الازمة السودانية وقبلنة السياسة 

بقلم عثمان نواى 

 

Osman Naway Habila 

القبلية فى السودان هى مكون اساسي ليس فقط للمجتمع ولكن للتكوين الفكرى والمفاهيمى على مستوى الافراد والجماعات. وعدم تحديث المجتمع السودانى وفشل بناء دولة الخدمات والمواطنة جعل من القبيلة نواة الانتماء الرئيسية التى لم يجد السودانيين بديلا لها فى الدولة المدنية الحديثة. لذلك لم يجرى ابدا تفكيك دور القبيلة فى السودان لا سياسيا ولا اجتماعيا ولا اقتصاديا، بل على العكس تم التكريس له فى الدولة ما بعد الاستقلال عبر مؤسسات الدولة نفسها. ولكن الأسوأ فى الأمر هو ان عدم صناعة النظام البديل للقبيلة جعلها تتحور الى قوة ناعمة ودولة عميقة فى داخل الدولة. حيث تتشكل الانحيازات وكانتونات السلطة داخل مؤسسات الدولة نفسها على أسس قبيلة.

ولذلك فإن عملية tribalization عميقة حدثت للممارسة السياسية والفكر السياسي السودانى جعلت من الانتماءات القبلية وفهمها بدقة أولوية قصوى لفهم تعقيدات علاقات السلطة والقوة والصراعات علي السيطرة على الدولة. ومما يجعل الأمر أكثر تعقيدا، امتداد وتوسع التركيبة القبلية نفسها، فهى عابرة للحدود واقليمية مما يجعل قراءة صراعات السلطة فى السودان ذو بعد اقليمى معقد للغاية. ورغم انفكاك النخبة المدينية فى الخرطوم شكليا عن قبائلها، الا انها فى العمق لاتزال تتحالف وتشتبك وتشكل شللياتها فى دوائر مقبلنة. ولم تتحرر عن هذه القبلنة التنظيمات شبه الايدلوجية على راسها تنظيم الاخوان المسلمين فى السودان. وهو الذى حاول التسامى بجدية على انقسامات القبلية فى فترات إنشائها فى الستينات وحتى تسلمه السلطة فى مطلع التسعينات. ولكنه انهزم الى آليات ممارسة السياسة السودانية المتجذرة فى القبلنة وانفكت الحركة تتدحرج بين صراعات ذات طابع قبلى خفى كثيرا ومعلن احيانا.

ولم تتمكن الكيانات المسلحة التى نشأت لتقاوم أزمات الدولة المركزية فى أطراف السودان من التحرر من القبلنة السياسية. فنشات الحركة الشعبية فى جنوب السودان وتقسمت كثيرا قبل الانفصال وبعده على حدود الانتماءات القبلية. على مستوى السودان الشمالى حدثت نفس الأزمة على مستوى الحركات الأخرى فى دارفور وشرق السودان. الأحزاب السياسية الطائفية كانت محاولة لتشكيل تجمعات للانتماء اوسع من القبيلة، ولكنها فشلت فى ذلك لحد كبير. حتى الأحزاب اليسارية والتقدمية لم تستطع الهروب من قبلنة السياسة فى تشكيلات الشلليات التى تتحكم فيها. الكيانات الأمنية والجيش أيضا تحكمت فيهما تكتلات مقبلنة فى فترات عديدة.

ومن المدهش انه حتى تنظيمات المجتمع المدنى مثل المنظمات الغير حكومية والتجمعات الطلبية و التنظيمات الطلابية والمهنية التى يفترض فيها الحداثة والتمدن هى أيضا مقبلنة. ففى الجامعات ودول المهجر تتشكل التجمعات على أسس قبلية مناطقية مثل اتحاد طلاب أبناء كذا وجمعية أبناء المنطقة او القبلية الفلانية بالدولة الفلانية. حيث أن الفضاء المدنى الحديث افتراضيا تمت قبلنته أيضا.

مليشيات الدعم السريع هى تمظهر حديث لقبلنة السياسة، عبر ملشنة القبيلة أيضا. ورغم ان انحيازات بعض القبائل للدعم السريع لاتزال جزئيا مرفوضة من بعض المنتمين لذات القبائل ولكن تظل الملشنة على مستوى قبلى هى أداة صراع سلطوى جديدة تستند للقبلية أيضا. ومع تجربة الدعم السريع فان الأبعاد الإقليمية لقدرات القبيلة والتحالفات العابرة للحدود، إضافة الى الاستفادة من الانتماء القبلى لتمليش مجموعات واسعة، كانت نقطة قوة للدعم السريع ابان حوجة دول الخليج لقوات فى حرب اليمن، تمكن الدعم السريع من تحشيدها مستفيدا من روابط القبيلة ومن ثم توسع إلى الحشد باغراءات المال إلى مجموعات قبلية متقاربة ثقافيا.

قبلنة السياسة فى السودان لها ابعاد خطيرة فى الممارسات السياسية وطريقة التفكير لدى القادة والنشطاء السياسيين والمثقفين. وتشمل ضعف الثقة فى الآخرين المختلفين، والاكتفاء بما هو معروف لديهم والإنكفاء على الذات وعدم الانفتاح على الآخر او محاولة التعرف عليه وقلة الفضول والذى أثر على قلة البحوث النقدية والانثروبوجلية حتى فى المساحات الأكاديمية وضحالة المنتج الإبداعى وانعزاليته. إضافة إلى تفضيل المجموعات والأفراد الذين يعرفهم الشخص والاعتماد على الولاء بدلا عن الكفاءة، فى محاولة لحماية القبيلة التى تتمظهر احيانا فى أشكال حديثة تشمل تشكيلات حزبية او مجموعات مصالح اقتصادية وسياسية. عقلية الحمائية والخوف من الآخر وضيق الخيال تحكمت فى تاريخ العمل السياسي والثقافي السودانى وادت إلى استعداء مجموعات سكانية كاملة في السودان وولدت حروب حطمت مشروع الدولة السودانية الهش وهدرت موارد ثقافية إبداعية كان بإمكانها تجاوز الحدود المقبلنة للفضاء الثقافى والسياسة العام.

الخروج من واقع القبلة الراهن يحتاج تبنى سياسات تراعى النموذج الاجتماعى القبلى فى تكوينه الاجتماعى وربما تحافظ على بعض أشكالها لاغراض ثقافية تراثية. ولكن يجب بناء نموذج  يعمل على تفكيك الارتباطات ا السياسية والاقتصادية المقبلنة. وذلك يعنى بناء دولة خدمات تستند على حقوق مواطنية متساوية وبنية توافقية يشترك فيها جميع السودانيين، حيث القبيلة هى مرجع انتماء ثقافى، وليست امتياز سلطوى لأى مجموعة كانت وليست وسيلة لاستبدال أدوار الدولة الاجتماعية والاقتصادية ولا تشكيلات المجتمع المدنى السياسية سواء أحزاب او منظمات أهلية مستقلة. ولكى ننجو من أمراض السودان المزمنة التى ادت إلى دماره الان نحتاج إلى عملية   Detribalization “انهاء القبلنة” شاملة للممارسة والفكر والتركيبة السياسية والاجتماعية فى السودان. وهى عملية تحتاج إلى إعادة تحليل للازمة تتفهم أهمية ودور القبلنة فى كوارث السودان الراهنة.

[email protected]

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.