أليماييهو عيشيتي.. نجم العهد الذهبي الموسيقي في إثيوبيا (2 من 2)

 

الدكتور عمر مصطفى شركيان
[email protected]

في العام 1997م بدأ عيشيتي يخرج للنَّاس سلسلة من روائع أغنياته التي عُرفت وقتذاك ب”الإثيوبيات”! وبعد عام وحقبة من ذلك التاريخ، أي في حزيران (يونيو) 2008م، شارك عيشيتي في مهرجان غنائي في لندن، عاصمة الضباب. إذ تغنَّى بصوتٍ صدوح، واستظهر أنماطاً من رقصاته البهلوانيَّة على خشبة المسرح، حتى قام طرير الشباب، ورقصوا طرباً من الفرح، ورضوا بالمهرجان، أو – لنقل – حتى رأوا أنَّ ليس إلى الرضا من الاستمتاع سبيل، وكان ذلك قبل أن يلتحق برفاقه أحمد ومولاتو أستاتكي وعازف الساكسفون قيتاتشو ميكوريا لعرض شيءٍ من الإبداع الختامي البارع من ألبومه “أديس أبابا، منزلي”. هكذا كانت عروضه الغنائيَّة قد عرفت إقبالاً لافتاً للاستماع والاستمتاع، تدندن بها الأفواه، وتميل بها قوام الحسناوات. ففي إحدى حفلاته – وما شهدنا إلا بما قرأناه – ظهرت إحدى الحسناوات، وكانت أجمل ما في إثيوبيا في عالم الموازين والمقاييس، ثمَّ كانت زهرة صغيرة حلوة رقيقة تسعى في مشيتها كأنَّها النسيم العليل، وعندما تضحك أو تتحدَّث أو تنثني يتحرَّك حولها الصخر، وتتراقص الثريات، وتصدح أسراب الحمام بالهديل إعجاباً وحباً وهياماً. أجل، إنَّنا نبجِّل السيِّدات ذات النظرات الخالدات! أولم يقل الشاعر أشجع بن عمرو:
وماجتْ كموجِ البحرِ بينَ ثيابِها يميلُ بها شطرٌ، ويعدلُها شَطرُ

كان النسيم يضطرب بين جوانحها حالاً، والضوء الرفيق الرقيق يترقرق في هذا الجو المريح حالاً أخرى، يرسل أشعته الفضيَّة القمريَّة مثلما تفعل الينابيع حين ترسل مياهها العذبة هادئة، وتنساب على العشب كأنَّها الحيَّات. هكذا بدت حالي كقائل من قال سبحت مع النَّغم واللحن في ذاك المساء في أجواء هيوميَّة عاشقة، وسرحت مع ذاتي في خواطر غيوميَّة ملبَّدة.
هنا يبدو أنَّ الوقت قد حان أن نذكر أنَّ هذا الفتى – كما وصفه فالسيتو – كان قد ولد في أديس أبابا في حزيران (يونيو) 1941م، حيث رأى نور الحياة، وحيث خطا خطوته الأولى، ثمَّ كان والده أندارجي عيشيتي يعمل سائقاً لعربة الأجرة الرسميَّة في المدينة. أما والدته بيلاينيش يوسف فهي من وسط شمال محافظة وولو، حيث قضى الطفل عيشيتي سنوات الطفولة يرعى ببقرات الأسرة حين يغدو باكراً، أو يركض وحده لا شريك له أو مع بعض أقرانه وراء بضع شياه أو غُنيمات الحي في الروحة، أي آخر النهار. وما أن بلغ سن التعليم، حتى تمدرس في معهد التدريب الكنسي في أديس أبابا، وهو مدرسة داخليَّة، حيث كان يغنِّي في جوقة المعهد، وقد شرع يستمع ويستمتع بالموسيقى الغربيَّة في بادئ الأمر، بما فيها معبوده الموسيقي ألفيس بريسلي، ثمَّ أخذ يحلق شعر رأسه كما ظلَّ يفعل ألفيس، أي بإرساله مجندلاً إلى الخلف، إذ كان حلمه الأكبر، وأمله الأخضر، في نهاية الأمر. كان الفتى عيشيتي لمريوده ألفيس محباً، وبه معجباً إعجاباً يوشك أن يبلغ الفتون، وحين مات أدركه الخطب الجلل، وأودع في نفسه حزناً غائراً.
وتمرُّ السنوات وإذا والده يستشيط غضباً؛ وإذا هو يشعر بشيء من الغيظ شديد يدبُّ في أوصاله؛ وإذا هو يثور ويفور؛ ثمَّ إذا هو يرغي ويزبد، وذلك حين أصبح ابنه الفتى مغنِّياً. وقد جاء في القصص أنَّه في يوم ذي مغضبة عنه تسلَّح والده ببندقيَّة، وجاء من أقصى المدينة يسعى، وأخذ يتجوَّل في الأنديَّة الليليَّة في أديس أبابا وسط الضجيج والعجيج بحثاً عنه، ومهدِّداً بقتله في ذلك الجو المكفهر، وكان الهلع قد ملأ النفوس، واستأثر بالقلوب. كان عيشيتي في ذلك الرَّدح من الزمان يقول في نفسه لنفسه، وذلك بعد أن علم بالخبر الخطر: “لا أعلم لمثل هذه الغضبة في مثل هذه الساعة سبباً، وما أنا بالرجل المذنب، ولا المريب!” لم يدر بخلد والده بأنَّ ابنه ذاك الذي خرج يترقب، ويود قتله سوف يكون ذا شأنٍ مستعظمٍ في يومٍ ما، وذلك لأنَّ القدرة على اختراق حُجب المستقبل لا ينالها المرء إلا بعد جهدٍ جهيد، وصبرٍ أكيد، ومن ثمَّ تصالحا بعد أن أمسى عيشيتي نجماً موسيقيَّاً ذائع الصيت، وطبقت شهرته الآفاق في زمانه، وانتشرت أغانيه بين شُداة الغناء والنَّغم، أو – بالأحرى لنقل – بعد أن فعلت الأيَّام أفعالها، وأحدثت الحياة آثارها، وثاب الوالد إلى الحكمة بعد أن تقدَّمت به السن قليلاً، حتى اكتسب شيئاً من الرُّشد، وفضلاً من الصواب علَّنا ندرك هنا أنَّ الأعوام لا تمضي عبثاً، وقد كان قبلئذٍ ساخطاً عليه أشد السخط. بعد أن سكت عن والده الغضب، ربما أدرك أنَّ الفن فضيلة الرُّوح، وإنَّه ليغفر الخطايا بما فيها خطايا الجسد.
لم تراود عيشيتي في يومٍ ما الرَّغبة في التوقف عن الأداء الغنائي، حتى بعد أن أجريت له عمليَّة في القلب، وقد جاء في القول المأثور بأنَّ الفنَّان لا يقتعد إلى المعاش، ولكن الفن يفارقه حين تدركه المنيَّة. مهما يكن من أمر، فبعد أن أُبري سقمه وشفيت نفسه من ذاك الشر الذي أبدى ناجذيه علانيَّة فيه، وبالمكروه الذي ألمَّ به، أذاع في النَّاس أغنية عن جائحة الكورونا. في الحين الذي كان عيشيتي على فراش الموت كان يأمل في أن يشترك في مشروعٍ موسيقي يشمل 50 موسيقيَّاً من كل الأجيال، ولكن استأثرت به رحمة الله فأراحته من أثقال الحياة ونوائب الدهر. وحين رحل إلى مثواه الأخير خلف من بعده بعلته أييهو “أيو” كيبدي ديستا، التي اقترن بها لأكثر من 50 عاماً، وسبعة أبناء وستة أحفاد.
هذا ما كان من أمر المغنِّي الإثيوبي عيشيتي الذي قضى السنوات الطوال يطرب جماهيره، وفي تلك السنوات لم يكف عن العمل على الموسقة المتواصلة، فراح يموسق ويدندن أشعاره الغنائيَّة تارة، وأشعار غيره من الشعراء الآخرين تارة أخرى إلى أن قضى الله أمراً كان مقضيَّاً. إذ كان في أول أمره طُلَعةً لا يحفل بما يلقي من الأمر في سبيل الوصول إلى مبتغاه، واستطاع أن يملك أمر نفسه، ثمَّ اتَّخذ هذه الخطة لنفسه نظاماً.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.