؤلية لإدارة الدولة المتنوعة والمتعددة إثنياً وثقافياً ودينياً.

تاسعاً: التزوير المستمر للإحصاء السكاني لما له من إرتباط غير عادل بقضايا مصيرية مثل التنمية وتوزيع السلطة والثروة وهياكل الحكم.

عاشراً: التأسيس الخاطي، وعدم إستعداد السودانيين المشاركين في هذه الأخطاء لتصحيحها، وقد شابت ترتيبات خروج المستعمريين البريطانيين والمصريين فيما يوثّق ويجيير له في التاريخ السياسي السوداني جزافاً بــ”الحركة الوطنية”، عدة أخطاء ألقت بظلالها على مستقبل السودان فيما بعد، وقد أوردنا بعضها من قبل بالتفصيل في مرافعة (دولة جنوب السودان القادمة – منظور قانوني وسياسي)، يمكن الرجوع إليها. تظل مسألة إستمرار نخب الوسط والشمال النيلي في حكم وإدارة الدولة رغم عدم أهليتهم لأمر مقلق لكل مواطن سوداني واعي بطبيعة الصراع في دولته ويتمتع بوجدان سليم، لأن إستمرار هذه المكونات في الحكم فيه إهدار لمقدرات الشعوب السودانية ومواردها، وإصرار على إفشال أي إنتقال او تحول ديمقراطي، والسعي لإعادة إنتاج وإستمرار الأزمة، وزرع الفتن والمؤامرات بين المكونات السودانية الأخرى، وتقنين التهرب المستمر من معالجة جذور المشكلة.

لايمكن أن تتوفر إرادة حرة للسودانيين ويتجهوا نحو إنهاء الحروب ومعالجة جذور المشكلة السودانية من خلال معالجة أسباب تلك الحروب المستمرة وقضايا الإنتقال من مرحلة الحروب والإنتهاكات الإنسانية، والتي تقودهم لإحداث تحول ديمقراطي حقيقي تشريعاً، وقضاء وتنفيذاً، وسيادة حكم القانون، مالم تعي مكونات الوسط والشمال النيلي تلك أنها السبب في كل تلك البلاوي وفي تدمير السودان، وأصبحت غير مؤهلة للإستمرار في حكمه وإدارته، وبالتالي ينبغي عليها إفساح المجال للشعوب السودانية الأخرى والتي من بينها شرفاء تلك المكونات، المؤهلة لإدارة هذا التنوع والتعدد والإختلاف الذي هم جزء مهم فيه، وتضمن حرية الفكر والإعتقاد وممارسة الشعائر الدينية لكل السودانيين بإعتبارهم مواطنيين متساويين في الحقوق والواجبات في جو من الحرية والعدالة والمساواة بدون أي تمييز يقوم على أساس الجهة او النوع او العرق او الدين او اللون، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا في ظل دولة سودانية علمانية ديمقراطية لا مركزية ذات حكومة مدنية.

بالتأكيد أن البحث عن الحقيقة يجعلنا ندقق في الحاضر وننبُش في التاريخ السياسي السوداني بهدؤ ومثابرة ونحاول أن نعرض الوقائع وتحليلها او مناقشتها بغية الوصول إلى نتائج وحلول نرى أنها منطقية ومجردة يمكن أن تخرج السودانيين والسودانيات إلى بر السلام والأمان والإستقرار من خلال معالجة المشكلة من جذورها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.