الالتواء والحذلقة الأكاديمية: الدكتور عبد الله علي إبراهيم نموذجا *
الباقر العفيف
وضمن الذين ضلوا سبل الرشاد بشأن هذه الفتنة الدكتور عبد الله علي إبراهيم. والدكتور ليس “رجلا سَلَمَا لرجل” وإنما بداخله “شركاء متشاكسون”، وأعني بذلك أنه ليس متسقا في سيرته ومواقفه وإنما تصطرع داخله شخصيات متناقضة. وكما يجري التعبير العامي “الزول ده ما ياهو، أو ما براه”. فهناك الشخصية التاريخية الماركسية الشيوعية التي يصر على التمسك بها حتى هذه اللحظة وتبرق في كتاباته الفينة بعد الأخرى. وهناك الشخصية المتوددة للكيزان والباحثة عن نَسَبٍ مشترك معهم. هذه الشخصية خالطته منذ أن اشترك مع أهل الإنقاذ في حوارهم الوطني ودخل مجلسهم الديكوري أول مجيئها. ويبدو أن الإنقاذ أصابت الدكتور بالصدمة والرعب الممزوج بالاحترام العميق الذي يشبه التقديس Shock and Awe فهم، وإن كانوا الأخير زمانهم، أتوا بما لم تستطعه الأوائل، من البشاعة، بحسب تعبيره، مما اضطره “لمصانعتهم”. وهنا تأتي القدرات الأكاديمية في متناول اليد لتحويل الرعب والهزيمة، والمصانعة، من حالة مؤقتة للضعف الإنساني، لموقف فلسفي متكامل يكتسي بالرصانة الأكاديمية، ويدعي الموضوعية العلمية. هذا الموقف الفلسفي يسمح له بتدبيج المقالات احتفاء بذكرى ميلاد الترابي، ويسوغِّ له التتلمذ على أيديهم في علوم الشريعة في قلعتهم جامعة أفريقيا العالمية، ويبرر له العمل في ذات الجامعة الكيزانية أستاذا، متناسيا ما خطه بقلمه عنها في كتابه “الثقافة والديمقراطية في السودان” عندما كانت تُسَمَّى المركز الإفريقي الإسلامي. ومواصلة لذلك التودد للكيزان الناتج عن الرعب المخلوط بالتقديس يندرج توظيفه لملكاته وإمكاناته الأكاديمية ليبرر تأييده لجيشهم ولاستمرارية الحرب. وتأييده لمواقفهم الانعزالية الطفولية في مقاطعة المنابر الإقليمية والدولية العاملة على وقف الحرب كالأمم المتحدة ومنبر الإيقاد.
أما عندما يتناول سيرة الحرية والتغيير فتبرز شخصية أخرى للدكتور تناقض تماما تلك الشخصية المهادنة للكيزان. فهو هنا فارس الحوبة، تراه مشرعا رمحه مكر مفر مقبل مدبر معا، وكأنه عنترة بن شداد على فرسه “الأبجر”. وكما تقول العامة “حقيرتي في بقيرتي”. فالدكتور يصب جام سخطه على “آلهة الحرية والتغيير وتقدم” التي حكمت على الشعب بحمل صخرة الكيزان مثلما حكمت آلهة اليونان على سيزيف بحمل صخرته الأسطورية لأعلى الجبل فما أن يصل القمة حتى تنزلق منه إلى السفح فيعاود الكَرَّة، وهكذا دواليك إلى الأبد. بل هو لا يتوانى عن اتهام الحرية والتغيير بالفشل حتى قبل أن تولد بعقود.
فهو يقول:
“أسأل نفسي ما هو ميس (في لعب الأطفال) أهل قحت وتقدم الذي يبلغون البلد به ويكون يوم النصر المؤكد على الكيزان فيرتاح خاطرهم وخاطر البلد. تربصوا {أي أهل قحت} بهم {أي بالكيزان} بعد انقلاب 1969 وسموهم “إخوان حتحوت” لينتهي الانقلاب التقدمي المزعوم في 1983 إلى ثيوقراطية دينية من أبو كديس أو أبو كيزان. وتربصوا بهم قبل ثورة ابريل 1985 وما بعدها ودمغوهم “بالسدنة” وتكأكأوا على شيخهم الترابي بأقصى الصحافة وغلبوه. ثم عاد الكيزان بانقلاب 1989 دولة ثيوقراطية لآخر حد. ثم اسقطوهم ك “فلول” في 2019، بل داسوهم دوس. ثم عادوا. ومدعوون نحن الشعب ما نزال للتعبئة لاستئصال الكيزان. أليس ثمة شيء غاية في الخراقة هنا؟” ثم يمضي إلى أن يقول “يبدو أن لا قحت ولا تقدم تريد لنا أن نرى عيبها من وراء قرارهم تحميلنا صخرة الكيزان التي أوثقوها على أكتافنا. وعيبها أنها لا تحسن القضاء عليهم. فيخرج عليهم الكيزان من ثقب أداء واجباتهم ويسألون: من أين جاء هؤلاء؟ وعلينا حمل الصخرة في الواد لأنهم حين فشلوا، وأدمنوا الفشل، خرجوا منه كالشعرة من العجين “اشكع على الكيزان”. انتهي.
ولعل الملاحظة الأولى في نصه هذا هي تجرؤه وتحامله و”حقارتو” بقوى الحرية والتغيير ودمغهم بالفشل وتحميلهم مسؤولية كل نجاح حققه الكيزان منذ عام ١٩٦٩، وكأنه ليس للكيزان فعل مستقل، وأن كل ما يقومون به هو عبارة عن ردود أفعال و “كَيَّة كدا” في قحت وتقدم، حتى وهما في رحم الغيب، قبل أن يظهرا في الوجود. وإلا فما هو دور قحت في انقلاب ١٩٦٩؟ أو ما أعقبه من ترصد للكيزان أو وصفهم “بإخوان حتحوت”؟ وما هو دورهم في إعلان نميري لقوانين سبتمبر ١٩٨٣، أو ما وصفه الدكتور بدولته الثيوقراطية من “أبو كديس أو أبو كيزان”؟ وكذلك ما هو دورهم في التحالف ضد الترابي؟ وما هو العيب في إسقاطه في انتخابات ديمقراطية حرة على كل حال؟ وما علاقة ذلك بانقلاب الإنقاذ في ١٩٨٩؟ هل يريد الدكتور أن يقول إن كل ما فعله الكيزان بكم إنما كان ردة فعل لخراقتكم وتحرشكم بهم، وأن خطيئتكم الكبرى تتمثل في مصارعتكم لهم ووقوفكم في طريقهم، وأن (عدم الخراقة) كانت تقتضي أن تفرشوا الطريق أمامهم بالورود والرياحين، أو أن تخلوا لهم الطريق وتقفوا على الرصيف مطأطئ الرؤوس أثناء زحفهم المقدس نحو السلطة؟ وإنكم إن لم ترتكبوا هذه الخطيئة الكبرى لكانوا ترفقوا بكم ووهبوكم “مَنّاً وسلوى من شعير” بدلا عن دق المسامير في الرؤوس وحشر السيخ في الأدبار؟
والملاحظة الثانية هو ضجر الدكتور من الاستمرار في مقاومة قحت للكيزان ومحاولات عزلهم سياسيا، وتمسكهم بهذا الهدف رغم أنهم لا يحسنون القضاء عليهم، بدليل أن الكيزان يعودون في كل مرة بصورة أكبر وأقوى. أما كيف يعودون بصورة أقوى وأكبر؟ فالإجابة عنده حاضرة. “من ثقب أداء واجباتهم”. أي أن الكيزان يعودون دوما بسبب فشل قحت، وليس نتيجة تخطيط مستقل وعمل دؤوب في ممارسة السياسة القذرة على طريقة المافيا، بالتآمر، والإجرام، والاختراق، والكذب، والسرقة، وشراء الذمم، والعنف، والانقلاب العسكري. وهنا مربط الفرس كما تقول العرب. فقد حشد الدكتور في هذه الجملة وحدها كل معايب سلوكه. فبالإضافة للتغافل عن جرم المجرم وإلقائه اللوم على الضحية، تتصف عباراته بالالتواء في مقام يستدعي الاستقامة، والخنخنة في مقام يتطلب الإبانة، والإيحاء في مقام الإفصاح وصراحة القصد. فماذا يقترح الدكتور لقحت أن تفعل لتضع عن كاهله صخرة الكيزان طالما أنها لا تحسن القضاء عليهم؟ لماذا لا يصل بمنطقه لنهاياته الطبيعية؟ ولماذا يكتفي بالإشارة والإيماء وترك الباب مواربا؟ إن الدكتور الجليل يدعونا لأن نرخي ركبنا مثله، وأن نستسلم للكيزان ونقبلهم رغم كل ما فعلوه بنا. فهو يبدو أنه يستهدي بالمقولة الانهزامية القديمة “إذا لم تستطع هزيمتهم فانضم إليهم”، فاستسلم لهم من أول وهلة. ثم “فكَّر وقدَّر. فقتل كيف قدَّر. ثم نظر. ثم عبس وبسر”، حتى اكتشف الحل. فخرج كأرخميدس عاريا، ليس من “هدومه” بل من فضائله، وهو يردد “وجدتها.. وجدتها”. لقد عثر على “الشفرة الثقافية” العروبية الإسلامية التي تجمعه بهم. “ثم أدبر” من كل تاريخه في الدفاع عن التعددية الثقافية و”ارتد” عن دين الحق والخير والجمال، “واستكبر” علينا بالإيمان، شأن الكيزان، وأصبح داعية للعروبة، مدافعا عن الشريعة الإسلامية، ومعتذرا عن الكيزان باعتبار مشروعهم يمثل الجماعة العربية الإسلامية القاطنة شمال ووسط السودان. فهو يدعونا أن ننظر لهذه “المجموعة الشمالية” باعتبارها تمثل “عنصرا” أو عرقا أو قبيلة Race. وهي مستهدفة كعرق، مما يقتضي تضامنها بجميع عناصرها سواء كانوا يساريين يمينيين وسطيين أو حتى جمهوريين، وهذه عنده كلها تنظيمات “شمالية”. أي أنه يدعونا للارتداد للمكون البدائي ما قبل الحداثة، بل ما قبل الطائفية. وبناء على هذا الاكتشاف المذهل دعانا صراحة للدخول في خيمة الانقاذ. وأردف قائلا إن مصيبة هذه الجماعة الشمالية العروبية الإسلامية تتمثل في كونها ورثت وطنا أكبر من حجمها. ولأننا كلنا نعلم أن فشل النخبة الحاكمة يتمثل أساسا في عدم قدرتها على إدارة التنوع لأنها لا تستطيع أن تفسح مجالا لغيرها معها ولا تقبل من الآخرين سوى الخضوع التام لها، فيصبح تقصيرها للوطن على قدر طولها ضربة لازب عليها. وبناء على ذلك يمكن القول أن دكتورنا الهمام هو أول من نَظَّر لمثلث حمدي ودولة عمسيب.
هل استمعتم لآخر حججه في الوقوف بجانب الجيش؟ فقد قال في مقابلة تلفزيونية أنه يفاضل بين “المر والأمر منه”، وأردف القول إنه يعني “بالمر” الجيش، و”بالأمر منه” الدعم السريع. فانظر التضليل والالتواء أذ كيف يكون صانع الشر أقل مرارة من الشر الذي صنعه بيديه؟ إن الأمر البديهي هو إن كان الدعم السريع هو الشر المنطلق من عقاله والشيطان الرجيم يكون من البداهة أن الكيزان وجيشهم الذين صنعوا الدعم السريع هم الشر المطلق، وأكابر الشياطين الأكثر استحقاقا للرجم. كيف يكون فرانكشتاين أقل شرا من وحشه الذي صنعه بيديه يا دكتورنا الجليل، خاصة إذا كان ما يزال مستمرا في (الشغلانية) ويصنع في المزيد من الوحوش كالبراء والخرساء والرقطاء. إن استقامة الفكر كانت تحتم عليك القول إن الدعم السريع هو المر بينما الجيش هو الأمر منه. أما السؤال الآخر فهو لماذا علينا المفاضلة بين المر والأمر منه؟ ولماذا لا نرفضهما معا وندعو لوقف الحرب والموت والدمار؟
كلمة أخيرة
تتصدي الكنداكة رشا بمثابرة وجلد لهذا الجيش العرمرم من المضللين أصحاب الحلاقيم الكبيرة والعقول الصغيرة. وهو ليس جيشا عاديا، بل يمتد من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. وقسم كبير منه، كالكيزان وكتابهم المكريين وذبابهم الالكتروني وقوناتهم واللايفاتية تبعهم عبارة عن جيش قذر ملوث وملتاث، يمثل قاع مجتمعنا ومُجَمَّع قمامته ومجاري صرفه الصحي حيث يطن الذباب والهوام وينشط المجذومين فكريا والمعطوبين نفسيا. وعار علينا أن تركناها في الميدان وحدها. وقَصَّرنا عن دعمها والاصطفاف خلفها. أما هي فقد استحقت القيادة عن كفاءة وجدارة، وامتلكت كل صفاتها من وضوح الرؤية وقوة البيان ورجاحة الرأي وشجاعة الشجعان.
* الحلقة الخامسة من مقالة د. الباقر العفيف بعنوان : حرب من هذه ؟ وما هي اهدافها؟ خراب سوبا، رابط المقالة كاملة في التعليق