عن الدولة الوطنية ( القومية) مرة أخرى و فرص السودان للبقاء كدولة موحدة

بكري الجاك

 

في يوم 28 يوليو كتبت مقالا عن إمكانية قيام دولة قومية في السودان في أعقاب حرب الخامس عشر من أكتوبر وكان عنوان المقال “الدولة القومية و صناعة حقيقة الوهم: هل من فرص قيام دولة قومية في السودان من ركام حرب ال 15 من أبريل؟”، كانت هنالك ردود فعل من قبل بعض الاخوة هنا في الاسافير و غيرها حول ما قصدت تفصيلا (الأخ عادل شالوكا كتب مقالا يتساءل عن مقصدي و ذهب في اقامة حجة حول احتمال ما قصدت لمعنى الدولة القومية، و ايضا الصديق دكتور محمد جلال هاشم ارسل لي تسجيلا مطولا أيضا يتساءل يشرح فيه فهمه)، هذه التساؤلات حول ما قصدت موضوعية اجمالا و صحيحة في سياقها، فأنا لم اشرح ما قصدت بمصطلح الدولة القومية الوارد في عنوان المقال، و لم اشرح التضارب بين فكرة حقيقة وهم الدولة القومية، التي هي نتاج لصناعة حقيقة من وهم هوية متخيلة، و للذين كتبوا و تساءلوا عن هذا الالتباس فانا اعترف بتقصيري و ذلك ربما لافتراض أن المعني واضح أو أنها نتاج العجلة الفكرية و طبيعة الوسائط، فإذا كان هذا المقال قد كتب لدورية أكاديمية لما كنت سأكتب بهذه الطريقة و ما كان سيسمح المحكمون بمرور مثل هذه المادة دون تفكيك و شرح المصطلحات و دون إقامة الحجة التي تمهد لخلاصات نظرية و عملية. و للذين كتبوا و تواصلوا معي للتوضيح لهم مني كل الشكر و التقدير.

ما قصدت بفكرة الدولة القومية هو مفهوم الدولة الوطنية القائمة على المواطنة المتساوية وسيادة حكم القانون و ليس الدولة القومية القائمة على فرضية بوتقة انصهار تقوم بتذويب الناس في هوية مشتركة وخلق فكرة الأمة و المصير المشترك و الانسجام اللغوي و الثقافي، فمثل هذه التصورات غير انها اصبحت من الماضي و قد هزمت فكريا ومنهجيا وأصبح نموذج ما بعد الحداثة القائم على التركيز على السياق و من ثم الاحتفاء بالتنوع الثقافي Multiculturalism ، فكرة بوتقة الانصهار The Melting Pot و مشروع القرية الصغيرة Global Village كليهما أصبحا محل تشكيك و تم تجاوزها عمليا في نموذج الإصلاح السياساتي في كل الديمقراطيات الناضجة، ببساطة فكرة بوتقة الانصهار فكرة شمولية قائمة على صهر هويات الناس الصغري في هوي كبرى، أما مشروع القرية الكونية فهو نموذج للاحتفاء بـ النيوليبرالية القائم على مشروع التسويق و البراندنق والاستهلاك وهو امتداد لفكرة العولمة بمفهومها الاقتصادي و الثقافي. حين قلت فكرة دولة قومية كنت استخدم المعنى الاصطلاحي العام الذي يري في كل دول العالم الآن كنتاج لنماذج و مشروعات دول قومية قائم على خلق حقيقة للوهم في شكل هوية مشتركة وقيم عليا كلية حاكمة لمكونات الدولة القومية و نشيد وطني و غيرها من النعرات الوطنية، و صناعة هذه المشتركات هو جوهر معنى اشتغال الايدولوجيا و لا خلاف على ذلك. فكرة التنوع الثقافي ليس القصد به فقط التنوع الإثني و الطبقي و النوعي بل حتى الهويات الأخرى من النوع و الميول الجنسي و كافة أشكال التعقيدات المستحدثة حول الهويات.

هذا من باب التوضيح لطبيعة المعنى، أما فكرة حقيقة الوهم فهي قائمة على أن ما يسمى بحقيقة اجتماعية حول فكرة الدولة القومية هو في حقيقته وهم مصنوع لكنه يصبح حقيقة شغالة تحرك وجدان الناس و تجعلهم يعتقدون في اشياء و يخوضون حروبا مقدسة باسم الدفاع عن السيادة و هذا حقيقة في عالم اليوم. و في حقيقة الأمر أن مصطلح الدولة القومية Nation State به التباس كبير حتى في أصوله النظرية و التطور الذي حدث للحديث عن الدولة الوطنية هو لم يأتي من فراغ بل أتي من التطور التاريخي لفكرة الدول القومية التي تشكلت على أساس وحدة النوع واللغة في اوروبا و لاحقا تشريح فكرة العقد الاجتماعي أتي لشرح ما قام به الناس من تنازل عن سلطاتهم لدولة ( لافايثنون عن هوب) لتقوم بتنظيم المجتمع عبر السياسات العامة و احتكار العنف كوسيلة لممارسة السلطة و إنفاذ التعاقد. لاحظت أيضا أن هناك سوء فهم كبير حول ذكري لمفهوم احتكار العنف، في أكثر من موقع (هناك تسجيلات عدة) حين اتحدث عن دور الدولة في احتكار العنف أعني أنه ليس من حق الدولة ممارسة هذا العنف دون صيغة قانونية و دستورية تتيح لها الحق في السجن و توقيع عقوبة الإعدام. ما قامت به الدولة السودانية هو تاريخ طويل من عنف الدولة غير القانوني تجاه مكونات ظلت تشكك في مشروعية الدولة نفسها لفشلها في تأسيس مشروع وطني قائم على المواطنة المتساوية و الاعتراف بالتعدد الثقافي والتنمية المتوازنة لمعالجة الاختلال في العلاقة بين السلطة و الثروة.

جوهر فكرتي من كتابة المقال كانت التنبيه إلى أن السياق السياسي في بلادنا بدأ يأخذ منحى ممارسة تكاد تكون عبثية في استخدام مصطلحات مثل “مخاطبة جذور الأزمة”، أولا لا خلاف أنه من الضروري الاعتراف بأن المشروع الأحادي الاقصائي القائم على فرض هوية دينية أو ثقافية في السودان قاد إلى الفشل الوطني و الخراب العظيم الذي نشهده الآن و الاحتقانات الاثنية و المظالم التاريخية التي يمكن أن تقود مزيدا من التفكك والتقسيم على أسس إثنية لا محالة ستكون سببا في مزيد من الاقتتال وإراقة الدماء. التحدي يكمن في فهم أن مخاطبة جذور الأزمة هو بروسيس معقد، فلنفترض أن السودانيين تواضعوا اليوم على دستور علماني و دولة مواطن متساوية ببساطة قيام مؤسسات تضمن تحقق هذه القيم يتطلب عملية تاريخية فليس من المنطقي توقع قيام مؤسسات بمثل هذه القيم في بيئة اجتماعية و ثقافية لا تتمثل هذه القيم في هذه المرحلة من مراحل تطورها، و هذا ما قصدته بأننا يجب أن نتعاطى مع فكرة جذور الأزمة بشيء من التعقيد و تجنب الاستسهال و التبسيط الذي أصبح هو السائد في كل مناحي حياتنا. و الأهم هو أنه إلى حين قيام المؤسسات التي تحقق المواطنة المتساوية بشكل معقول لدى الناس، لابد من قيام جهاز الدولة بدوره في احتكار العنف واستخدامه بشكل قانوني ودستوري ليحدث استقرار يؤدي إلى تدافع مدني لإصلاح المؤسسات و مساءلتها باستمرار، ولابد من قدرة الدولة من القيام بدورها في تنظيم المجتمع عبر السياسات العامة وإنفاذ التعاقد، فالناس لا يأكلون هوية ثقافية و الأطفال لا يذهبون إلى المدارس فقط لتعلم حقوق وواجبات المواطنة المتساوية وفق دستور علماني، فهم قبل كل شيء في حاجة إلى تعلم مهارات تمكنهم من مواجهة الواقع المادي بقدرات تمكنهم من دخول سوق العمل وسبل كسب العيش، مثل هذه القدرات لا تبني بلواكة لبانة ” مخاطبة جذور الأزمة” وإنما بعملية تخطيط تنموي عقلاني يربط ما بين الموارد المادية و الرمزية في اجتراح مشروع تنموي قائم على الميزات التفضيلية السودان كبلد و كجغرافيا و كثقافة.

خلاصة قولي، أننا ندمن التحليل و نظن أن تشخيص المشكلة وحده كافي للعلاج، فمن ناحية كل المشاكل الاجتماعية لا يمكن تشخيصها بشكل كامل و ذلك لطبيعتها المعقد وفق نظرية التعقيد و لاستحالة ربطها بعامل واحد في علاقة سببية، وهذا الفهم هو ما قاد صناع السياسات العامة للتوجه نحو البراكسيز (التجريب) و تطوير الحلول بشكل مستمر، أتمني أن يكون مقالي هذا بمثابة دعوة للتفكير في الآليات و الانتقال من سؤال “ماذا” فنحن الآن على معرفة جيدة بأسباب الفشل الوطني العظيم، و لدينا قيم تجيب علي “لماذا” نقوم بهذا العمل و أن نتلمس الطريق الي “كيف” التي هي عقبة حمار العقل السياسي السوداني و نظم تعليمه الضاربة في النظري و المجرد و الضعيفة في مجال التطبيق و العمل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.