بين شرط العلمانية وفرض الثورة، فالتاريخ لا يصنعه الإصلاحيين! او في هل هي اللحظة التاريخية الحاسمة؟ 3-2
✍️ بروف: خالد كودي
في الجزء الأول من المقال، تساءلنا عما إذا كان بالإمكان تبني العلمانية في السودان ثوريا وبدون الحاجة للهياكل التشريعية، ومدى وجود مبررات لهذه الخطوة. كما تناولنا ما إذا كانت الظروف الراهنة في السودان تستدعي تغييرًا ثوريًا، مؤكدين أن الثورات قد تتطلب تحركات جذرية تقوض الأنظمة القانونية القائمة. وأثرنا البحث عن سوابق تاريخية كدليل ممكن للمقاربة.
السجل التاريخي مليء بالأمثلة حيث تمت جهود الغاء التسلط الديني والعنصري وعدم العدالة وتطبيق مبدأ العلمانية كعنصر أساسي في التطورات السياسية والاجتماعية ثوريا. قلنا ان، الثورة الفرنسية، التي انتزعت السلطة من الكنيسة وأقامت نظامًا يقوم على المساواة والحرية الفردية، وإصلاحات أتاتورك في تركيا، التي استبدلت الشريعة الإسلامية بقوانين علمانية مستمدة من الأنظمة الأوروبية.
هذه التحولات، التي تمت في كثير من الأحيان بطريقة ثورية ودون انتظار تكوين أو موافقة الأجهزة التشريعية التقليدية، كانت مبررة غالبًا بالحاجة إلى اجراءات عاجلة لتحقيق العدالة والمساواة الاجتماعية. وعلى الرغم من المقاومة التي واجهتها هذه الإصلاحات، فقد أثبت التاريخ أنها خطوات حيوية نحو بناء مجتمعات تُكرّس لمشاريع للمبادئ الديمقراطية والحداثة.
تبرز أهمية هذه الخطوات الجذرية والثورية خاصة في لحظات تاريخية حرجة حيث يُصبح التغيير الفوري ضروريًا لكسر دائرة التهميش والاستبداد والتخلف. وعلى الرغم من الصعوبات والتحديات، تُظهر هذه الأمثلة كيف يمكن للإصلاحات الثورية أن تحقق تقدمًا ملموسًا وتغييرًا دائمًا في بنية المجتمع وأسس الحكم. ولنبدأ بالثورة الفرنسية، أحد أعظم الثورات واكثرها تأثيرا في تاريخ الشعب الفرنسي وملهمة لشعوب العالم ونضالهم للحرية والمساواة.
الثورة الفرنسية، التي بدأت في عام 1789، أسست لمجموعة من التغييرات الجذرية التي انهت سيطرة الكنيسة الكاثوليكية وأكدت على مبادئ العلمانية. وهنا بعض الوثائق والقرارات الهامة التي كانت لها أثر محوري في هذا التحول:
مصادرة أملاك الكنيسة في 2 نوفمبر 1789، الجمعية الوطنية صادرت أملاك الكنيسة الكاثوليكية، مما قلل من قوتها الاقتصادية والسياسية.
إعلان حقوق الإنسان والمواطن في 26 أغسطس 1789، وهذه الوثيقة أرست مبادئ الحرية والمساواة والأخوة التي كانت أساس الثورة الفرنسية وتضمنت الحق في الحرية الدينية
الدستور المدني للكهنة في 12 يوليو 1790، وهو قانون أقرته الجمعية الوطنية الفرنسية وأدى إلى تحويل رجال الدين إلى موظفين عموميين عاديين وقلص بشكل كبير سلطة الكنيسة الكاثوليكية.
إلغاء الأديان الرسمية في 1795، و الدستور الفرنسي لعام 1795 (الذي عرف أيضًا بدستور العام الثالث) ألغى الكنيسة كدين رسمي للدولة وأكد على فصل الدين عن الدولة.
قوانين اللائيكية، (Lois Laïques)
هذه الإجراءات والوثائق كان لها دور حاسم في انهاء سلطة الكنيسة الكاثوليكية ووضع الأسس لنظام علماني في فرنسا، وهي تمثل خطوات ثورية مهمة نحو تحقيق حكم علماني حديث.
هل الجهات التي أصدرت هذه القرارات تشريعية منتخبة ام ثورية ام ثورية تنفيذية؟
الوثائق والقرارات التي أُصدرت خلال الثورة الفرنسية كانت من قبل جهات ثورية أكثر من كونها تشريعية منتخبة بالمعنى المتعارف عليه. الثورة الفرنسية شهدت تغييرات سريعة وجذرية في الهيكل السياسي للبلاد، وتم تشكيل عدة هيئات ثورية تولت مهام التشريع خلال هذه الفترة، ومن بين هذه الهيئات:
الجمعية الوطنية: (Assemblée Nationale)
وهي جمعية تأسست خلال الثورة وكانت تضم ممثلين من طبقات مختلفة في المجتمع الفرنسي. هذه الجمعية لم تكن منتخبة وفقًا للمعايير الديمقراطية الحديثة، لكنها كانت تحمل شرعية ثورية كممثل للشعب.
الجمعية التأسيسية الوطنية: (Assemblée nationale constituante)
تم تشكيلها بعد الجمعية الوطنية وكانت مسؤولة عن صياغة الدستور.
المؤتمر الوطني: (Convention Nationale)
والذي كان جزءًا حاسمًا من الثورة الفرنسية. تم تشكيل المؤتمر الوطني بعد الجمعية التأسيسية الوطنية ولعب دورًا رئيسيًا في الفترة الأكثر راديكالية من الثورة الفرنسية، و المؤتمر الوطني مسؤول عن بعض القرارات الأكثر شهرة وتأثيرًا خلال الثورة، بما في ذلك إلغاء النظام الملكي. المؤتمر أعلن فرنسا جمهورية في 22 سبتمبر 1792، مما أنهى النظام الملكي رسمياً
وتم إعدام الملك لويس السادس عشر بعد محاكمتة. تم إعدامه بالمقصلة في 21 يناير 1793، وهو حدث رمزي يُظهر قطيعة الثورة مع النظام القديم. ويمكن مقاربة الوضع مع طلبات تسليم عمر البشير الي المحكمة الجنائية الدولية!
خلال الثورة الفرنسية، صدرت وثائق مهمة مثل إعلان حقوق الإنسان والمواطن والدستور المدني للكهنة تحت رعاية هيئات ثورية. وفيما يتعلق بالإجراءات التنفيذية، استُحدثت لجان مثل اللجنة العامة للأمن العام، والتي كانت مسؤولة عن صنع القرارات التنفيذية في مراحل متأخرة من الثورة. بشكل عام، كانت هذه الجمعيات واللجان تعمل ضمن إطار ثوري، متبنية بعض الوظائف التشريعية والتنفيذية خلال هذه الفترة العاصفة والحاسمة من التاريخ الفرنسي. ويمكن مقاربة هذا مع تجربة قحت بعد سقوط عمر البشير!!!
إندونيسيا، كأكبر دولة ذات أغلبية مسلمة من حيث عدد السكان، تعتمد مبدأ “البانكاسيلا” الذي يشكل الأساس الفلسفي للدولة. البانكاسيلا تضمن مبادئ التوحيد، الإنسانية، الوحدة، الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، وتعكس روح العلمانية من خلال تأكيدها على التنوع والتسامح الديني دون تفضيل دين على آخر في الشؤون الحكومية.
ومبدأ البانكاسيلا في إندونيسيا تم تبنيه أولاً من قبل الرئيس الإندونيسي سوكارنو كأساس للفلسفة الوطنية وتم عرضها في خطاب قبل استقلال إندونيسيا. أي عبر المبادرة التنفيذية للرئيس سوكارنو وتم دعمها لاحقًا من خلال السلطة التشريعية.
في تركيا، خلال العشرينيات والثلاثينيات، قام مصطفى كمال أتاتورك بتنفيذ سلسلة من الإصلاحات العلمانية الشجاعة بصفته مؤسس الجمهورية التركية وأول رئيس لها. هذه الإصلاحات بدأت أولًا كقرارات تنفيذية تهدف إلى تحديث الدولة وتعزيز هويتها الوطنية المستقلة والعصرية، قبل أن تتبلور في إصدارات تشريعية لاحقًا.
بدأت هذه الإصلاحات بإلغاء السلطنة في 1 نوفمبر 1922، مما وضع نهاية للحكم الإمبراطوري وفتح الطريق أمام إقامة جمهورية علمانية. تبع ذلك إعلان الجمهورية في 29 أكتوبر 1923، وتم انتخاب أتاتورك رئيسًا لها. وفي 3 مارس 1924، أُلغيت الخلافة الاسلامية، مما أدى إلى فصل الدين عن الدولة. وفي خطوة نحو التحديث والعلمنة، تم تبني حزمة قوانين هامه في عام 1925. كما تم إصلاح القانون المدني في 17 فبراير 1926 بالاستناد إلى القانون المدني السويسري، و استبدل الشريعة الإسلامية بنظام قانوني علماني. وفي 1 نوفمبر 1928، تم تغيير الأبجدية من الحروف العربية إلى اللاتينية لدعم الهوية الوطنية التركية.
مصطفى كمال أتاتورك، بغض النظر عن المواقف المختلفة تجاهه، استغل بوضوح لحظة تاريخية حاسمة في تركيا لينفذ سلسلة من الإصلاحات التنفيذية التي كان يؤمن بأنها ستقود البلاد نحو الحداثة والتقدم. بدأ بقرارات حاسمة لفصل الدين عن الدولة، وتبع ذلك بإصلاحات تشريعية لترسيخ هذه القرارات وضمان استمراريتها. اليوم، تشهد تركيا نتائج هذه الجهود، حيث تعتبر واحدة من أكبر الاقتصادات في العالم، مع ناتج محلي إجمالي يزيد عن 900 مليار دولار، وتقدم ملحوظ في مجالات التعليم والصحة والصناعة. تشير التقارير إلى تحسن في مؤشرات التعليم، مع ارتفاع معدلات الالتحاق بالمدارس وتطور البنية التحتية الصحية. في الصناعة، تحتل تركيا مكانة بارزة بفضل التوسع الكبير في قطاعات مثل الصناعات التحويلية والتكنولوجيا. كل هذه التطورات تعكس الأسس التي وضعها أتاتورك، والتي ما زالت تدعم نمو تركيا وتطورها.
وان كنا في السودان لا نقول بتكرار نموذج مساوي اتاتورك الا اننا نقول ان الثورة تحتاج الي ثوار!
عندما تواجه الشعوب لحظات تاريخية محورية، يتطلب الأمر قادة ثوريين يتخذون قرارات تنفيذية حاسمة وشجاعة، دون الاعتماد على وجود مؤسسات تشريعية أو دون التأثر بمعارضة القوى التي تسعى للمحافظة على القوانين الممارسة للتمييز والعنصرية. في زمن الثورات- الثوار هم الذين يقودون التغيير الجذري ويعملون على إزالة العوائق التي تحول دون تحقيق المساواة والعدالة، والتغيير في السودان يحتاج الي ثورة، لا الي إصلاحات خجولة وقاصرة توقف الحرب وتحافظ علي بنية الدولة العنصرية، والثورة لايقوم بها الا الثوار!
في الولايات المتحدة، يُحتفى بتاريخ الأمريكيين الأفارقة ونضالهم من أجل الحقوق المدنية والمساواة في شهر فبراير، وهو نضال طويل تميز بإجراءات ثورية مفصلية من الفرع التنفيذي كما اسلفنا- بعد ضغوط كاسحة ونضال ذكي ومثابر من الامركان الافارقة وحلفاءهم. على سبيل المثال، أصدر الرئيس أبراهام لنكولن، في تصرف تنفيذي جريء، إعلان التحرير في عام 1863، الذي أعلن الحرية للمستعبدين في الولايات الكونفدرالية وأرسى الأساس للتعديل الثالث عشر من الدستور الامريكي الذي ألغى العبودية بشكل كامل.
ولاحقا، تواصلت الإجراءات الثورية عبر الأوامر التنفيذية التي أصدرها الرؤساء الأمريكان لتعزيز الحقوق المدنية ومكافحة التمييز مثل بكل اوجهه. وهنا نماذج للاوامر التنفيذية التي فرضت فرضا علي المجتمع الأمريكي الرافض للمساواة حينها:
الأمر التنفيذي 8802 من قبل الرئيس فرانكلين د. روزفلت في 1941، الذي منع التمييز في صناعة الدفاع.
الأمر التنفيذي 9981 الذي أصدره الرئيس هاري إس. ترومان في 1948، والذي ألغى الفصل العنصري في القوات المسلحة.
الأمر التنفيذي 10925 الذي وقعه الرئيس جون إف. كينيدي في 1961، الذي طلب من المقاولين الحكوميين تنفيذ إجراءات فورية لضمان عدم التمييز في التوظيف ضد الامركان الافارقة.
الأمر التنفيذي 11246 الذي أصدره الرئيس ليندون ب. جونسون في 1965، الذي حظر التمييز في التوظيف من قبل المقاولين الفيدراليين.
هذه الإجراءات، بالإضافة إلى أوامر تنفيذية أخرى مثل الأمر التنفيذي 11478 الذي أصدره الرئيس ريتشارد نيكسون في 1969 لتعزيز المساواة في العمل بالحكومة الفيدرالية، والأمر التنفيذي 12898 الذي وقعه الرئيس بيل كلينتون في 1994،
وهذا الأمر ركز على العدالة البيئية وغيرها.
لم تخضع كل هذه الإجراءات للمراجعة أو التصديق من قبل أي مؤسسة تشريعية منتخبة. بعض هذه الإجراءات تم تقديمها إلى الأجهزة التشريعية التي رفضت الموافقة عليها بسبب طابعها العنصري آنذاك. هذا يشبه الحجج التي تُطرح اليوم من قبل بعض النخب السودانية العنصرية التي تزعم أن المجتمع ليس جاهزًا لقوانين أو مبادئ سياسية تضمن حقوقًا متساوية للمواطنين، مثل العلمانية التي لا تميز بين الأفراد بناءً على دينهم. تدعي هذه النخب أن المجتمع السوداني، والذي يقصدون به المجتمع الإسلامي بالأخص، غير مستعد لمثل هذه التغييرات!!
في نهاية هذا القسم من المقال، من الأهمية بمكان التأكيد على دور العلمانية كعامل رئيسي ومحوري في تحديد مستقبل السودان، حيث يُعد التقاعس عن تبنيها رفضًا للمساواة في المواطنة، السودان، بعدده الديني والاثني والثقافي، واجه ولايزال صعوبات في تحقيق تعامل عادل مع هذا التنوع. وعليه، العلمانية تصبح ضرورة إلزامية لضمان العدالة والمساواة في بلد ينشد تأسيس ديمقراطية شاملة لكل مواطنيه.
التجارب الدولية تُعلمنا أن الانتقال للعلمانية قد يحدث بطرق ثورية، خصوصًا عند فشل المؤسسات القائمة أو تعاونها مع النخب المعارضة للتغيير العادل. والسودان، على أعتاب أنهيار تاريخي، يحتاج إلى قيادة تجرؤ على اتخاذ إجراءات تاريخية وغير تقليدية لوقف الصراعات وتجذير أسبابها للحفاظ على وحدة البلاد. وعليه، يُعد دعم العلمانية في السودان الآن ليس مجرد خيار سياسي، بل هو التزام تاريخي وأخلاقي يستوجب على من يتصدوا للقيادة أن يعملوا بثبات نحو تحقيق مجتمع يُعلي من قيم العدالة والمساواة، وبناء دولة مستقرة وموحدة تقوم على مبادئ الحرية والمساواة لجميع المواطنين.
نواصل في الجزء الأخير من المقال
خالد كودي،
بوسطن 18/فبراير 2024
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.