على هامش أحداث الجنينة.. شعوب السودان تنتحب وهي صامتة

د. الوليد آدم مادبو

 

الجنينة بولاية غرب دارفور شهدت أعمال عنف أوقعت عشرات القتلى (رويترز)

ما يحدث في “الجنينة” حاضرة “دار مساليت” شيء يندى له الجبين، فقد تُرك المواطنُ أعزل في مواجهة جماعة غاشمة لا تقيم وزنا لميراث السلطنة، ولا تحتفي برموزها التاريخية. لقد رأى العالم بأسره اقتحام المجرمين بيت السلطان عبد الرحمن بحر الدين، الذي يمثل رمزا للسيادة الوطنية قبل أن يكون رمزا للزعامة القبلية. كيف لا وهو حفيد السلطان تاج الدين، البطل الهمام الذي افتدى الوطن بنفسه، وأوقف تمدد الفرنسيين نحو السودان من الحدود الغربية.

تقطن “دار مساليت” شعوب عدة منها المساليت، وسلطنة القمر، والأرينقا، والفور، والتاما، والزغاوة، والبرقد؛ والعرب ببطونهم المختلفة مثل أولاد زيد، وأولاد راشد، والرزيقات، والحوطية إلى آخره. هذه القبائل لها جذور تاريخية وأواصر اجتماعية ربطت بينها منذ قرون بعيدة. أفسدت “الإنقاذ” هذا التساكن الوجداني والألفة الإنسانية بمحاولتها استمالة بعض المكونات -خاصة العرب- والاستقواء بهم لإضعاف المساليت، أصحاب السلطنة الأصليين.

وفي سعيها لإبادة الزرقة لم تستنكف “العصابة الإنقاذية” (إشارة لنظام الرئيس السابق عمر البشير) الاستعانة بمكونات من خارج السلطنة. هذه المجموعات التي أتت مؤخرا ليس لها “كبير” ولا يردعها وازع من دين أو خلق. اقتحموا دار السلطان الأسبوع الماضي، سرقوا المقتنيات والأموال، اقتادوا النساء والأطفال كأسرى، وعندما قالت لهم السيدة “حرم” زوجة السلطان عبد الرحمن بحر الدين وبنت الناظر محمود موسى مادبو (أبون خير)، “أنا بت الناظر مادبو”، قالوا لها “ما بنعرف مادبو ولا غيره”.

يجب أن ننتبه هنا إلى أن “العصابة الإنقاذية” لم تكتف بدحض الأسس المادية للبناء الوطني فحسب، إنّما سعت أيضا لوأد الروح المعنوية للذات السودانية. كل ما يسع السراريق (اللصوص) فعله هذه الأيام هو أن يطأ أحدهم أحد الألغام الاجتماعية التي زرعتها “العصابة الإنقاذية” عبر أجهزتها الأمنية في فترة العقود الثلاثة الماضية حتى تستحيل مطاردة المعتدين من الطرفين (زرقة أو عرب) إلى مشكلة قبلية. في ظل الغياب التام للدولة أو انحيازها لأحد الأطراف كما فعلت الشرطة في الجنينة مثلا، والتي وزعت 6 آلاف قطعة سلاح للفاقد التربوي من أبناء المعسكرات (يطلق عليهم لقب “نيس”).

إن ما يحدث في الخرطوم من استقطاب بين قوات الدعم السريع والجيش سيكون له انعكاسات خطيرة في الهامش، ولذا لا بد من محاولة لإخماد نار الفتنة في المركز أولاً، وعدم تشتيت الجهد بالتوجه نحو الهامش.

الإنقاذ هي من اختارت دارفور حديقة خلفية لخوض خلافاتها الأيديولوجية التي استحالت فيما بعد إلى مواجهة عرقية استنفرت لها كافة المكونات القبلية. شملت خطة الإنقاذ توفير السلاح للفريقين من زرقة وعرب كي تعمل على إضعافهما، وتوفر مصوغًا عنصريا لاستمرار السلطة في المركز في أيدي حفنة من المتنفذين. ومع ذلك فنحن لا نتهم النخب النيلية بارتكاب الإبادة الجماعية، إنما نتهم أشخاصا وهيئات بعينها، تحديدا “عصابة السبعة” التي بات جل أفرادها في عداد الهاربين من العدالة.

لقد قاومت قبيلة الرزيقات -هذه القبيلة العريقة- متمثلة في قيادتها التاريخية، الناظر سعيد مادبو بالتحديد، إقحام الكيان في حرب الإبادة الممنهجة التي شملت وسط وغرب دارفور (ومن قبلها حرب الجنوب)، ممّا اضطر مجرمي الإنقاذ إلى الاستعانة بجماعات متفلتة تم استدعاؤها من أنحاء الحزام السوداني كافة، وأخرى جاءت بها ظروف المجاعة والمسغبة في بداية الثمانينيات.

هذه الجريمة تتحمل وزرها عصابة الإنقاذ وبعض الأشخاص الذين تمت استمالتهم من قبل جهاز الأمن. الإنقاذ هي من سلحت هؤلاء وزودتهم بالذخيرة، هي من وفرت لهم الحصانة، هي من أغرتهم بالحرق والنهب والاغتصاب.

حكومة الإنقاذ هي من اختارت دارفور حديقة خلفية لخوض خلافاتها الأيديولوجية التي استحالت فيما بعد إلى مواجهة عرقية استنفرت لها كافة المكونات القبلية

يجب أن تكف النخب عن وصف حروب دارفور بأنها مشاكل قبلية، هذه مشكلة سياسية ذات أبعاد إقليمية ودولية. صحيح أن هناك تأثيرات للحرب الليبية التشادية، لكن قبائل تشاد نفسها، عربا كانوا أم زرقة، لهم أصولهم وأعرافهم التي تمنعهم من ارتكاب مثل هذه الموبقات. وقد كانت جل هجرات العرب (عرب دارفور خاصة) من تشاد بعد أن حازوا الساحل ودخلوا جنوبا فلم يرُق لهم المناخ، فاتجهوا شمالاً وكونوا سلطنات كانت جزءًا من الوجدان الثقافي الاجتماعي لدارفور، كما خاضوا معتركا لقرون عدة تبلورت على إثره الشخصية الوطنية السودانية.

لقد قاتل العرب (عيال عطية وحيماد) والزرقة (المساليت والفور) جنبا إلى جنب في دروتي ودرجيل ومناوشي. واليوم يلزمنا إحياء هذا الحلف التاريخي لتحرير البلاد من المستوطنين الجدد، فإنه لن يمضي وقت قبل أن يستبدوا بنا ويسعون لإجلائنا من بلادنا. ولقد رأينا بوادر ذلك بأم أعيننا في الحوادث الأخيرة العاصفة التي حدثت في الجنينة، نيالا والخرطوم. الأمر الذي ظللت أحذر منه في العقدين الماضيين، وألح على أن إهماله سيتسبب في حدوث نكبة للسودان ككل.

 

إن من فاته كل هذا التاريخ سيظل غريبا عن هذا الوجدان، بل سيكون دوما في حالة هلع تجعله يستعجل نهب الخيرات وسرقة موارد البلاد لأنه يدرك أن أهلها سيستفيقون يوما من غفلتهم وسيطردون الغريب من أرضهم التي تمت استباحتها دون حق. يجب أن يقاوم السودانيون بكل ما أوتوا تنفّذ هذه المجموعات الدخيلة التي لن تتورع عن ارتكاب الجريمة ذاتها في ضواحي السودان المختلفة؛ الأخطر أنها ستغذي النزعة العروبية وتسعى لإقامة أحلاف على أسس عرقية، فتنمي لا محالة نعرة الصفوية الشعبوية على امتداد القطر.

 

ختاما، ينبغي أن يعرف الكل أن كيان الرزيقات كيان مختطف ومخترق، وقد قاومنا هذا الاختطاف وذاك الاختراق بكافة السبل، إلا أننا فوجئنا بعقبة كؤود في مخيلة الوعي الشعبي مكتوب في حاشيتها “أرنب الحكم بتقود الفيل”! وقد بات واضحا أن هذا الأرنب التعيس سوف يقودنا نحو الهاوية، ولقد لزم الفكاك منه أو القضاء عليه كي لا نقع جميعا في تلك الهاوية السحيقة. يجب أن تتضافر جهود جميع السودانيين للخروج من هذا المأزق الوجودي، وإذا تقاعسنا أو اكتفينا بلوم بعضنا بعضا، فسوف يحيق بنا الندم وتحاصرنا الحسرة، ولات حين مناص.

الوليد آدم مادبو

خبير الحوكمة ومستشار التنمية العالمية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.