حكومة الصَّادق المهدي (1986-1989م).. الديمقراطيَّة الشوهاء والممارسة البلهاء (4 من 9)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
[email protected]
أما “مذبحة الضعين وعودة الرِّق في السُّودان” فتلك قضيَّة تقصَّى جذورها، ودقَّق في أمرها كل من الدكتور عشاري أحمد محمود والدكتور سليمان علي بلدو. والأسوأ في الأمر أنَّ الشرطة في مدينة الضعين قد شارك في مذبحة النازحين الدينكا في تلك المدينة الظالم أهلها، مما قادت المذبحة إلى مقتل أكثر من 1.000 من النساء والرجال والأطفال من النازحين الدينكا، الذين استقروا في المدينة بعد هجوم ميليشيا المسيريَّة على قراهم قبل عام من الحادث، فضلاً عن استرقاق الأطفال. الجدير بالذكر أنه حين وقعت مجموعة من ميليشيا المراحيل من قبيل الرزيقات في كمين في سفاهة، وقتل منهم 70 رجلاً، حاولت القبيلة الانتقام عن هزيمتهم بواسطة الجنوبيين بمهاجمة الدينكا النازحين الأبرياء، لكن الأخير حاولوا الفرار بالقطار الذي وفَّرته لهم السلطات المحليَّة. بيد أنَّ رجال الميليشيا لحقوا بالقطار في مدينة الضعين وقتلوا ما بين 1.000-1.700 مدنيَّاً.
استهجن الصَّادق المهدي تقرير الدكتورين المرموقين وقال عنه إنَّه غير دقيق، وغير علمي، ثمَّ إنَّه لمشين لسمعة الدولة، والدولة هنا تعني الصَّادق المهدي نفسه. مهما يكن من أمر، فقد شكَّل الصَّادق لجنة شعب الرزيقات لتوضيح الحقائق حول حادثة مذبحة الضعين (Rizeigat People’s Committee for Explaining the Incident Surrounding al-Da’ein Massacre)، وتكوَّنت اللجنة من ممثلي الحكومة المحليَّة والشرطة والجيش، واستبعدت أيِّ ممثل للضحايا الدينكا، الذين لم يكادوا يملكون في تلك اللحظة إلا الحرقة والتحسُّر والدعاء، وهي أسلحة العاجز الذي لا يملك السِّلاح ولا القلم. تلك اللجنة كانت دعوة حق أريد بها باطل، وذراً للرماد في العيون. ترأس اللجنة أحد أعيان الرزيقات وهو أحمد عقيل، الذي كان يومها عضواً برلمانياً في الجمعيَّة التأسيسيَّة ممثلاً لحزب الأَّمة، حزب الصَّادق ذاته. وحق السماء، يا تُرى كيف يكون الخصم هو الحكم في الآن نفسه (The accused turned out to be a judge)؟
ومن هنا ندرك أنَّ الذي كان بيننا وبين الديمقراطيَّة السليمة فراسخ ووهاد وأميال لا تُحصى. في ذلكم البرلمان شهدنا كيف كان يتبادل عضو حزب الأمَّة المتزمِّت الوزير الدكتور عمر نور الدايم مع معارضيه من أحزاب الجنوب أعنف الاتهامات، وألسع العبارات، وكان يكثر في ذلك همزاً ولمزاً تارة، وإشارة ووصفاً تارة أخرى، حتى ليظن ظانٌ أنَّه لن تمضي لحظات إلا وتُشهر المسدسات والسيوف والخناجر، ويلعلع الرصاص، فيسيل الدم القاني ليصل حد الرُّكب؛ والهمز يكون بالفعل كأن يعبس وجهه، أما اللَّمز فيكون باللسان. غير أنَّ المدهش في الأمر أنَّه حين أخذ النَّاس يتجادلون جدالاً لازباً في شأن مذبحة الضعين وتداعياتها، وفي اللجنة اليتيمة التي تمَّ تشكيلها بواسطة الجمعيَّة التأسيسيَّة، شرع الصَّادق المهدي يتصرَّف كأنَّه أحد شيوخ الرزيقات، وليس رئيس وزراء السُّودان. ومن يرم بنفسه في مواطن الشبهات يجب أن يُتَّهم بما هو جدير به.
لم ينل الضحايا الدينكا في ذلك الوضع التعيس من حكومة الصَّادق يومئذٍ إلا ما تناله الريِّح من الصخرة الصمَّاء الملساء، وفي أنفسهم ما فيها من حسرات وآلام. لعلَّ ما سردناه باختصار عن حادث الضعين إيَّاه يصوِّر حال النازحين الدينكا التي صارت كحال الأيتام في مأدبة اللئام، بل بالأحرى لنقل كأنَّهم كانوا حول خِوان، فالمائدة لا تُسمَّى مائدة إلا إذا كان عليها طعام، فإن لم يكن عليها طعام فهي خِوان، ويوضِّح هذا الأمر الحقيقة المأسويَّة عنهم.
في تلك الحقبة الغابرة صرَّح الصَّادق المهدي بأنَّ المذبحة تمثل ردة فعل للكمين الذي وقع فيه المسيريَّة في إغاراتهم على أهالي قرى الدينكا العزل في ديارهم في بحر الغزال دون وجه حق، مما يعني أنَّ الصَّادق في ذاك المنعطف الخطير تجرَّد من لباس رجل الدولة، ومن ثمَّ وقف مع الرزيقات في قتل المدنيين الدينكا، ثمَّ إنَّه لم يكن ليبالي لما حدث لشريحة كبيرة من مواطني البلاد. لا مراء في أنَّ حادث الضعين يدحض الفرية العاطفيَّة التي ظلَّ يردِّدها بعض أهل السُّودان بأنَّنا شعب مسالم طيِّب الأعراق، وتراثنا مستطاب الذكر، وقد ترك ذاك الحدث في جسد الأمَّة السُّودانيَّة جُرحاً غائراً لم يندمل منذئذٍ، وتلك كانت لحظات خلت من كل تعبير إلا ما حملته الدماء والدموع. الجدير بالذكر أنَّ الرزيقات كان يمثِّل مصدراً بشريَّاً لحزب الأمَّة في الانتخابات البرلمانيَّة؛ ومن هنا ندرك أنَّ “النظام البرلماني بالنسبة للأحزاب التقليديَّة وسيلة شرعيَّة لفرض سيطرتهم، وليس أداة لتأسيس الديمقراطيَّة في السُّودان، وقد تبيَّن ذلك في المواقف غير المبدئيَّة، وتغيير التحالفات، وتحوُّل النوَّاب من معسكر إلى آخر.”
للمقال بقيَّة،،،