ويحدثُونْك عن السُودانْ القَدّيمْ (١)
نضال عبدالوهاب
كنت قد بدأت في تقديم “رؤية” لسُودان جديد مُختلف يوازي كُل التضحيات التي قُدمت لأجله من الشعب السُوداني ولسنوات طويلة إمتدت ما قبل الإستقلال وحتي اللحظة ، مات فيها الملايين من السُودانين وهذه بلا شك أرواح عزيزة ، حدثت فيها إبادات جماعية وتطهير عرقي ، وأرتال من الشُهداء ، قامت ثورات كفاح مُسلح ، و ثورات سلمية مدنية ، كلها هدفت للتغيير لهذا السُودان الحُلم الجديد المُختلف ، ونحن في أتون هذه الحرب الحالية ، ومحاولات وقفها والحلول في إتجاهها كتبنا وقدمت رؤيتي هذه ، والتي أزعم أنه يُشاركني فيها ملايين السُودانين ، سواء في الهامش أو المركز ، الريف و القري والمدن وكل أجزاء بلادي ، سواء من الكتلة الصامتة ، و كل المكتوين بنيران الحرب الحالية وجميع الحروب السابقة ، أو حتي من الكثير من الفاعلين وأجيال التغيير ، ونتوق معاً جميعاً لعمل جماعي مُتصل علي الأرض لتحقيق هذه الرؤية عياناً بياناً علي أرض السُودان العظيمة ولكل شعوبه التي هي موجودة الآن والقادمة من رحم الغيب وأجيال لم تولد فيه بعد…..
ولكي تكتمل رؤيتنا التي شرعت في تفصيلها ، جاء في مُخيّلتي أهمية التعرض والتوضيح لماهية “السُودان القديم” الذي نرفضه ونقاومه ونعمل لإستبداله وفق رؤيتنا المطروحة لسُودان جديد مُختلف ومتقدم يجني ثمار جميع التضحيات من غير أن يتم التنازل عنه بعدها ، أو أن يتم الرضوخ لقوي السُودان القديم وأصحاب المصالح فيه من الأقلية التي أوصلتنا لكل هذا الدمار والخراب وهي تُصر علي إعتلاء السُلطة فيها وتسيير كُل المشهد والأحداث لصالح رغباتها وطمعها وأنانيتها مع ضيق أُفقها وقلة عقلها الذي لا يهديها إلا علي فكرة الإستحواز والإحتكار والإقصاء لأجل إستمرار إقامة دولة ضعيفة ومُفككة تملؤها الحروب والصراعات ، و في آخر قائمة دول العالم عوضاً علي أن تكون ضمن المُقدمة لما تمتلكه من موارد وثروات طبيعية وبشرية وعقول مُتميّزة وموقع جُغرافي مثالي يقع في قلب القارة الأفريقية ، مع تاريخ عظيم ضارب في الجذور وحضارات لشعوب عظيمة عاشت في أرضه مُنذ أن وجدت الدنيا…..
هنالك سمات لهذا السُودان القديم المُنتهية صلاحيته من حيث العقلية و الأفكار والطريقة التي ظل يُدار بها والقيادات التي تشب وتهيّمن علي أمور الدولة والحُكم فيه ، ساتناول ذلك تفصيلاً في هذه الأجزاء إمتداداً لرؤية السُودان الجديد المُختلف…..
ماهي أهمّ هذه السمات؟
سأُركز أولاً وأتناول العقليات التي ظلت تُميّز السُودان القديم…
١/عقلية الأنا
وهي العقلية التي لاتري إلا ذاتها ونفسها ، وتجدها في شكل قادة ونُخب ، وقد عاني السُودان كثيراً من هذه العقلية ، هي عقلية غير مُجددة ، وغير مُتعاونة ، ولا تؤمن بالتغيير ، وتصلح لأن تكون مثالاً للشموليين والدكتاتوريين ، وتجدها في العسكريين والمدنيين من الذين حكموا السُودان أو تواجدوا في أشكال الحُكم والأنظمة المُتعاقبة ، وهي بالضرورة عقلية غير ديمُقراطية ولاتؤمن حقيقةً بها وإن تدثرت بثوبها أو تحدثت بلسانها
٢/عقلية القطيع
وهي أيضاً العقلية التي لا تعرف غير الإتباع الأعمي ، لذلك فهي غير مُكترثة بالتغيير وتتعايش فقط مع القديم ، تنفذ الأوامر بشكل يُشبه الجنود تجاه قائدها العسكري ، لا مجال لديها لأنتاج تفكير يفيد ، وإنما فقط تناقل ما يقرره أو يخطه الزعيم أو السيّد ، وإعتباره نصوص إما مُقدسة أو غير قابلة للتعديل ، ولا ينفع معها غير الطاعة المسبوقة بالإعجاب ، ولعل هذه العقلية هي التي أخرت كثيراً من التغيير في السُودان لأنها ظلت موجودة داخل أحزاب كبيرة لدينا ، خاصة الطائفية منها ، في شكل “قيادات” و “نُخب” ، وعطّلت كثيراً من نقل بلادنا من واقع التخلف والبدائية و التقليدية لواقع النمو والتقدم والحداثة ، وتوجد كذلك هذه العقلية في قطاعات كبيرة تتبع لهذه الأحزاب والبيوتات في عضويتها وكذلك من يتعاطفون معها أو في دائرة تأثيرها ، وكذلك توجد هذه العقلية أيضاً في بعض الأحزاب السُودانية الوطنية الأخري ، فهي لم تكن تُمارس ديمُقراطيات حقيقية ، وظلت فكرة الزعيم أو القائد المُلهم المُطاع أيضاً موجودة داخلها ، ولا تتبع ديمُقراطيات داخلية صحيحة ، لذلك لم تطور في ادائها وتطور كوادرها لتصارع التقليدية وتنقل بلادنا لواقع أكثر تقدم وحداثة
٣/ العقلية العُنصرية
وهي العقلية التي لاتؤمن بالآخر المختلف وتعمل علي إقصاءه أو وضعه في مرتبة أدني سواء إجتماعياً أو من خلال جهاز الدولة أو نظام الحُكم وإدارة البلاد ، وهي عقلية عطّلت كثيراً في تاريخنا السياسِي أو من خلال أنظمة الحُكم المُتعاقبة وكيفية إدارة الدولة في السُودان ومن يحكمونه ، وهي التي فرضت الهوية العربية الإسلامية لعدم إيمانها العميّق والصحيح بتعدد الهويّات داخل السُودان ، وهي بالتالي قد أدخلتنا في دائرة صراعات إثنية نتيجة لعدم قبولها كذلك بالآخر المُختلف ، وقد تتعايش معه ولكن في الأغلب تضطهده وتقهره ، وتُصادر حقوقه في المواطنة وفي المُشاركة السياسية…
ونواصل…
7 ديسمبر 2023