مؤتمر كوش، كيف ولماذا اندلعت هذه الحرب وكيف يمكن وقفُها؟

بيان

مؤتمر الوطن السوداني المتحد (مؤتمر كوش)
Congress of the United Sudan Homeland (Congress of CUSH)

الخرطوم – 9 مايو 2023م

كيف ولماذا اندلعت هذه الحرب وكيف يمكن وقفُها؟

في الحديث حول لماذا اندلعت هذه الحرب، وكيف يمكننا وقفها، كثرت الكتابات، وهي رغم كثرتها قليلة في جانب التوصيف الدقيق للحالة. وتعود قلة التوصيف الدقيق إلى تأثر الكتابات بالاصطفافات المسبقة، مع أو ضد هذا أو ذاك. بينما ما نحن بحاجة له في هذه الأوقات هو توصيف الحالة بموجب الحقائق على الأرض.

يقول البعض إن الجيش قد انهزم أمام مليشيا الجنجويد. وهم يقصدون بهذا الحديث الخرطوم فحسب. لكن هل يعني هذا أن الجيش السوداني قد تحطم في كسلا والقضارف وبورسودان وعطبرة وجبيت وشندي ومروي وكريمة والدبة ودنقلا ووادي حلفا والأبيض وكادوقلي والدلنج والنهود ومدني وسنار والدمازين وكوستي والجبلين والفاو والفاشر والجنينة ونيالا والضعين وزالنجي …. إلخ؟ أي هل يمكن أن يقولوا حديثهم بتعميم على جملة مناطق وجهات السودان؟ بما أن الإجابة هي لا فإن التوصيف الموضوعي المقيّد بالحقائق على الأرض لا يمكنه أن يصل إلى مثل هذه النتائج.

الدعم السريع له على أقل تقدير 75 ألف مقاتل داخل الخرطوم، مقابل حوالي 15 – 20 ألف مقاتل للجيش السوداني بالخرطوم. الدعم السريع يستخدم كل ما في حيلته من سلاح (رشاشات آر بي جي، إس بي جي، الدوشكات أحادية وثنائية، وحتى الرباعية المضادة للطائرات) ضد مشاة الجيش السوداني. بالإضافة لذلك ينبغي أن نضع في الاعتبار أن قوات الدعم السريع تعتمد على فتح النيران الكثيفة وبلا هدف محدد (مثل فتح النيران على طائرات خارج مدى رمايتها)، مع زيادة عددها مقارنةً بعدد قوات الجيش السوداني داخل الخرطوم؛ كما تتخفى قوات الدعم السريع خلف الأحياء السكنية والمواقع الإستراتيجية مثل محطات الكهرباء والمصفاة، والقصر الجمهوري، ثم التدمير والحرق المتعمد للمؤسسات العامة .. إلخ، بالإضافة إلى استخدام المدنيين كدروع بشرية؛ كل ذلك بدون أن نذكر شيئا عن ترويع الشعب ونهب ممتلكاته العامة والشخصية واستباحة منازله واتخاذها كمقار مؤقتة له. كل هذا يعني أن الدعم السريع يحارب بدون أخلاقيات اشتباك تجاه المدنيين، وذلك بجانب جرمه يجرده من أي حاضنة اجتماعية ويجعله يحارب مجتمعا بأكمله يقف متضامنا مع جيشه. في المقابل، تشير الأمور إلى أن الجيش يعمل وفق خطط تمليها عليه قواعد الاشتباك وتكتيكاته التي يعرفها أي جندي أو ضابط تخرج في مدرسة الجندية أو في أي كلية حربية، وأولها مراعاة قواعد الاشتباك داخل المدن والأحياء.

في وضع كهذا، يصبح من الحكمة العسكرية عدم زج الجنود المشاة في معركة ضد قوات تفوقهم عددا، إنما يكون الخيار الحربي الملائم هو القصف الجوي لمواقع المليشيا ومن ثم التقدم ببطء على الأرض، لكن بثقة، في سبيل تمشيط المناطق التي تنتشر فيها هذه المليشيا. ذلك أيضا يفسر الاستعانة بقوات الاحتياطي المركزي في تمشيط وسط الخرطوم، فمن طبيعة ومهام قوات الاحتياطي المركزي، التي يقرب عددها من 30 ألف جندي، افتراض أنها عالية التدريب لمواجهة حرب المدن، في تساوق وتعاون مع الجيش الذي قد يجد نفسه داخل المدن غير قادر على استخدام أغلب قوته الضاربة بأسلحته الكبيرة. لكن من المتوقع كذلك أن تكون هذه القوات غير عالية التدريب، ومن أسباب ذلك عدم اشتباكها ضد أي عدو عالي التسليح في الماضي القريب، وانكفائها لسنوات عددا على قمع المظاهرات السلمية والتنكيل بالثوار. وفي الحقيقة هذا العامل هو نفسه ما يعاني منه الجيش لدرجة كبيرة، كونه لم يخض أي حروب مؤخرا. لكن على أي حال فاستعادة الروح القتالية والجاهزية يمكن أن تتحقق بسرعة كبيرة للقوة التي تلقت من قبل التدريب المهني العالي وصار عليها الآن تفعيل قدراتها تلك بعد تراخي. بخصوص وجاهة القصف الجوي كتكتيك من الناحية العسكرية البحتة، لا ينبغي لنا نحن المدنيين أن نباركه لما يشتمل عليه من استهداف للمدنيين ولو كان بغير قصد، ولهذا نسجل أغلظ أنواع الاستنكار والإدانة لأي استهداف للمدنيين، أكان متعمدا أم لا، أكان عبر القصف أم عبر استخدامهم كدروع بشرية كما تفعل مليشيا الجنجويد.

توصيف القوتين المحتربتين
من حيث توصيف هاتين القوتين المحتربتين فإن إحداهما الجيش النظامي (ولو كان مُسيطَراً عليه من قبل الكيزان، فهذا لا يلغي نظاميته — فالجيش الألماني مثلا كان مُسيطَراً عليه من قبل النازيين، ومع ذلك كان جيشا نظاميا) والأخرى مليشيا إثنية عابرة للحدود وتقودها أسرة. لو سلّمنا بسيطرة الكيزان على الجيش تصبح لدينا مشكلة يجب الاعتراف بها، لكن حلّها يكون عبر الإصلاحات الأمنية والهيكلية. بيد أن هنالك دلائل تشير إلى أن الجيش قد استعصت السيطرة عليه تماما من قبل الكيزان، ذلك لرسوخ العقيدة العسكرية للجيش السوداني بوصفه أحد أقدم الجيوش في أفريقيا والعالم الثالث، إذ يبلغ عمره اليوم 200 عام، فهو للمفارقة سابق للدولة السودانية المستقلة، وبالتالي نجد أن عقيدته القتالية خاصة به وليس بالضرورة ان تكون عقيدة وطنية national doctrine، لكن دون أن يعني هذا انعدام الوطنية فيه. كما أن المنطق يقول: إذا كان الكيزان قد تمكنوا فعلا من تحويل الجيش السوداني إلى مجرد مليشيا تابعة لهم، فلماذا سعوا إلى إضعافه بابتناء المليشيات الموازية له من دفاع شعبي إلى جنجويد وخلافهما؟

هذا التوصيف للقوتين المحتربتين لم يفت على الوعي الثوري لدى التروس والكنداكات، وفي ذلك هتفوا: *الثورة ثورة شعب، والسلطة سلطة شعب.. والعسكر للثكنات، والجنجويد ينحل*. فهم لم يقولوا بحل الجيش، بل بإصلاحه، ذلك عبر عودته للثكنات وقيام حكومة مدنية يكون الجيش تحت ولايتها الكاملة، فتقوم بإجراء الإصلاحات الأمنية والهيكلية على الجيش. أما مليشيا الجنجويد، فالموقف الثوري تجاهها هو واضح ولا لبس ولا غموض فيه: *الجنجويد ينحل*!

*الحرب وعامل الضرورة*
تحديد طبيعة عامل الضرورة هو النافذة والبوابة والمدخل لحل أي حرب، وبدون تحديده سوف تفشل كل الجهود لإيقاف النزاع في بدايته أو إيقاف الحرب بعد أن تشتعل. من الأمثلة التاريخية لهذا الأمر، ما جرى في نزاع خليج الخنازير مقتبل ستينات القرن العشرين بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، حيث وجدت الأخيرة نفسها مضطرة (أي وفق عامل الضرورة) لتشغيل بطاريات القنابل النووية لأن بناء الاتحاد السوفيتي لقاعدة عسكرية في كوبا (والتي تقع جغرافيا في خاصرة الولايات المتحدة) إنما يعني في حقيقته الحرب، فكان أن استعدت لها لأنها كانت مضطرة لذلك. وكذلك الحال في الحرب الروسية الأوكرانية الدائرة الآن فقد أدركت روسيا مسبقا أن انضمام الدول المحادة لها، كأوكرانيا، لحلف الناتو سوف يضع كل الأراضي الروسية تحت رحمة الحلف، وبالتالي لا يمكن لحلف الناتو أن يدفع أوكرانيا لطلب عضويته من باب حرصه على السلام، بل من باب تخطيطه للحرب. وعندما لم ينفع الضغط السياسي إزاء هذا الأمر وجدت روسيا نفسها مضطرة للحرب. وفي حالة خليج الخنازير، بينما كان عامل الاضطرار والضرورة في جانب الولايات المتحدة، لم يكن الاتحاد السوفيتي مضطرا للدخول في ذلك الوضع المؤدي للحرب. وبالفعل، انتهت الأزمة بانسحاب الأخير من كوبا لعدم اضطراره لذلك.

عندما نعود بهذا الفهم إلى الحرب بين الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع سوف نجد أن هذه الحرب في الأصل كان لا بد أن تنشأ من باب الضرورة. فوجود قوتين عسكريتين متوازيتين مستقلتين بعضهما عن بعض وداخل حدود نفس الدولة الوطنية الحديثة هو في حد ذاته يؤدي إلى اندلاع الحرب بينهما من باب الضرورة، والحرب التي تُخاض من باب الضرورة ليست حربا عبثية. يمكننا أن نقول إن الكيزان مسؤولين عن هذه الحرب من حيث مسؤوليتهم في ابتناء المليشيات الموازية للجيش والبوليس والأمن، ذلك من منطلق عدم إيمانهم بالدولة الوطنية، كما هنالك مسؤولية تقع على عاتق الحزبيين إبان الديموقراطية الثالثة — وتحديدا الصادق المهدي واللواء برمة ناصر وحزب الأمة مسؤولون عن ابتناء المليشيات ذات الأساس الإثني لمحاربة الجيش الشعبي لتحرير السودان – مثلما برهان وطاقمه العسكري مسؤولون عن ما يجرى لأنهم سمحوا لمليشيا الجنجويد بالتمدد والتوسع لهذه الدرجة على حساب الجيش السوداني. مع كل هذا يبقى أن الظروف ولّدت تناقضات جعلت نشوب هذه الحرب ضرورة.

وبنفس فهم عامل الضرورة، فالآن إذا طلب حميدتي مخرجا آمنا لتشاد أو أفريقيا الوسطى، أو لو شق طريقه لوحده إلى هناك، فالحرب سوف تقف. لكن هذا الخيار غير متاح للجيش السوداني، وبالتالي في هذه النقطة تحديدا، يحارب الجيش السوداني من باب الضرورة. ثم إذا افترضنا أن الجيش السوداني قد تمكن من دحر مليشيا الجنجويد داخل الخرطوم، عندها لن تكون هناك أي حلول أمام باقي قوات الجنجويد غير التسليم أو مغادرة البلاد إلى دول الجوار الغربي من حيث أتت، أو كلا الخيارين معا. وبهذا سوف تنتهي الحرب. في المقابل، لو افترضنا أن فشل الجيش في دحر المليشيا داخل الخرطوم، فعندها لن تستسلم باقي الفرق والأولوية المنتشرة في كل السودان للمليشيا، بل المتوقع هو أن تتقدم تجاه الخرطوم لدكّها فوق رؤوس الجنجويد. عندها سوف يهرب أهلُ الخرطوم جميعا بأكثر مما نزحوا الآن والجيش لا يزال يحارب داخل الخرطوم، ثم غالبا ما يجد من تبقوا منهم بالخرطوم أنفسهم في خندق واحد مع الجيش، تتريسا للشوارع ولاحقا حملا للسلاح في صفوف الجيش. هذا يعني أن الحرب لن تتوقف باستيلاء الجنجويد على الخرطوم بصورة كاملة، بينما استيلاء الجيش على الخرطوم بصورة كاملة يعني عمليا نهاية الحرب؛ هذا أيضا عامل ضرورة. ولعل هذا يفسّر الالتفاف التلقائي لجموع الشعب حول الجيش في هذه الحرب، ليس هتافا فحسب وإنما بلجوء قطاعات الشعب إلى المناطق التي يسيطر عليها الجيش.

أخيرا،
هذه الحرب تمثل نهاية السودان القديم، دون أن يعني هذا تدشين مرحلة السودان الجديد. إذ ربما نكون مقبلين على معيشة ما يسمى “عصر الشياطين”، إذ سمّاه أنطونيو قرامشي كذلك عندما قال بأن الليل قد انقضى أجلُه، والصبح شمسُه تأبى أن تشرق، وما بينهما هو عصر الشياطين. وفي هذا الخضم فعندنا، في مؤتمر كوش، أن الشعار الأمثل والعملي لوقف الحرب ينبغي أن ينطلق من ذات شعارات الثورة، ألا وهي: الجنجويد ينحل(ولا مجال للدمج)، تشكيل حكومة مدنية انطلاقا من مجلس تشريعي ثوري تؤمّه لجان المقاومة بالأغلبية، وما يلي ذلك من التفاصيل المذكورة في “روشتة الخروج من حالة انسداد الطريق”. كما أن أي دعوة وساطية لوقف الحرب، من داخل البلاد أو من خارجها، لا تعالج عامل الضرورة فيها ثم تدعو لإيقاف الحرب والعودة بالقوتين المتحاربتين إلى ما قبل يوم 15 أبريل 2023م إنما تعني عمليا شرعنة لثنائية القوتين العسكريتين المتوازيتين، ما يعني إعادة إنتاج للأزمة وبالتالي توقع اندلاع الحرب بينهما في أي لحظة في المستقبل.

مؤتمر كوش
الخرطوم – 9 مايو 2023م

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.