فرص السودان الضائعة: هل من مزيد؟

بقلم عثمان نواى

 

الاستفادة من فرص هذه الحرب وإمكانيات توقفها تظل مقيدة بقدرة السودانيين على التخلص من عادتهم فى تضييع الفرص. قال ابرهيم منعم منصور أنه ظل يكتب لعام كامل حوالى ٥٢ مقال بمعدل اسبوعى يحصى فيها فرص ضائعة لهذه البلاد. ان ما تنبئ به التجارب السابقة لا يبشر بغير إمكانيات تضييع الفرص الان أيضا.

ومما يزيد القلق هو ان “الطغمة السياسية” التى يصعب الان وصفها “بنخبة” لما فى العبارة من جوانب إيجابية لم يعد فى الساحة السياسية الحالية السودانية الان من يمتلكها، تتبنى الآن خطوات تاريخية ظلت تتكرر بلا توقف عبر التاريخ الحديث للسودان.

فقد لجأت قحت التى كان يفترض بها قيادة انتقال مدنى ديمقراطي حديث بعد الثورة، انتقلت من الارتماء فى حضن الشعب وشحن طاقاته لبناء دولة المواطنة الحديثة، انتقلت الى حواضن مليشيا قبلية مجرمة تمثل منظومة دولة معسكرة، مقبلنة وفاسدة ومهيمن عليها خارجيا. وقد استنسخت قحت ذات تجربة مؤتمر الخريجين وافندية الاستقلال الذين استعاضوا عن الاستعانة بشعب وجمهور السودانيين المتعلمين والعمال فى الحضر والبوادي وبذل الجهد فى تعليم وتأهيل بقية الشعب لصناعة الاستقلال وبناء الدولة الوليدة ، استعاضوا عنهم بالارتماء فى أحضان شيوخ الطائفية المتحالفين مع الاستعمار تاريخيا الذين يبحثون عن طموحهم فى الملكية واستغلال جهل الشعب . وفى كلا الحالتين كانت الطغمة السياسية تبحث عن النزول إلى السلطة بالبرشوت من أعلى بدلا عن الحفر من أسفل وبناء علاقات ثقة مع الشعب وبناء الوعى الوطنى الذى يخلق دولة تكون السلطة فيها للشعب وليس حكرا وبلا مساءلة للطغمة النازلة من أعلى بالقوة الجبرية من خلال رعاية وحماية قوى استغلالية وذات مصالح خاصة بعيدة تماما عن مصلحة الشعب والوطن .

ان مشاريع احتكار السلطة فى السودان ظلت تهرب من سلطة الشعب الرقابية المحاسبية، ولذلك تريد الطغمة السياسية دوما اجتراح سبل تجنبها المرور من نيران المسائلة وتريد العبور مباشرة إلى سلطة تعلو فوق صوت الشعب. فإن قرارات القوى السياسية المدنية فى الذهاب إلى العسكر أيضا ليست غريبة على الطغمة السياسية في تاريخ السودان الحديث من أجل استمرار السيطرة على السلطة. فقد قال إبراهيم عبود فى شهادته على ايام تدبير انقلابه” “….قبل انعقاد البرلمان بنحو عشرة ايام جاءني عبد الله خليل وقال لي الحالة السياسية سيئة جدا ومتطورة ويمكن تترتب عليها اخطار جسيمة ولا منقذ لهذا الوضع غير أن الجيش يستولى على زمام الامر. فقلت هذا الى ضباط الرئاسة احمد عبد الوهاب وحسن بشير وآخرين. مرة ثانية جاءني عبد الله خليل فأخبرته بأن الضباط يدرسون الموقف، فقال لي ضروري من انقاذ البلاد من هذا الوضع..” شهادة عبود بتاريخ ٨ فبراير ١٩٦٥. لكل من لا يعرفونه فعبد الله خليل كان” أول رئيس وزراء للسودان ما بعد الاستقلال”!

ان هرولة اهل الاتفاق الإطارى نحو حميدتى ليقف ضد ما سموه تعنت الكيزان فى الجيش هو أحد أهم أسباب هذه الحرب. من الجانب الاخر فإن هرولة الكيزان إلى الجيش لصناعة تمترس فى المواقف ضد الإطارى أيضا ادت إلى ما نشهده الآن. وتجاهل كلاهما لصوت الشارع الرافض الإطارى ولكلا من الكيزان وقحت لهو السبب الاعظم فى دمار البلاد. وفى تجاهل صوت الشعب تتساوى وتتشابه الطغمة السياسية السودانية بمختلف معسكراتها. ان حالة الطغمة السياسية السودانية المستنسخة من ماضيها والتى لا تتعلم ابدا من تجاربها لهو المقياس الذى يجعل سيناريوهات تضييع الفرص تظل الأقرب فى واقع السودان الراهن والمستقبلى. ولن تنكسر دائرة تضييع الفرص مالم يخرج ساسة وقادة يفضلون الصعود من أسفل إلى أعلى والاحتماء بثقة الشعب على النزول من أعلى إلى كراسي السلطة والاحتماء بالبندقية. ان أقوى ما يمنع قيام دولة مدنية فى السودان هو لجوء القوى المدنية نفسها باستمرار للعسكر لحماية طريق وصولهم للسلطة. ان لم يتوقف مدنيو الطغمة السياسية عن عسكرة الفضاء المدنى، ويبدؤوا اختيار جانب سلطة الشعب على سلطة البندقية، فإن مصير هذه البلاد هو الضياع بعد تضييع كل الفرص.
[email protected]

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.