أليماييهو عيشيتي.. نجم العهد الذهبي الموسيقي في إثيوبيا (1 من 2)

 

[email protected]

المغنِّي والشاعر الغنائي أليماييهو عيشيتي، هو ذاك الشادي الذي رحل عن عالمنا عن عمرٍ فاق الثمانين عاماً، وهو غير دارٍ أبداً بالمصير الذي سيكتبه له التاريخ لمجموعته الشعريَّة الغنائيَّة، ثم كان عليه أن ينتظر 85 عاماً قبل أن يرقد أخيراً مطمئناً راضياً. كان عيشيتي واحداً من نجوم العصر الذهبي للموسيقى الإثيوبيَّة في الستينيَّات وفي مستهل السبعينيَّات من القرن العشرين. تأسيساً على ذلك، ظلَّ عيشيتي بطلاً ملحميَّاً لأغلب الموسيقيين الغربيين حين تمَّ تضمين موسيقاه في سلسلة روائع الأسطوانات الموسيقيَّة الأشهر، وفي أشعاره الغنائيَّة كانت تتناثر الألفاظ ذات الدلالات المجنَّحة والإيقاع الناعم. وكأحد المعجبين العاطفيين للموسيقى الأمريكيَّة، اشتهر عيشيتي بمحاكاة وتقليد ألفيس بريسلي، وهو في الحين نفسه لم يزل تلميذاً يافعاً يتمدرس في المدرسة. هكذا صار عيشيتي يُعرف بألفيس الحبشي تارة، وجيمس براون الإثيوبي تارة أخرى؛ ويعود الثناء هنا للمزيج الصاخب لأغاني “الفونك” مع رقصات الباليه الحماسيَّة، وكذلك سلوك عيشيتي المجلجل على خشبة المسرح. غير أنَّه لم يكن مجرَّد مقلِّد فحسب، بل كانت أغانيه تتكوَّن من تلاحم الأنماط الإثيوبيَّة مع معايير مميَّزة التي بالكاد تمنحها في بعض الأحايين لمحة من الموسيقى الشرقيَّة، التي تأثَّرت أيما تأثير بالنفوذ الطاغي لأغاني “روك آند روك”، و”الفونك” و”الصول”. هكذا استحوذ عيشيتي على قلوب كثرٍ من المريدين والمعجبين في إثيوبيا، وبخاصة إنَّه كان يغنِّي في أغلب الأحايين باللغة الأمهريَّة.
كانت أديس أبابا زمنئذٍ تكتظ اكتظاظاً لا نهاية له بحياتها الليليَّة، وموسيقاها الفريدة، مثلما هي الحال في ليالي لندن الصاخبة حينئذٍ. في تلك الأثناء كانت إثيوبيا يحكمها الإمبراطور هايلي سيلاسي الأول، الذي كان ذا شخصيَّة تسلُّطيَّة، برغم من ولعه وحبه للموسيقى، وهو الذي كان يصرُّ على أن تظل كل الفرق الموسيقيَّة والأوركسترا تحت لواء الدولة. ومع ذلك، لم يتوقف الفنَّانون عن المغامرات، والخوض فيما هو غير مسموح به بحكم القانون. كان عيشيتي يبلغ من العمر يومئذٍ عشرين عاماً حين عثر عليه العقيد ريتا ديميكي، وهو يغنِّي في نادي من أندية أديس أبابا، ومنذئذٍ تمَّ تسجيله في أوركسترا الشرطة، الذي لم يكن يتطلَّب شرط الانتماء إلى الشرطة لكي تكون عضواً فيه. هناك أخذ عيشيتي يتلقَّى راتباً شهريَّاً، وبات يغنِّي في الاحتفالات الرسميَّة والمراقص الليليَّة في الفنادق الإثيوبيَّة، علاوة على ذلك كان يتسلَّل بين الحين والآخر ليغنِّي في الأندية الليليَّة. إذَّاك أصبح أحد نجوم المسرح الموسيقي في أديس أبابا. في نهاية الستينيَّات من القرن العشرين، حين تمَّ رفع الحجر على الحريَّات العامة إلى حدٍّ ما، وأخذ الفن الإثيوبي ينهض من كبوته، ويسترد قوَّته وسلطانه، ويغالب الصعاب في شيء غير قليل من الفوز والانتصار، كان عيشيتي أحد أوائل الموسيقيين الذي انتهز فرصة هامش الحريَّة، وانخرط في فرق الشباب المستقلة، فضلاً عن فرقة عليم-قيرما، التي أنشأها العام 1972م مع صديقه الملحِّن والمنظِّم وعازف لوحة مفاتيح الأرغن قيرما بيين.
متمرِّداً كان، ثمَّ مغامراً مثيراً سخط الهيئات الرسميَّة كان عيشيتي أول من تحدَّى السلطات الإثيوبيَّة، وقام بتسجيل وتوزيع ألبوماً مستقلاً في الأثناء التي كانت الحكومة تحتكر جميع المبيوعات الموسيقيَّة. ثم كان هو الوحيد الذي تقدَّم العام 1969م حين طلب أحد الشباب من مالكي دور لبيع الأسطوانات الموسيقيَّة يُدعى أمها عيشيتي هو الأخر من الموسيقيين تسجيل أغنيَّة له، وذلك في تحدٍّ سافر للقانون، حيث كانا بلا منازع من رجال المهام الصعبة. كانت النتيجة شيوع ألبوم عيشيتي، الذي سرعان ما أمسى أحد روائع الفن الغنائي في إثيوبيا، ثم استعظم أمره. منذئذٍ سُمح ل”أمها” أن يستمر في إنتاجه الموسيقي، وكذلك بات منتجاً لأعمال عيشيتي الفنيَّة، وأخذت العلاقة بينهما تكبر رويداً رويداً، ثمَّ سرعان ما طفقت تتقوَّى سريعاً. ومن ثمَّ بات عيشتي الثاني، في شكل أو في آخر، همزة وصل بين عيشيتي الأول وأعماله الفنيَّة.
أفلح عيشيتي في أن يكون شاعراً غنائيَّاً مكثاراً مقروناً بأنماط خلَّابة من عيون الموسيقى والطرب، وفي ذلك امتداداً من جيمس براون الأمريكي إلى ألحان هادئة ممزوجة بصنوف من رقصات الباليه. فبرغم من أنَّ أشعاره الغنائيَّة تركَّزت بشيء من التركيز شديد على الفتيات والحب، وذلك لأنَّ الحدود التي تفرِّق بين الغنى والفقر لا يعترف بها الحب، غير أنَّه كان قد غنَّى عن الحريَّة في إفريقيا، وذلك في ألبومه المعروف باسم “الفهد الأسود”، وفي ذلك فإنّما كان يعبِّر – بشكل أو بآخر – عن توق شعبه الإفريقي إلى التحرُّر من الديكتاتوريَّة، وكذلك غنَّى عن أهميَّة التعليم في أغنيته الشعبيَّة الأكثر شهرة “تمدرس، أيها الابن”.
لكن ما أن حلَّ العام 1974م حتى تغيَّر كل شيء. إذ تمَّت الإطاحة بحكم الإمبراطور هايلي سيلاسي بانقلاب عسكري نفَّذه العقيد منغستو هيلا مريام ورفاقه، وقضى نظام حذر التجوُّل على مظاهر الأنديَّة الليليَّة في إثيوبيا. إزاء ذلك هرب كثرٌ من الموسيقيين إلى خارج البلاد، وانتشروا شذر مذر في مفاوز الأرض ومجاهلها أباديد، أي متفرِّقين؛ ربما قد أصابهم الرجيف، والرجيف هو زيادة ضربات القلب بسبب الخوف، لكن عيشيتي – الذي أصبح في ذلك الرَّدح من الزمان رب الأسرة – رفض المغادرة، واستمسك بالحياة في إثيوبيا، وقد كان من الكماة الصناديد. يا تُرى ما الذي منعه ألا يترك وطنه كما غادر الآخرون؟ وهنا نقتبس ما قاله رفاعة رافع الطهطاوي عن ذلك الشيء الغامض العميق بأنَّ الوطن “هو عيش الإنسان الذي فيه درج، ومنه خرج، ومجمع أسرته، ومقطع سرَّته، وهو البلد الذي نشأته تربته وغذاؤه وهواؤه، وربَّاه نسيمه، وحلَّت عنه التمائم فيه.” وقال أبو عمرو بن العلاء: “مما يدلُّ على حريَّة الرجل وكرم غريزته حنينه إلى أوطانه، وتشوقه إلى مقدم إخوانه، وبكاؤه على ما مضى من زمانه.” كان عيشيتي في ذلك الحين من الزمان كارباً “صليبو”، ونار الله حارقة “قليبو”، ويقول أهل دارفور – المكلومة اليوم – في مثل هذه الأثناء، وفي واحدٍ من أمثالهم “الرجال دناقر وما كبر عناقر”، أي بلغة أهل الخرطوم – المكلومة الآن هي الأخرى – يعني الرجال مواقف، وليس بالأحجام والأعمار.
ومع ذلك، لا تسألوا الطيور لماذا غادرت أوطانها، بل أسألوا الظروف التي أجبرتها على الرحيل. مهما يكن من شيء، ففي الآن نفسه أُرغم عيشيتي على أداء عروضاً غنائيَّة مرموقة للحكومة الجديدة، بل إنَّه تغنَّى باللغة الكوريَّة للزعيم الكوري كيم إيل-سونق في نمذجة مدهشة، وقد أبدع وأبرع، وبدا في قوَّة الحركة المسرحيَّة جلال السمو الموسيقي، وقد أقرَّ لاحقاً بأنَّه لم يكن يدري عمَّ كان يصدح به! ومع ذلك، جرت ريح اللحظات التاريخيَّة له رُخاءً حتى انتهت المناسبة. إذ كان يغني بثقة وثَّابة غير هيَّابة. مهما يكن من شأن، فإنَّنا لن نستطرد في هذا، بل نعود إلى ذاته لنقول إنَّ هذا المغنِّي الإثيوبي كان متألِّقاً في ذلكم اليوم الذي لم ينساه محبو غنائه بعد ذلك أبداً. لن نكون على الإطلاق مبالغين مهما تحدَّثنا عن غناء هذا الرجل في عصره.
ظلَّ عيشيتي بطلاً للإثيوبيين داخل البلاد وفي دول المهجر، ثمَّ إنَّه مضى ليتقلَّد وضعاً أسطوريَّاً منقطع النظير وسط معجبيه في الغرب. كان الرجل الذي ساهم في ذيوع صيته هو المنتج الفرنسي فرانسيس فالسيتو، وهو الذي كان قد استمع لألبوم لعيشيتي واستمتع به، وذلك عن طريق أحد معاصريه ومجاييله هو محمود أحمد، ومن ثمَّ استثار فرحاً وحبوراً، ووقتذٍ بدأ رحلته إلى إثيوبيا ليصطاد التسجيلات الغنائيَّة من الستينيَّات حتى السبعينيَّات.

في الحكاية بقيَّة،،،

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.