انفصال الجزء لا يضمن استقرار الكل
الدكتور عمر مصطفى شركيان
كثيرا ما كان يردد بعض الانفصاليين العتاة من أهل الشمال مرارا وتكرارا بأن على جنوب السودان أن ينفصل ويذهب إلى سبيله، ومن بعد سنكون نحن معشر أهل الشمال على أتم الاستقرار والأمان، ومن ثم نتفرغ إلى قضايا التنمية، لأن الحرب المستعرة المستمرة ردحا من الزمان قد قضت على كل عوامل الاستقرار والأمن والرفاهية في البلاد كافة. وهم في أمانيهم تلك، يرددون ذلك وكأن الشمال ذاته متجانس. غير أننا كنا نجادل ما وسعنا الجدال، ومنذ بزوغ الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، بأن انفصال الجنوب واستقلاله، لا يضمن ولا يعني بأية حال من الأحوال استقرار بقية أرجاء الوطن، وذهاب جزء من الوطن لا يوفر تلاحم البقية الباقية. فأنظر إلى تجارب الأمم الأخرى في العالم، الاتحاد السوفييتي السابق، والذي كان يتكون من ١٤ جمهورية، فها هو الآن عبارة عن جمهوريات مستقلة، وكذلك يوغسلافيا السابقة.
أفلم يكن السودان في التاريخ القديم والحديث مكونا من ممالك، أو سلطنات، أو دويلات إلى أن جاء الاستعمار التركي-المصري العام ١٨٢١م وعمل على إيجاد صيغة من صيغ الدولة، حتى ولئن لم يستطع بسط سيادة الدولة، وحكم القانون في جميع ارجاء البلاد. قديما في التاريخ الموغل في القدم، كانت هناك ممالك البجا الخمس، ومملكة المغرة، والنوبة وعلوة، ثم قامت على أنقاض الأخيرة مملكة سنار، أو الفونج، أو السلطنة الزرقاء، وهي في واقع الأمر السلطنة السوداء، ولكن السودانيين يتنكرون على اللون الأسود، وينظرون إليه كشحا وشذرا، ثم يصفون من كان أسود اللون بألوان لا تمت إلى الواقع بشيء. فعلى سبيل المثال ينعت السودانيون الإنسان ذا الملامح السوداء بأنه أخضر الليموني، أو أسمر جميل فتان، أو أغبش، وذلك في شيء من المواراة غريب. كذلك كانت هناك مملكة التنجر، وسلطنة دارفور، وسلطنة المساليت في غرب السودان، ومملكة المسبعات في كردفان (الأبيض)، وغيرها.
مهما يكن من شأن، إذ لم يفلح الأتراك-المصريون من السيطرة على جنوب السودان، أو جبال النوبة، أو حتى أعالي النيل الأزرق، بل ظلت هذه الأقاليم مراتعا لهم لصيد الرقيق، وبيع أجدادنا وجداتنا في أسواق النخاسة المحلية والاقليمية. أولم تكن مملكة تقلي مستقلة الاستقلال الكامل منذ نشوئها في القرن السادس عشر الميلادي، وكذلك جبل الداير الذي كان عصيا على الغزاة الاتراك-المصريين، وحتى دولة المهدية! أولم تكن أقاليم الجنوب يحكمها سلاطينها مثلما كانت الحال عند سلاطين الدينكا، أو رث الشلك، أو سلاطين الأزاندي، والتبوسا واللاتوكا وغيرهم من القبائل الأخرى.
عودا للذين ما فتأوا يطالبون بانفصال الجنوب السوداني في الماضي، وقد ألحوا على ذلك الحاحا شديدا، الأموات منهم والأحياء، حتى ذهب الجنوب، وإذا بجنوب جديد في جبال النوبة والنيل الأزرق يظهر لهم من حيث لا يعلمون، وكان أدرى بهم أن يعلموا، ثم إذا بجنوب آخر يتفجر لهم حربا شعراء بلا هوادة في دارفور! ها نحن نقول لهؤلاء الغلاة من أهل الشمال النيلي، الذين يملأون وسائط التواصل الاجتماعي استصراخا لأهليهم بأن يسعوا سعيا حثيثا لإنشاء دولة النهر والبحر، أو البحر والنهر، وليذهب إقليم دارفور أرضا وشعبا، فها نحن نقول لهم هل استفتيتم أهل البجا، وأخذتم موافقتهم في أن تكون تلال البحر الأحمر جزءا لا يتجزأ من دولتكم المزعومة المأمولة؟ ثم هل استغنيتم كل الغنى عن أقاليم جبال النوبة وشمال كردفان والنيل الأزرق؟ وهل إقليم الجزيرة سوف يكون من ضمن مديريات أو محافظات أو مقاطعات دولتكم الوليدة باعتبار ما يكون؟ ثم ما هي حدود دولتكم المزعومة تلك، وما هي الوسائل التي أنتم عاكفون على استخدامها لتحقيق هذه الرغائب الوهمية (Wishful thinking )؟
قد يستغرب البعض من جملة الاساءات والنعوت العنصرية التي ملأ بها بعض جهلاء السودان من القوميات التي تدعي العروبة، وتتمسح بأعتاب الإسلام، وقد درسنا قديما ونحن أيفاع نتمدرس في المدارس الابتدائية بأن الدين المعاملة، وليس المسلم بطعان ولا لعان، ولا يغتب بعضكم بعضا، ومن يفعل ذلك فكأنه ياكل لحم أخيه، وكذلك أمرنا الإسلام بالابتعاد عن الهمز واللمز وغيرهما من الصفات الرذيلة، لكن أين أتى هؤلاء المسلمون الغلاة، وآيات الله الاسلامويون في السودان؟
أيا كان أمرهم أو منبتهم، فإن ما يتداول في وسائط التواصل الاجتماعي من العنصرية الكاثرة، كان قبل اكتشاف هذه الوسائل الاعلامية المنتشرة بأنماطها المسموعة والمقروءة والمكتوبة، يتم تداوله في دواوين الحكومة سرا، وفي مجالس المدينة نكاتا واستهجانا، ثم قي اتهامهم لسكان الضواحي وأطراف المدائن مدعين بأن ساكني المنازل العشوائية ما هم إلا لصوصا جبارين في الأرض، ويستوجب اجتزازهم، وذلك في الأثناء التي فيها يتركون اللص اللصوص حين يختلس ملايين الدولارات، ويذهب حرا إلى أهله يتمطى. ولكن ما أن انتشرت العولمة، أو الكوكبية – إذا استعرنا مصطلح السيد الصادق المهدي، يرحمه الله – حتى ملأ أولئك وهؤلاء الجهلة الجهلاء الساحات الإعلامية بهذه العبارات المقززة، التي تشي بتشظي النسيج الاجتماعي في السودان، وتعمل على تباعد مساحات التلاحم بين الاثنيات المختلفة. كان من الأحرى بهم أن يحفظوا ألسنتهم لقول القول الحسن، أو الصمت الذي هو عنوان الحكمة في مثل هذه الأحايين.
لا سبيل إلى الشك في أن العدو المشترك اليوم لجميع السودانيين، وفي هذه اللحظة الانعطافية الحرجة من حيواتهم، هو ميليشا الجنجويد (قوات الدعم السريع)، إذ ينبغي عليهم أن تتكاتف كتوفهم، وتتشابك سواعدهم لاقلاعهم من الأرض، وتجفيف منابعهم في السودان، والعمل على سد الثغرات التي يتسللون من خلالها إلى ديار السودان، ثم من بعد على السودانيين أن يجلسوا جمعيا، ويتحاوروا في المشكلات التي أدت إلى نشوب الحروب الأهلية: الهوية السودانية، والعلاقة ببن الدين والدولة، وتقاسم السلطة والثروة، والطريقة المثلى لحكم البلاد، والعمل على احترام حقوق الإنسان وصيانتها، والاقرار بالتعددية الثقافية والاثنية والدينية، وحقوق النوع (الجندر) وغيرها من المشكلات التي من أجلها يصطرع أهل السودان منذ زمن ليس بقصير.
الأثنين، الموافق ١٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٣م
بريطانيا