مشاهداتي من داخل معسكرات الموت والنزوح جنوب كادقلي:

قلم عمّار نجم الدين

 

كلمة واحدة يجب أن تتوقف: الحرب

اقف الان مع ٤٨ ألف لاجئ على بعد قريب من معارك تدور رحاها بين الجيش الحكومي وقوات الدعم السريع جنوب كادقلي في أرض النسيان و منطقة مظلمة من العالم وتحت سماء تعج بصرخات الألم، يقف جيل بأكمله من الأطفال الذين فقدوا أهلهم، وهم يواجهون قسوة الحياة وحدهم في معسكرات النازحين. هؤلاء الأطفال، البالغ عددهم 200 طفلا في معسكر واحد فق الذين انتزعت منهم الحرب أحضان الأمهات والآباء، وهم رمز للبراءة التي تُهدر في زمن النزاعات.

تقف الأعمار الصغيرة سويا، تشترك في النظرات الحائرة والقلوب المثقلة بخسائر لم يكن يجب أن يعرفوها في هذا السن الصغير. في هذا المعسكر، تسمع ضحكاتهم التي تختلط بدموع الحنين، وترى اللعب الممزوج بالحذر، وكأن الطفولة ترتدي ثوب النضج قبل أوانه.

الحرمان يكتب فصوله على جدران البيوت البسيطة المصنوعة من القش، والظروف القاسية ترسم خطوطها على وجوه هؤلاء الصغار، الذين كان يجب أن يكونوا الآن في مدارسهم يتعلمون ويحلمون بمستقبل مشرق، لكنهم عوض عن ذلك يتعلمون دروسًا قاسية في البقاء والصمود.

في خضم هذه الظروف القاهرة، تبرز أهمية المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية في تقديم العون والمساندة لهؤلاء الأطفال. إنهم بحاجة ماسة إلى الأمان والغذاء والماء والرعاية الصحية والتعليم. إنهم بحاجة إلى فرصة لإعادة بناء طفولتهم واستعادة بعض مما فُقِد.

يحمل كل طفل من هؤلاء الأطفال قصة لم تُروَ بعد، وكل دمعة سقطت من عيونهم هي رسالة إلى العالم بأن الحرب ليست إلا وجهًا قبيحًا للإنسانية، يجب أن نتوقف عن رسمه. إن الحديث عن معاناتهم ليس سوى تذكير بأن هذه الأرواح البريئة تستحق الحياة والسلام والحب، وأنه لا بد من إيجاد حل لهذه الأزمة التي تمزق نسيج الحياة نفسها.

تُعتبر معسكرات النازحين في جنوب كادقلي، التي تقع تحت سيطرة الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمالاً، والتي تبذل، بشقيها السياسي والعسكري، جهودًا جلية لتوفير الأمن للنازحين وسط بحر من التحديات والمخاطر. استطاعت الحركة أن توزع رغيف الخبز النادر مع العديد من الأسر، مقدمة قسطًا من الغذاء في محاولة لتخفيف حدة الجوع. كما تعمل على حماية هؤلاء من الاعتداءات المحتملة من قبل قوات الدعم السريع والجيش، في مسعى لضمان لحظات من السلام والاستقرار في ظل ظروف الصراع القاسية. ورغم شح الإمكانيات الواضح، تظل هذه الجهود بصيص أمل في ليالي النزوح الطويلة. ولكنها لا تكفي حوالي ثمانمائة ألف نازح في كامل مناطق سيطرتها. هذه المعسكرات بمثابة رمز للبؤس والمعاناة التي يعيشها الأبرياء في ظل الحرب الوحشية بين قوات الدعم السريع الإجرامية والجيش الحكومي المجرم. هناك، يعيش النازحون في ظروف قاسية لا توصف، حيث يفتقرون إلى أبسط حقوقهم الإنسانية وسط غياب تام للرحمة والإنسانية.

تلك المناطق التي لجأ إليها أبناء جبال النوبة، هربًا من قصف طائرات الجيش الحكومي الإجرامي ببراميل الموت وهجمات الدعم السريع الوحشية، قد أصبحت معسكرات للموت، حيث يتقاذفون بين جحيم القصف والتقتيل وجحيم الجوع والعطش. يعيش هؤلاء النازحون في أكواخ من القش وسط درجات حرارة تصل إلى 47 درجة مئوية، يفتقرون إلى الماء النقي والدواء الضروري والغذاء الكافي، في ظل غياب تام للرعاية الطبية والإنسانية.

صور البؤس والحزن في تلك المعسكرات لا تجلب إلا الألم والصدمة، حيث ترى امرأة فقدت نصف أطفالها في طريق هروبها من جحيم الحرب والهجمات في كادقلي من قبل المتصارعين، وترى سيدة عجوز في التسعين من عمرها تسير على أقدامها لمدة ستة أيام، تاركة خلفها أعمال الحياة والألم والجراح، وعندما سُئلت عن مرضها، أجابت بأنها مريضة تعاني نزيف الدم منذ أيام، حتى وصلت إلى المعسكر.

في ختام هذه الرحلة المؤلمة إلى قلب الظلام، حيث تتحول الخيام إلى معسكرات للموت والألم، يتضح أن الوقت قد حان للعمل، ليس غدًا أو بعد غد، بل الآن فورًا. من شاهد هذه الوجوه الملطخة بالحزن، والعيون الفارغة التي فقدت بريق الأمل، لا يمكنه إلا أن يُحرّك بكل ما أُوتي من قوة نحو إنهاء هذا الصراع الدامي.

لقد رأيت الموت يتجول بين الخيام، رأيت الحزن يعتصر قلوب صغار لم يتعلموا بعد كيف يخفون مشاعرهم، ورأيت اليأس يسرق منهم الابتسامات التي كان يجب أن تزين وجوههم. لم أرَ أشباحًا، بل رأيت الحقيقة المادية للألم؛ رأيت ندوب الحروب منقوشة على أرواحهم وأجسادهم.

إن السعي لوقف الحرب ليس مجرد مطلب أخلاقي، بل هو ضرورة إنسانية ملحة. يجب أن تتوقف الأصوات المدوية للمدافع والقنابل لتسمع صرخات الأمهات الثكالى وأنين الأطفال اليتامى. يجب أن تُطوى صفحات العنف لتُفتح صفحات الحوار والسلام.

فليكن هذا نداءً لكل الأفراد والمجتمعات والحكومات والمنظمات الدولية: لا تتجاهلوا دموع الأبرياء، ولا تتأخروا في إنقاذ حياة من بقي على قيد الحياة. العمل المطلوب ليس مستحيلاً، بل هو واجب على كل من يحمل في قلبه ذرة من الإنسانية. لن ننتظر حتى تصبح الأوضاع أسوأ، بل نعمل الآن من أجل السلام والأمان لهؤلاء الأطفال ولكل من يعاني تحت وطأة الحرب. لقد رأيت الموت والحزن، ولمستهما بيديّ، والآن حان الوقت لنشارك جميعًا في إحياء الأمل والحياة مجددا.

١٠ مايو ٢٠٢٤ جنوب كادقلي – السودان
مناطق سيطرة الحركة الشعبي والجيش الشعبي لتحرير السودان – شمال

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.