جنوب السُّودان.. ماضيه وصيرورته (21 من 21)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
[email protected]
وفي أمر الحرب انقسم النَّاس إلى طائفتين: طائفة رأت أشعار هوميروس وقصص العهد القديم في الإنجيل وارتباطها بالحروب، ولم يكادوا يرون أنَّ الأحوال قد تغيَّرت منذ أن تمَّ تأليف هذه الأعمال، وهؤلاء هم ممن سُموا بالعمليين الخاليين من الأوهام. أما الطائفة الثانية فهي التي بلغت مبلغاً من الفهم شديد بالعالم الحديث، وحرَّروا عقولهم من نفوذ العبارات القديمة، فنُعتوا بالمثاليين اليتوبيين والخونة وأصدقاء كل الدول باستثناء دولهم. وقد رأى بعضهم أنَّه إذا كان هناك ثمة تقدُّم في العقلانيَّة وممارسة السلم ومنطق العلاقات الدوليَّة فمن الأفضل أن تكون هذه العلائق في أيادي أناس أقل انعزالاً، وأقل أرستقراطيَّة، وأكثر التصاقاً بحياة النَّاس العاديين، وألا يكونوا مترفعين لا يحبُّون أن يتسفَّلوا إلى الدهماء، وألا يتعالوا أن يمسُّوا العامة بجناح من رفقهم ولينهم، وأن يكونوا أكثر تحرُّراً من التحامل، أو التحيُّز لأفكار العصور البالية. كذلك من الأحسن لهم التركيز على التعليم الوطني، والتعاون على نوع من التضامن والتعايش السلمي، بدلاً من غرس الكراهيَّة والبغضاء في نفوس الأجيال.
أما بعد، فقد ظلَّت مسألة جنوب السُّودان جذوة مشتعلة منذ بواكير أيَّام استقلال البلاد، وبرغم من النداءات السلميَّة لحل هذه القضيَّة سياسيَّاً بالطريقة المثلى التي تحفظ السُّودان ككيان موحَّد، وتجعل أهله يرتضون بهُويَّة سودانويَّة كوعاء مشترك تنصهر فيه كل القوميَّات والأعراق والثقافات والطوائف الدينيَّة، وتنمية متوازية تحقق الرفاه للجميع، وعدالة أفقيَّة ورأسيَّة دون محاباة أو موالاة عشائريَّة وقبليَّة، وبرغم من ذلك كله لم تجد هذه النداءات الوطنيَّة والدستوريَّة حظاً من الاستماع. وحين انتفض أهل الجنوب عسكريَّاً، وجاء الاتفاق السياسي في أديس أبابا العام 1972م، شعر أهل القوميَّات الأخرى المهمَّشة اقتصاديَّاً وسياسيَّاً وثقافيَّاً واجتماعيَّاً ودينيَّاً بأنَّ سبيل الحصول على الحقوق المستحقة تأتي عن طريق حمل السِّلاح، إلا أنَّ الحرب حين تضع أوزارها يعود أهل العقد والحل في الخرطوم إلى ممارسة نفس النهج القديم، ولا نحسب أنَّ ذلك نابع من باب النسيان، بل من منهجيَّة التناسي، لأنَّ النسيان خطأ كما هو معلوم، والخطأ غير المقصود يصدر في الغالب عن اللاوعي. كما أنَّ نضالات أهل الهامش ومشاركاتهم الفعَّالة في دحر المستعمر في بعض الأحايين، وتضحياتهم عند الهزيمة في أحايين أخرى لم تؤهِّلهم إلى بلوغ مراميهم، ورد اعتبارهم. إذ تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ المهديين كانوا قد وجدوا العون والسند البشري من النُّوبة والجنوبيين في حربهم ضد الإدارة التركيَّة-المصريَّة، بل جسَّد أهل الجنوب اسم المهدي في التراث الشعبي لديهم.
من إفرازات الحلول الجزئيَّة أو السيئة لمشكل الحرب الأهليَّة في السُّودان هو نشوب حروب أخرى بذات المتطلبات، حيث أنَّه عند تدفُّق الحوادث دوماً كسيل العرم يكون أصعب شيء هو محاولة الوصول إلى المنابع. ليس إلى الشك من سبيل في أنَّ أي شخص من جنوب السُّودان عاصر الأحداث الجسام التي مرَّ بها وعاشها أهله سوف يصِّوت لانفصال الجنوب، وبخاصة بعد أن أخفقت الحكومات المتعاقبة في تحديد هُويَّة السُّودان، ومعالجة قضيَّة الوحدة الوطنيَّة، وتحديد نظام الحكم السياسي، وتمكين الديمقراطيَّة التعدُّديَّة، وإقرار التنوُّع الثقافي والإثني والمذهبي، وتعزيز العدالة وبسط القانون، وتقاسم السلطة والثروة، وحسم مسألة الدين والدولة والعلاقة بينهما. فهناك من أهل الجنوب من عاش تجارب الحرب الأهليَّة في الجنوب في الفترتين: الأولى (1955-1972م) والثانية (1983-2005م)، لأنَّه مهما كتبنا وقلنا سوف لا نستطيع إحصاء أو استقصاء ما جرى من تجاوزات حقوق الإنسان الجنوبي والكوارث الاجتماعيَّة التي أفرزتها العدائيَّات. بيد أنَّ الطريقة المثلى التي كان ينبغي أن يحدث قبيل انفصال الجنوب العام 2011م هو تكاتف جميع أهالي الهامش في جنوب السُّودان وجبال النُّوبة والفونج ودارفور والبجة والنضال سويَّاً لانتزاع حقوقهم السياسيَّة والدستوريَّة والحقوقيَّة، وفي مخيَّلتنا تجربة تضامن قوى الريف السُّوداني في الثمانينيَّات من القرن العشرين، بحيث أنَّه كان يمكن أن يتمُّ تطويرها لاستيعاب مستجدات العصر وتطلُّعات المستقبل.
مهما يكن من شأن، فقد تعقَّدت أهوال السُّودان بمرِّ الزمان مع تفاقم مشكلات البلد في الاقتصاد السياسي، مما قاد إلى تعمُّق الأزمة الاقتصاديَّة، وتعثُّر بناء المؤسَّسات الديمقراطيَّة بواسطة السياسات الانتقاليَّة، والخزينة الخاوية على عروشها، والقسمة الضيزى في الثروة والسلطة والنفوذ السياسي، التي تُشكَّل دوماً على أسس جغرافيَّة وإثنيَّة ودينيَّة، وغياب الدستور الذي يمكن أن يحتكم إليه الشعب السُّوداني؛ ذلكم الدستور الغائب الذي ما أن بدأ الجدال اللازب حوله في الخمسينيَّات والستينيَّات من القرن العشرين حتى طفق قادة السُّودان الأوائل يجادلون فيه أعنف الجدال. فهناك من أراده دستوراً علمانيَّاً، وهناك من كان يريده دستوراً إسلاميَّاً، وهناك من كان يرى أنَّ المطلوب هو دستور سوداني التوجُّه بملامح ليبراليَّة غربيَّة، ثمَّ كانت هناك دعوة أيضاً من أجل إصدار دستور بملامح شوفينيَّة.