تحالف الهمباته … مذبحة أطفال الهدرة نموذجا.

————————————
في السودان، دولة تعصف بها الأزمات، وتقفز إلى واجهة الأحداث بفعل مأساة إنسانية تتجدد باستمرار، شهدت البلاد قصة لم تعد خافية عن العالم، قصة تحكي عن أفعال منهجية شنها الجيش السوداني كاداة للدولة المركزية ساهم فيها أكاديميين و مثقفون و جامعات و مراكز دراسات قصة إبادة جماعية امتدت على مدى 68 عامًا، قُتل خلالها ملايين من المدنيين ببرودة دماء، لتعكس بجلاء معالم جريمة إنسانية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
هذه الأفعال المتعمدة التي نفذت بقصد القضاء على مجموعات بأكملها، بناءً على هوياتها القومية، الإثنية، العرقية أو الدينية، لم تكن إلا تجسيدًا لشروط نظام روما الأساسي في الإبادة الجماعية “Genocide”. ما وقع في السودان تنطبق عليه بالضبط تلك المعايير الدولية التي تحدد مفهوم ذلك الفعل الإجرامي للإبادة الجماعية .
في هذه الرحلة المُعتمة، كانت المجازر منظمة بحق المجموعات العرقية والإثنية بأطراف البلاد، حيث لم تكتفِ القيادات العنصرية بالجيش بتوجيه ضرباتها القاصمة لتلك المجتمعات فحسب، بل استمرت في تبرئة نفسها من أي اتهامات، معلنة بذلك بجرأة أن المؤسسة العسكرية، التي فُصلت من ابناء النخبة المركزية تاريخيا ، قابلة للإصلاح. إن هذه المزاعم لا تُنسى أبدًا أن بنية هذه المؤسسة، التي عرفت تاريخها بالعنصرية والفساد، لم تتخذ من القتل سبيلاً فحسب، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك بتكوين الميليشيات التي تستهدف المدنيين واستخدام الطيران لقصف الأحياء السكنية والمستشفيات و المدارس والأسواق.
لعل من أكثر الأمثلة إيلامًا، ما حدث في جبال النوبة بتاريخ 15 مارس 2024، حيث شن الجيش عدة طلعات جوية، استهدفت المدنيين وتحديدًا الأطفال في ما بات يُعرف الآن بمذبحة الهدرة ، ما يُظهر المسار الدموي الذي اختطه النظام منذ بداية هذا الصراع.
يعد دعم الجيش السوداني من قبل بعض أبناء الهامش ظاهرة معقدة تستحق البحث والتحليل. فقد برزت مجموعة من الأفراد الذين يسعون لدعم الجيش السوداني، لكن ليس من أجل الوطن أو العدالة، بل لأجل مصالحهم الشخصية الضيقة وتحقيق أهدافهم الخاصة.
تعتبر هذه الفئة من الأشخاص حريصة على الحصول على جزء من الكعكة السياسية على حساب شعبهم ودمائهم. يتبادلون الولاء مع النخب الحاكمة بطرق شائنة ومهينة، مستغلين الظروف الصعبة لسكان الهامش. إنهم يدركون تمامًا أن الدولة السودانية وجيشها هما العمود الفقري لنظام سلطوي عنصري، لن يتخلى عن سياسته التاريخية في قمع واستبداد الآخرين.
باستخدام قوة القصف الجوي وتكوين المليشيات، يبدي هؤلاء الأفراد تأييدهم الصارخ لممارسات الجيش القمعية والعنصرية. أن تحالفهم مع القوى الحاكمة يعكس رغبتهم الملحة في الوصول إلى السلطة وتعزيز مكانتهم الاجتماعية والاقتصادية، حتى وإن كان ذلك على حساب حقوق الإنسان وكرامة الإنسان.
وأيضا في سياق الأحداث الأخيرة التي هزت دولة “السودان”، كشفت الحرب الأخيرة في ١٥ أبريل ٢٠٢٣ عن تحالف غير متوقع بين (بعض النخب) التي تدعي الانحياز لدولة العدالة والتعدد، حيث تخلت هذه النخب فجأة عن مبادئها التي دافعت عنها لعقود. كانت تلك النخب تجهر سابقًا بعنصرية الدولة، وينظرون إلى ذلك الجيش كإحدى أدوات القمع والحفاظ على السلطة المركزية، لكن بعد الحرب، قرروا الاندماج مع الجيش وتحالفهم على أساس اثني جهوي لحماية امتيازاتهم التاريخية على حساب دعواتهم السابقة للعدالة الوطنية. ومن جانبه، كان الجيش يعتبر عمودًا فقريًا للدولة، يتدخل في الشؤون السياسية والاجتماعية بشكل مباشر.
ظل مجموعة من النخبة المركزية يملؤون الدنيا زعيقاً بالتعدد الثقافي والإثني وإدارة التنوع وآلياته والتصفيات الهامش ثقافتاً وإنسانا وتجريفا للثروات.
لكن مع اندلاع الحرب الأخيرة، تغيرت الديناميات تمامًا. وجدت هذه النخب نفسها مهددة بفقدان كل شيء؛ بسبب الصراعات المستمرة والتدهور الاقتصادي الناجم عن الحرب والأهم هو انهيار أيدلوجية الدولة المركزية لذا، قرروا التحالف مع الجيش على أساس اثني، بحيث يحمي الجيش مصالحهم وامتيازاتهم التاريخية ثقافية كانت أو اقتصادية، أو تفوق عرقياً. تحوّل هذا التحالف الجديد إلى شكل جديد من التواطؤ، حيث باتت تلك النخب والجيش يتعاونان معًا لتحقيق مصالحهم الشخصية والحفاظ على مكانتهم الاجتماعية (راس المال الرمزي) تراكم ثرواتهم.
ففي الوقت الذي تنهار فيها الدولة يسقط كل خلاف ليبقى نظام الأبارتايد قائما حتى لا تحدث تسوية شاملة تعصف بهم جميعاً وبمكانتهم التاريخية التي بنيت على.
ظهور الآخرين ودماؤهم لعشرات السنوات يبرزون كأبناء تجار رقيق تاريخيين أسس أجدادهم الدولة، فزمن التعاطف وذرف الدموع الكاذبة انتهى؛ لأن العدو أمامهم والبحر خلفهم ولا، وقت للشعارات والتشدق بالظلم وتحقيق العدالة.
الوقت هو وقت أن يكونوا أو لا يكونوا.