قول هل قول
د. عمر مصطفى شركيان
قرأنا في هذه المدونة وغيرها من المدونات الكثيرة، التي تكتظ بها منابر جبال النوبة اكتظاظا شديدا، وشهدنا ما يدور فيها من نقاشات وحوارات لا بأس عليها، وقد وجدنا الكثير المثير. بيد أن أغلب النقاشات، التي وقفنا عليها، تدور حول القضايا السياسية، دون سواها من القضايا الأخرى التي ينبغي ايلاؤها الأمر على حد سواء، والالتفات إليها، وأخذها مأخذ القضايا السياسية في الجدة، لأنها في واقع الأمر مرتبطة ارتباطا وثيقا بالقضايا السياسية.
إني أعني، ما أعني، في هذا المنحى القضايا التاريخية والثقافية والاجتماعية والتنموية، حيث أن السياسة وليدة من هذه العناصر الحياتية الأخرى. لا شك في أننا، نحن معشر النوبة، قد لا نختلف في تاريخنا الذي كله مأسي وتراجيديا شكسبيرية، وثقافتنا الأصيلة لا ريب في أنها مشتركة، وقد تحدثت مع كثر من الرفاق والأصدقاء من قبل، ممن هم ينتمون إلى مناطق الجبال الأخرى، فلم نجد فرقا كبيرا أو قليلا أبدا في المسائل الثقافية واللغوية، بل فروقات طفيفة في نطق بعض الأسماء المادية للأشياء، وتغيير الحروف ونحوها، حتى في اللغات التي يتكلم بها أهل النوبة. أما الطقوس والشعائر التعبدية فقلما نجد فرقا يمكن الارتكاز عليه، والجدال فيه. ازاء ذلك المسح الاجتماعي واللغوي العابر في الاحتكاك والتعامل مع المجموعات القبلية الأخرى، قد خرجت بانطباع قوي ألا هو أن النوبة كانوا في يوم ما أمة واحدة، لكن تفرقت بهم السبل من جراء العدوان الخارجي عليهم في السودان، والتغيرات المناخية من تصحر وجفاف وزلازل وغيرها، مما جعل كل قبيل يتقوقع في جبله، ويطور لغته وعاداته وتقاليده بشيء من الاختلاف طفيف مع غيره من القبيل الآخر. فقد قيل إن الإنسان وليد البيئة، التي ينشأ فيها ويأخذ منها. لذلك لا غبار علينا لئن نحن اجتهدنا ما وسعنا الاجتهاد في الحفاظ على هذا الموروث التالد والطارف، لأنه رمز هويتنا، وعنوان وجودنا في السودان وخارج السودان. أفلم يخرج البعض منا إلى خارج الوطن، وطلبوا اللجوء السياسي في المهجر على اساس أنهم نوبة، وهو يتعرضون لاضطهاد ديني وسياسي وثقافي في السودان!
أما في القضايا السياسية فقد راينا أن هناك من النوبة من هم كانوا قد انتموا إلى الأحزاب الطائفية، أو ما يسمونها الأحزاب التقليدية، ونحسب أن هذا العدد قليل جدا، بل وربما هجرت هذه المجموعة تلك الأحزاب هجرا مليا. وهناك من ارتبط بالحركة الإسلامية، وقد كثر هؤلاء وسط النوبة لعدة اسباب، نختصرها في أن بعضهم قد انخدع بالشعارات الإسلامية البراقة، التي رفعها أهل الإسلام السياسي، فجروا معهم بعض البسطاء من أهلنا، كما انجرف نحوهم بعض المنتفعين من النوبة أو غيرهم في سبيل المال والمقام المحمود تاركين اخوتهم يناضلون وحدهم في سبيل الحقوق الدستورية والمدنية، وكان طول فترة أصحاب الإسلام السياسي في الحكم كفيلا في أن يجند كثرا من أهلنا الى “مشروعهم الحضاري”، و”ثورة الإنقاذ الوطني”، بالطبع إذا كانت عبارة “ثورة” تعني مؤنث “ثور”! كذلك هناك بعض من أبناء النوبة في الحزب القومي السوداني، وهم يناضلون من أجل انتزاع حقوق النوبة بطريقتهم هي الأخرى، ونحن نقدر اجتهاداتهم ذلك. أما الطائفة الأخرى من أهل النوبة في جبال النوبة فقد انخرطوا في الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، التي صارت بعدئذ الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان – شمال، وها هم الآن يناضلون من أجل إنسان النوبة، وكرامة النوبة، وأرضهم، وارثهم وثقافاتهم. والأهم في الأمر أن هؤلاء المناضلين قد أدركوا باكرا بأن تحقيق استحقاقات النوبة لا يمكن أن يأتي الا إذا حدث تغيير جذري في الخرطوم في مخاطبة القضايا الجوهرية التي أدت إلى النزاع المسلح في السودان، وقد أثبتت التجارب بأن الحكم الذاتي وغيره من الأعطيات التي تمنحها السلطة، أو تتفضل بها في المركز على الآخرين، يمكن أن تاخذ بين عشية وضحاها، وذلك متى ما شاءت؛ ولنا في السودان وغير السودان كثر من التجارب. فأنظر إلى اتفاقية اديس أبابا الموقعة في آذار (مارس) ١٩٧٢م بين حكومة جعفر محمد نميري وحركة تحرير جنوب تاسودان (الأنيانيا) بقيادة جوزيق لاقو، ماذا حدث لها؛ وأنظر كذلك لاتفاق الحكم الذاتي في إقليم كشمير المتنازع عليه بين الهند وباكستان ماذا جرى له، والأمثلة قد تكثر في هذا الأمر. نداءنا لبعض الأخوة الذين يجادلون في بعض المواضيع غير المجدية، وبخاصة التى تشيع منها العنصرية، أن يبتعدوا عن هذا الجدال العقيم، والتركيز على ما ينفع الناس في جبال النوبة على وجه الخصوص، والسودان بشكل عام. أما الذين ينفقون جل وقتهم في انتقاد الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، قادة وشعبا، عليهم أن يسألوا أنفسهم لماذا يضحي هؤلاء القادة والشعب في المناطق المحررة بأرواحهم وأسرهم وسط القذائف التي كان يسقطها الطيران الحربي الحكومي على رؤوسهم، ولماذا ظل هذا الجيش الشعبي يحارب دون أجر، عكس جند الحكومة المدفوع الأجر، أفلم تكن كل هذه التضحيات الجسيمة من أجل إنسان جبال النوبة والنيل الأزرق، وكذلك كل المهمشين في السودان! والأدهى والأمر هو أن هؤلاء ممن اتخذوا الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال منقصة، وظلوا يكيلون عليها كيلا من نعوت الاستهجان، لم نراهم ينتقدون الحكومة في قتلها لأبناء جلدتهم. فحين تشن الحكومة السودانية، أو قوات الدفاع الشعبي، أو المليشيات، أو الجنجويد، أو قوات الدعم السريع، هجوما على أهليهم نجدهم اما صمتوا صمتا مريبا، ورفعت أقلامهم، وجفت صحفهم، ونفد مدادهم، أو تعالت أصواتهم مصبحين ومنادين ومتسائلين أين الحركة الشعبية؟ ولماذا لا تقوم الحركة الشعبية بحماية النوبة؟ لم هذا التناقض الموارب.
الشيء المعروف هو أن القائد يكون دائما وسط أهله وجنوده، يأكل ما يأكله شعبه من الطعام، ويشرب ما يشربه من الماء، حتى لو كان هذا الماء كدرا وطينا. هذه هي القيادة الحقة التي نعرفها، ونؤمن بأنها قادرة لقيادة شعبها، وقد سميت الحركة الشعبية بهذا الاسم لأنها ملك للشعب، وتقوم بالدفاع عن حقوقهم المدنية والسياسية والقانونية والدستورية. ثم لا شك في أنكم تعلمون أن أكثر المناطق أمنا حاليا في السودان اليوم هي المناطق المحررة التي تقع تحت إدارة الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، وهي المناطق التي توجه إليها أبناؤنا وبناتنا وأمهاتنا بعد تفجر الأوضاع في الخرطوم في يوم ١٥ نيسان (أبريل) ٢٠٢٣م، وبعد أن ضاقت بهم الأرض بما رحبت، وقد رحب الرفاق بأولئك وهؤلاء المستغيثين، الذين وجدوا أنفسهم وسط اهليهم، ورحبوا بهم أيما ترحاب، وشاركوهم ما لديهم من طعام وشراب، وهم فيما يفعلون ذلك لتجدنهم فرحين جزلين كانوا وما زالوا. بما أن الصراع حاليا في السودان يعتمد كل الاعتماد على السلاح، فإن الجهة الوحيدة التي يمكن أن تحمي مصالح النوبة، وأهل النيل الأزرق هي الجيش الشعبي لتحرير السودان – شمال.
في مختتم حديثي أود أن اطلب رجاء من الأخوة والأخوات في هذه المجموعة، أو غيرها من مجموعات النوبة الكثيرة الكاثرة، التركيز على ما يجمع الشعوب المهمشة في السودان من التاريخ القديم والحديث، حتى نأخذ منه العبر والدروس لمواجهة الحاضر والاستعداد إلى المستقبل، وأن نتمسك بثقافاتنا وعاداتنا وتقاليدنا، التي تعتبر ترميزا حقيقيا لهويتنا، ثم علينا أن نتناول القضايا السياسية بالمنطق والعقلانية، ثم بالقلب السليم، دون الانحراف أو الانجراف نحو القبلية بالصورة التي حتما سوف تضر بالقضية السياسية بشكلها الخاص والعام، وأن ننأى بأنفسنا بعيدا عن التزمت الديني، لأن هذا التزمت مفسدة للمجتمعات، وهلاك للقيم الانسانية العظيمة، التي وهبها الله للإنسان، ثم علينا أن نقوم على اعمال العقل والمنطق العقلاني.
أمنياتي لكم بيوم جمعة سعيد، ودمتم ذخرا لأهل النوبة قاطبة، والسودان عامة
الدكتور عمر مصطفى شركيان
بريطانيا، الجمعة، ٣ تشرين الثاني (نوفمبر ) ٢٠٢٣م