جنوب السُّودان.. ماضيه وصيرورته (10 من 21)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
[email protected]
مما لا شك فيه هو أنَّ جيل الثمانينيَّات يتذكر بشيء من الحزن والأسى مذبحة الضعين وعودة الرِّق في السُّودان في آذار (مارس) 1987م، إلا أنَّ من المؤسف حقاً أنَّ كل هذه المجازر قد تمَّت بأيدي مواطنين سودانيين ضد شركائهم في الوطن، وبإيعاز أو تواطؤ من الدولة وأجهزتها السياسيَّة والأمنيَّة. لم يكن ذلك خطأً، بل عمداً، والعمد هو الإقدام على فعل شيء مع سبق الإصرار والترصُّد؛ أما الخطأ فمصدره الالتباس أو عدم الفهم.
أما من جانب العسكر، فالتاريخ المأسوي في السُّودان “يسجِّل دور الجيش في مقتل ويليام دينق، الذي لم يكن محل شك أو تخمين بعد أن أثبتته لجنة التحقيق التي ترأسها القاضي دفع الله الرضي، وضمَّت اثنين من ضباط الشرطة هما عبد الرحمن محجوب وحسن أحمد قيلي.” وكان على رأس القوَّة العسكريَّة التي اغتالت دينق وهو يقود حملة انتخابيَّة وسط أهله في الجنوب، بعد أن تخلَّى عن التمرُّد وانضم إلى ركب السَّلام، ضابط رفيع برتبة رائد في القوَّات المسلَّحة السُّودانيَّة الرَّائد صلاح فرج. علاوة على ذلك، وقع حدثان في الجنوب كان الجيش السُّوداني هو الجاني. الحادث الأول في جوبا في 8-9 تموز (يوليو) 1965م، والثاني بعد يومين فقط في واو حين فتح الجيش نيرانه على حفل زفاف وقُتل كثراً من مثقفي الجنوب. وشاءت الأقدار أن يكون أحد القادة العسكريين الذين نفَّذوا مذبحة جوبا النقيب عثمان حسين أبو شيبة الذي أعدم مع من أعدم من العسكريين والمدنيين في أعقاب المحاولة الانقلابيَّة الفاشلة التي قادها الرَّائد هاشم العطا في 19 تموز (يوليو) 1971م. ويذكر التاريخ كذلك الضابط السفَّاح يحيى نمر ضمن زمرة العسكريين الذين كانوا مسؤولين عن مجزرة جوبا، وقد قيل إنَّ نمراً قد تنمَّر وبات سفَّاحاً يريق دماء أهل الجنوب المدنيين بعد أن قُتِل زميلة الملازم زهير بيومي في عمليات عسكريَّة بواسطة المتمرِّدين الأنيانيا. إذ يُحكى أنَّه بعد أن تقاعد من الجيش وبينما كان عائداً مع فرقة الديوم الشرقيَّة الموسيقيَّة من مدني إلى الخرطوم، وقعوا في حادثة مروريَّة وسارت على جسده عربة حتى انهرس جسده، وتلاشى تماماً، وبات كالبساط.
تلك صفحة دامية في تاريخ السُّودان الحديث، وهي صفحة جرى خلفها تاريخ طويل من دماء سُفكت، ولا تزال تسير بغير حساب. وهل أنبئكم بكتاب “النيل يغدو أحمر” (The Nile Turns Red)، الذي نشره أليكسيس مبالي يانغو ودقَّقها أيه جي مونديني العام 1966م، والذي كُتب على غلافه بأنَّ الأفارقة في جنوب السُّودان يناضلون من أجل البقاء، وها هي القصة الصادمة غير المعروفة إلا لماماً عن المعاناة الصامتة والموت. لقد صوَّر الدكتور الأديب الأريب فرانسيس دينق مجازر المدنيين العزَّل في مدينتي جوبا وواو في رواية سياسية تحمل العنوان “بذرة الخلاص” (Seed of Redemption: A Political Novel) المنشورة العام 1986م. وفي الرواية نفسها تحدَّت الدكتور دينق عن اغتيال ويليام دينق بواسطة عسكر الحكومة؛ تلك الرواية التي تناولت – فيما تناولت – أزمة السُّودان السياسيَّة منذ بواكير عهده بالاستقلال، ورواسب الاسترقاق التي تحوَّرت إلى مشكلات اجتماعيَّة وثقافيَّة، والهُويَّة المأزومة الضائعة بين الادِّعاء العربي الكذوب والانتماء الإفريقي النابع من الجذور. عليه، فعلى المرء أن يدرك بأنَّ أيَّة هُويَّة قابلة للنقاش مشكوك في أمرها. لعلَّ من الجدير بالذكر أن نقول إنَّ رواية “بذرة الخلاص” إيَّاها تدخل باب الرواية الفلسفيَّة التي تعمد إلى الشكل القصصي على سبيل التشويق، والحث على دخول الطريق، عكس الرواية الشطاريَّة، التي تشتمل على شيء زائد أو ناقص، لا يظهر بجلاء في سياقها المباشر، ولا يتضح إلا في إطار أوروبي.
على أيٍّ، فقد كان الهدف من تلك المجازر، الذي لا شك في ذلك، هو التخلُّص من الطبقة المتعلِّمة في الجنوب، وهي تلك الطبقة التي ارتأى القائمون بأمر البلاد والعباد في الخرطوم بأنّها هيَ التي تقود رسن العمل السياسي في الجنوب، وهي الطليعة المستنيرة التي تقوم على توعية أهل الجنوب وتبصرهم بحقوقهم السياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة، ثمَّ هي بتعليمها الكنسي لها – حسب ادِّعاءات السلطات الحكوميَّة – ارتباطات بالدوائر الأجنبيَّة والمخابراتيَّة ضد السُّودان دولة وأرضاً وشعباً.
للمقال بقايا باقيات،،،