العدالة والمحاسبة التاريخية  مقابل العدالة الإنتقالية في السودان:

✍️ بروف: خالد كودي القاهرة 22 أغسطس 2024م

 

الجزء الأول:

مقاربة مع حركة الحقوق المدنية في أمريكا وتجربة العدالة في ألمانيا بعد سقوط النازية 

طرح العدالة الانتقالية في العمليات السياسية السودانية من قبل النخب يمثل محاولة للتهرب من المحاسبة التاريخية الحقيقية، التي تعد ضرورية لتحقيق التغيير الجذري والشامل في البلاد. ورغم أن العدالة الانتقالية تُطرح عادةً كأداة لإجراء إصلاحات وإحلال السلام بعد فترات النزاع، فإن القوى المحافظة المرتبطة بالنظام القديم في السودان تستخدمها كغطاء لحماية امتيازاتها التاريخية، بدلًا من معالجة جذور الصراع والانتهاكات التي استمرت لعقود طويلة. كما حدث في سياقات تاريخية أخرى، فإن هذه القوى تحاول التلاعب بمفاهيم العدالة الانتقالية لتجنب المحاسبة على الجرائم التاريخية التي ارتكبتها واستغلالها كأداة للحفاظ على نفوذها.

 

في هذا السياق، نجد أن التجارب العالمية السابقة التي سعت إلى تحقيق العدالة الانتقالية توضح كيف أن النجاح يعتمد على إرادة سياسية صادقة وإجراءات حقيقية تضمن العدالة الشاملة. تجربة ألمانيا بعد سقوط النظام النازي، وحركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، توفران دروسًا مهمة للسودان، حيث كانت العدالة التاريخية في تلك السياقات عملية متكاملة تشمل عمليات بناء جذرية في القوانين والمؤسسات والهياكل الاجتماعية.

 

الزاوية الأولى: قوى السودان القديم ومحاولة تقويض الثورة:

 

منذ تأسيس الدولة السودانية، اعتمدت النخب السياسية من الوسط والشمال النيلي، إلى جانب القوات المسلحة والهيئات الدينية والطائفية، على تبني واعتماد نظم لضمان امتيازاتها. هذه القوى استفادت من المؤسسات السياسية والاقتصادية لتجنب المحاسبة على الجرائم المرتكبة ضد المجتمعات غير العربية وغير المسلمة في السودان. على مدار عقود، ظلت هذه القوى ولاتزال تروج لإصلاحات سطحية تهدف إلى تهدئة الاحتجاجات، لكنها في الحقيقة تعزز استمرارية النظام الذي يفضلها.

 

صاغت هذه النخب ما قبل وبعد الاستقلال، وثائق ودساتير تضمن سيطرتها على مؤسسات الدولة، مثل (وثيقة كرام القوم) في العشرينيات، التي جاءت كجزء من الحفاظ على امتيازات النخب التقليدية بعد إلغاء مؤسسة الرق من قبل المستعمر. كذلك، عزز دستور 1998 في عهد نظام الإنقاذ الهيمنة السياسية لهذه القوى، حيث تم استخدام القانون لحماية النخب من المحاسبة وتكريس الاستبداد.

 

أما بعد سقوط نظام عمر البشير، فجاءت الوثيقة الدستورية لعام 2019، وكأداة كان من المفترض أن تفتح الباب أمام تحول ثوري. لكن بدلاً من تحقيق التغيير الجذري الذي طالبت به الثورة السودانية، أصبحت الوثيقة جزءًا من تسوية سياسية تهدف إلى تهدئة الوضع دون المساس بجذور النظام القديم. هذه الوثيقة، التي ولدت من رحم تفاهمات بين النخب السياسية واللجنة الأمنية لنفس النظام الساقط والذي عبر عنه المجلس العسكري الانتقالي، قيدت الثورة وحولتها إلى عملية إصلاحية فاشلة، وأبقت على بنية السلطة التقليدية وأعاقت تحقيق ثورة تقوم على الانصاف والعدالة.

 

يشبه هذا النهج إلى حد كبير استراتيجيات القوى الحاكمة في الولايات المتحدة بعد اصدار وثيقة الغاء العبودية وقبل حركة الحقوق المدنية. كانت القوانين العنصرية تُستخدم كأداة لتثبيت النظام العبودي حتى بعد الغاءه، وتجاهل مطالب الأمريكان الأفارقة بالعدالة. وكان على حركة الحقوق المدنية أن تناضل ضد هذه القوانين لتفكيك النظام التمييزي الذي كرَّس الفوارق العرقية لعقود والذي عرف ب (جيم كرو.)

 

في السياق السوداني: الزاوية الثانية – القوانين الأساسية في حركة الحقوق المدنية في أمريكا وأهمية العلمانية كركيزة للعدالة:

 

سعت حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، إلى تفكيك النظام القانوني الذي دعم الرق ومن بعده التمييز العنصري والفصل بين الأعراق. هذه العملية لم تكن لتتحقق دون اعتماد مبادئ العلمانية كركيزة أساسية للقوانين المنصفة. العلمانية، التي تفصل بين الدين والدولة، توفر الأساس القانوني لضمان تفكيك إرث الرق والتمييز العرقي والديني والجندري، وتمنع الإفلات من العقاب على استمرار تداعيات هذه الجرائم التي نشأت من تلك الفترات.

 

كانت هذه المبادئ التأسيسية في الولايات المتحدة، حجر الزاوية في القوانين التي وضعت نهاية لإرث الرق وأشكال التمييز والفصل العنصري. سمحت العلمانية بصياغة قوانين تستند إلى حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، بعيدًا عن التأثيرات الدينية التي كانت تُستخدم لتبرير الاضطهاد والتمييز.

 

في السياق السوداني: الزاوية الثانية: القوانين الأساسية في حركة الحقوق المدنية في أمريكا وأهمية العلمانية كركيزة للعدالة

 

كانت حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة تهدف إلى تفكيك النظام القانوني الذي دعم الرق ولاحقا التمييز العنصري والفصل بين الأعراق، وهي عملية لا يمكن تحقيقها إلا من خلال اعتماد مبادئ العلمانية كركيزة أساسية للقوانين المنصفة.

 

توفر العلمانية، التي تفصل بين الدين والدولة، الأساس اللازم للقوانين التي تفكك إرث الرق والتمييز على أساس الدين والعرق والجنس، وتضمن عدم الإفلات من العقاب على استمرار تداعيات الرق ثم الجرائم العنصرية. فالعلمانية كمبدا تأسيسي كانت حجر الزاوية في القوانين التي وضعت نهاية لإرث الرق وتداعياته من فترات الفصل العنصري وساهمت في تحقيق قدر كبير من العدالة الاجتماعية ولاتزال.

 

اعتمدت حركة الحقوق المدنية على سلسلة من عمليات الحراك الجماهيري والقانوني التي كان لها تأثير عميق في تغيير مسار التاريخ الأمريكي وتحقيق إنجازات كبيرة في مجال حقوق الإنسان. من بين هذه القوانين:

 

١/ الحقوق المدنية لعام 1964: يُعد هذا القانون من أهم التشريعات في تاريخ الولايات المتحدة، حيث أنهى التمييز العنصري في الأماكن العامة وأماكن العمل. لم يكن هذا القانون مجرد خطوة لإزالة الحواجز القانونية، بل كان إشارة قوية إلى التزام الدولة بتحقيق المساواة. استند القانون إلى مبدأ أساسي وهو أن الدولة يجب أن تكون محايدة دينيًا وعرقيًا، مما جعل العلمانية أساسًا قانونيًا لضمان حقوق متساوية للجميع. أدى هذا القانون إلى تغيير ملموس في حياة الأمريكيين الأفارقة، حيث فتح لهم الأبواب للعمل والتعليم والوصول إلى الخدمات العامة بشكل متساوٍ.

 

٢/ قانون حقوق التصويت لعام 1965: كان هذا القانون خطوة حاسمة لإنهاء التمييز الانتخابي الذي كان يمنع الأمريكيين الأفارقة من ممارسة حقهم في التصويت، لا سيما في الولايات الجنوبية. قبل هذا القانون، كانت ممارسات مثل اختبارات معرفة القراءة والكتابة تُستخدم بشكل متعمد لحرمان السود من التصويت. وجاء هذا القانون ليضمن لهم حق التصويت، وهو ما عزز مشاركتهم السياسية، مما مثل نقطة تحول في الديمقراطية الأمريكية. العلمانية كانت هنا أيضًا أساسًا لهذا التغيير، حيث أكدت أن الحق في التصويت لا يجب أن يتأثر بالانتماء العرقي أو الديني.

 

٣/ قانون الإسكان العادل لعام 1968: هذا القانون كان جزءًا من سلسلة الإصلاحات التي هدفت إلى إنهاء التمييز العنصري في الإسكان. كان التمييز في الإسكان يعني أن الأمريكيين الأفارقة كانوا محصورين في أحياء فقيرة وغير متطورة. مع إقرار هذا القانون، تم منع التمييز في بيع أو تأجير العقارات على أساس العرق أو الدين أو الجنس، مما أسهم في تحسين أوضاع الكثير من السود الأمريكيين، وفتح لهم فرصًا جديدة في المجتمع. هنا أيضًا، كان تطبيق مبدأ العلمانية في السياسات العامة أساسًا لضمان عدم التمييز على أساس الدين أو العرق.

 

بعد سقوط نظام عمر البشير في عام 2019، جاءت الوثيقة الدستورية كخطوة كان يُنظر إليها على أنها بوابة نحو التحول الثوري الشامل الذي طالبت به الجماهير السودانية في ثورتها. ومع ذلك، بدلاً من تحقيق التغيير الجذري، تحولت هذه الوثيقة إلى أداة لتسوية سياسية تهدف إلى تهدئة الوضع دون المساس بجذور النظام القديم. تم التوصل إلى هذه الوثيقة عبر تفاهمات بين النخب السياسية واللجنة الأمنية التي كانت جزءًا من النظام السابق، والذي تحول لاحقًا إلى المجلس العسكري الانتقالي. النتيجة كانت تحجيم الثورة وتحويلها إلى عملية إصلاحية سطحية فاشلة، أبقت على بنية السلطة التقليدية، وأعاقت إمكانية تحقيق العدالة الحقيقية.

 

هذه الديناميكيات ليست جديدة في السياقات التي تتطلب تغييرات جذرية. إن محاولة تقييد الثورات وتحويلها إلى إصلاحات محدودة هي استراتيجية شائعة تتبناها القوى التي تسعى للحفاظ على امتيازاتها. وفي السودان، تم تكرار هذه الاستراتيجية عبر الوثيقة الدستورية لعام 2019، التي عكست تفاهمات سياسية شكلية أكثر من كونها أداة لإحداث تحول ديمقراطي حقيقي. الوثيقة لم تمس الجذور العميقة للأزمات، والتي تتعلق بالبنية السياسية والاجتماعية التي كرسها النظام القديم، مما أدى إلى إجهاض أهداف الثورة التي كانت تهدف إلى تحقيق العدالة والمساواة.

 

دور الدين المسيحي والإسلامي في تبرير الرق: تاريخه وتجريمه في السودان

 

عبر التاريخ، كان الدين جزءًا لا يتجزأ من الصراعات السياسية والاجتماعية، واستخدم أحيانًا كأداة لتبرير الظلم والاضطهاد، بما في ذلك استعباد البشر. في الأمريكتين وأجزاء أخرى من العالم، لعب الدين المسيحي دورًا محوريًا في تبرير الرق. منذ العصور الوسطى وحتى القرن التاسع عشر، استخدمت بعض الكنائس المسيحية نصوصًا من الكتاب المقدس لتبرير استعباد الشعوب الأفريقية. اعتبر بعض اللاهوتيين أن الرق هو جزء من النظام الطبيعي الذي أراده الله، وأن استعباد السود كان يتماشى مع إرادته.

 

خلال فترة ما قبل الحرب الأهلية في الولايات المتحدة، كانت الكنائس المسيحية في الجنوب تدعم نظام الرق بشكل علني. استخدمت هذه الكنائس قصصًا من الكتاب المقدس مثل “لعنة حام” لتبرير استعباد الأفارقة، حيث اعتُبر أن السود خُلقوا ليكونوا عبيدًا نتيجة لعنة إلهية. هذا الدور الذي لعبه الدين في تبرير الرق أسهم في ترسيخ بنية اجتماعية قائمة على الظلم والاستغلال، وكان عقبة كبيرة أمام تحقيق العدالة والمساواة

 

الرق في السودان: تاريخه وتجريمه:

 

في السودان، كان الرق أيضًا جزءًا من النظام الاجتماعي لقرون عديدة، واستُخدم الدين لتبرير هذه الممارسة. منذ القرن التاسع عشر، كان الاستعباد منتشرًا في جميع أنحاء السودان، حيث تم استغلال الشعوب غير المسلمة، خاصة في المناطق الجنوبية والغربية، من قبل النخب العربية المسلمة. استخدم الدين الإسلامي لتبرير هذه الممارسات، حيث استندت النخب السياسية والدينية إلى تفسيرات معينة للنصوص الإسلامية لتشريع الاستعباد.

 

مع دخول الحكم الاستعماري الإنجليزي-المصري للسودان في أواخر القرن التاسع عشر، بدأت حملة تدريجية لتجريم الرق. في عام 1899، تم إصدار أول قوانين تمنع الرق في السودان بعد فرض السيطرة البريطانية. ومع ذلك، استمر الرق فعليًا لعقود بعد ذلك بسبب مقاومة النخب السودانية المحلية التي كانت تستفيد من هذه الممارسة. لم يتم فرض الحظر الكامل على الرق حتى عام 1924، عندما أصدرت الإدارة الاستعمارية قانونًا يمنع جميع أشكال العبودية ويجرمها رسميًا.

 

رغم ذلك، ظلت النخب السياسية والدينية تستغل الدين الإسلامي لفرض سيطرتها على المجتمعات غير المسلمة في الجنوب والمناطق المهمشة. بعد الاستقلال في عام 1956، استمر استغلال الدين كأداة للهيمنة العرقية والثقافية. كانت القوى الدينية والسياسية المتحالفة مع الحكومات المتعاقبة تستخدم الدين لتبرير التمييز والقمع ضد الفئات غير المسلمة وغير العربية في السودان. هذه النخب سعت إلى الحفاظ على امتيازاتها من خلال التلاعب بالنصوص الدينية لتبرير سياسات الاستبداد والقمع، خاصة في المناطق المهمشة.

 

التحديات المستمرة:

 

مثلما كان للدين المسيحي دور في تبرير الرق في الأمريكتين، استُخدم الدين الإسلامي في السودان لتبرير الاستعباد والتمييز العرقي والديني. هذا الاستخدام للدين لتشريع الظلم كان عقبة أمام تحقيق العدالة والمساواة في كلا السياقين. حتى بعد تجريم الرق رسميًا في السودان، استمرت البنية الاجتماعية التي دعمت هذا النظام، مما أسهم في استمرار التمييز والقمع ضد المجتمعات غير العربية وغير المسلمة

 

لتجاوز هذا الإرث التاريخي، يصبح فصل الدين عن الدولة واعتماد العلمانية كمبدأ فوق دستوري ضروريًا لتفكيك الهياكل التي دعمت الظلم والتمييز لقرون. فقط من خلال هذا الفصل يمكن ضمان تحقيق العدالة والمساواة لجميع السودانيين، بغض النظر عن خلفياتهم الدينية أو العرقية، ووضع حد لعدم الإفلات من العقاب على الجرائم التي ارتُكبت بحق الفئات المهمشة.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.