إنزلاق السودان نحو الفوضى .. ما يجب أن تفعله واشنطن وشركاؤها العرب من أجل وقف إطلاق النار.
اليكس دي وال
وكالات: فورين أفيرز.
يوم الأحد، 23 أبريل (نيسان)، بعد أسبوع من اندلاع القتال الضاري في الخرطوم، عاصمة السودان، قامت القوات الخاصة الأميركية بإجلاء موظفي السفارة الأميركية بطائرة هليكوبتر، فيما فرّ رعايا أجانب آخرون من المدينة في قوافل طوارئ نظمت على عجل.
ومع استمرار المواجهة الفوضوية بين الزعيم الفعلي للسودان، الجنرال عبد الفتاح البرهان، ومنافسه المدجج بالسلاح، الجنرال محمد حمدان دقلو، المعروف بلقب حميدتي، لم يكن من الواضح متى سيتمكّن الدبلوماسيون من العودة إلى البلاد.
وما يحدث في السودان هو تبادل إطلاق نار بين رجال عصابات، ولا يسع الناس إلا الهرب. وهذا رد فعل أولي ومنطقي في مواجهة حرب مرعبة استخدمت أثقل أنواع الأسلحة في شوارع العاصمة. واحتمى السكان في منازلهم، فيما حومت المروحيات الهجومية والطائرات المقاتلة فوق رؤوسهم هادرة، واستعرت المعارك في الشوارع، وتحول عدد من المباني إلى أنقاض، وانقطعت إمدادات المياه، وتقطعت التغذية بالطاقة الكهربائية.
وأصابت المستشفيات أزمة حرجة. فمدينة يبلغ عدد سكانها سبعة ملايين نسمة خلت من مخابز تعمل، وانقطعت عنها إمدادات الغذاء، وأغلقت أسواقها منذ أسبوع. وإلى ذلك، أوقف برنامج الغذاء العالمي عملياته هناك بعد مقتل ثلاثة من موظفيه، ونهبت المجمعات التي تحتوي على المساعدات.
بيد أن هرب الأجانب من السودان مرآة حقيقة أشد قتامة. فالولايات المتحدة، ونظراؤها العرب والأوروبيون الذين هرعوا لإنقاذ رعاياهم، لم يبذلوا سوى مسعى ضعيف ومتأخر من أجل وضع حد للقتال ومساعدة السودانيين. ونجحت الولايات المتحدة والسعودية في لي ذراع الرجلين القويين، وفرض وقف الأعمال العدائية لمدة 72 ساعة، بدءاً من منتصف ليل الإثنين.
لكن سرعان ما انتهك اتفاق وقف إطلاق النار. وكانت واشنطن والرياض، إلى الإمارات العربية المتحدة والمملكة المتحدة، أنشأت مجموعة “رباعية” من الحكومات تولت دعم المفاوضات بين البرهان وحميدتي، على أمل إرجاع الحكم الديمقراطي إلى البلاد بعد انقلاب 2021 الذي قام به الجنرالان معاً.
بيد أن فشل جهود “الرباعية” في السيطرة على الجنرالين مهد الطريق أمام نشوب مواجهة مميتة بينهما. والآن، يلفي البلد الذي بدا، قبل بضع سنوات فحسب، على أعتاب تحول ديمقراطي طال انتظاره، يجد نفسه عوضاً عن ذلك غارقاً في حرب أهلية كارثية.
وإلى الدول الغربية، يتفق جيران السودان العرب والأفارقة، وكذلك الصين وروسيا، على أن هذا الصراع كارثة. ويؤدي الفشل في وقفه إلى توجيه إدانة شديدة للنظام المتعدد الأطراف، الذي قاد المفاوضات. وإذا لم يتمكن أحد من منع انزلاق السودان نحو حرب شاملة قريباً، يصبح إجلاء كل دولة رعاياها النمط السائد في عالمنا اليوم.
الدولة العميقة ضد المرتزقة
وربما يمكن فهم دور البرهان وحميدتي، بصفتهما قائدي فصائل سودانية متنافسة، على نحو أفضل إذا نظرنا إليهما على أنهما زعيمان يديران عصابات لصوصية. فالبرهان، قائد القوات المسلحة السودانية، نصب نفسه من تلقائه رئيساً لمجلس السيادة، الهيئة التي كانت في مثابة السلطة التنفيذية العليا في البلاد، ويصور نفسه في صورة رئيس الدولة.
وفي أبريل (نيسان) 2019، كان على رأس زمرة جنرالات متآمرين أطاحوا رئيسهم عمر البشير، الذي كان زعيماً متسلطاً للبلاد طوال 29 عاماً، واستبدلوا حكمه بترتيبات مدنية- عسكرية تقاسموا السلطة بموجبها، وكان من المفترض أن تقود البلاد نحو الديمقراطية.
وكان حميدتي متواطئاً مع البرهان في هذه المؤامرة. وأطاح الاثنان في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، بذريعة لائحة أزمة اقتصادية، الحكومة المدنية برئاسة عبدالله حمدوك، وسيطرا على البلاد سيطرة كاملة.
مذ ذاك الحين، افتقرت قيادة البرهان للنفس. فهو لا يتمتع بأدنى قدر من الكاريزما والحماسة، وظهر أداؤه العلني باهتاً. غير أن نفوذه ينهض على مصالح عسكرية وتجارية هائلة، يسميها الديمقراطيون السودانيون “الدولة العميقة”. وهي عبارة عن شبكة من الشركات التي تعمل على رأسمالية المحسوبية، من بنوك وشركات واتصالات يملكها الإسلاميون وضباط الاستخبارات، إلى شركات يملكها الجيش نفسه في مجالات مثل تصنيع الأسلحة، والبناء، والزراعة، والنقل.
هل يمثل حميدتي تهديدا وجوديا على الدولة السودانية؟
والحق أن البرهان قام بالانقلاب في وقت كانت فيه “لجنة إزالة التمكين ومحاربة الفساد واسترداد الأموال” Empowerment Elimination، Anti-Corruption، and Funds Recovery Committee، وهي ذراع مكافحة الفساد في الحكومة المدنية، على وشك نشر تحقيقها في فساد شركات الجيش. وكان أول ما فعله هو اقتحام مكاتب اللجنة والاستيلاء على وثائقها.
وقوة البرهان العسكرية محل خلاف. فالقوات المسلحة السودانية تشبه جيشاً محترفاً، وهي تشمل، أولاً، القوات الجوية السودانية. وعقد البرهان اتفاق تعاون عسكري مع مصر. ونادراً ما انتصرت القوات المسلحة السودانية في النزاعات العسكرية الطويلة التي خاضتها.
وسنحت لها فرص كثيرة لتثبت قوتها في حروب جنوب السودان ودارفور وجبال النوبة، ولكنها فشلت في ذلك. وفيما يتحدر سلك الضباط فيها في الغالب من النخبة الحاكمة في الدولة، ينتمي الجنود المشاة إلى الطبقات الفقيرة والأطراف المهمشة المحلية منذ وقت طويل. وغالباً ما يفتقر هؤلاء إلى حافز على القتال.
ورغم ذلك، فسند البرهان هو العلاقات التي تربطه ببعض أركان نظام البشير السابق. وليس سراً أن الموالين القدامى للبشير يرون في البرهان أفضل أداة تعيدهم إلى السلطة. ويرى بعض السودانيين، أن لهؤلاء الموالين القدامى دوراً في نشوب النزاع بين البرهان وحميدتي.
وبعد أسبوع من الصراع، شهدت السجون في أثنائه عمليات فرار، أطلق سراح كثير من أنصار النظام القديم، وأدلوا بتصريحات علنية تؤيد البرهان (على رغم التكهنات، ليس ثمة تقارير تثبت أن البشير، المحتجز في مستشفى عسكري، هو من بينهم). وإذا انتصر البرهان، يرجح أن يعيد الحكم الاستبدادي الذي ساد في عهد سلفه.
ويتمتع حميدتي، خصم البرهان، بعناصر قوة خاصة. فقيادته قوات الدعم السريع Rapid Support Forces، وهي قوة رسمية شبه عسكرية قوية ومستقلة عن قيادة الجيش، مكنت حميدتي من أداء دور حاسم في إطاحة البشير، في عام 2019. وحميدتي هو، رسمياً، نائب للبرهان في قوات الدعم السريع، وأظهر طموحاً للتقدم على رئيسه. ويدير إمبراطورية تجارية سريعة النمو، وطور علاقات خاصة بالقوى الأجنبية. وهو في العقد الرابع من عمره، وقدم من ميليشيات دارفور العربية، السيئة الصيت والمعروفة بالجنجويد. قبل 20 عاماً، عندما أدرك البشير أن القوات المسلحة السودانية عاجزة عن هزيمة المتمردين في دارفور، لجأ إلى أداة قليلة الكلفة جربها من قبل واختبرها في التصدي للتمرد، هي تكليف ميليشيات عرقية بالقتال.
وعلى هذا، شقت ميليشيات الجنجويد طريقها في وسط قرى دارفور بالحرق والنهب والذبح، في حملة وصفتها الحكومة الأميركية بالإبادة الجماعية. وكانت وحدات حميدتي من بين أكثر الوحدات بطشاً. وفي عام 2013 أسبغ عليها البشير صفة رسمية، وسماها قوات الدعم السريع، على رغم اعتراضات رئيس أركانه الذي كان يخشى أن تنشأ منافسة بينها وبين القوات المسلحة السودانية. وفاقم البشير حدة الخطأ عندما طلب من حميدتي، الذي أطلق عليه لقب “حمايتي” [“الرجل الذي يحميني”]، أن يجمع مقاتليه في الخرطوم حين تصاعدت الاحتجاجات المدنية.
وأظهرت مسيرة حميدتي على مدى 15 عاماً قدراته كمقاول سياسي عسكري. وفي دارفور، سيطرت قواته على مناجم التعدين التقليدي والحرفي للذهب في المنطقة، وهزمت القادة المنافسين. وهو، أثبت براعته في معاملة الزعماء المحليين وقادة الميليشيات الذين يشترى بالمال ولاؤهم ويباع.
وأقام علاقات مع القوى الإقليمية الكبرى، فندب قوات الدعم السريع للقتال في اليمن. ومد جسوراً مع اللواء خليفة حفتر، قائد ما يسمى الجيش الوطني الليبي، ومع فاغنر، الشركة العسكرية الروسية الخاصة والتابعة للكرملين. وعلى رغم السمعة التي تصفهم بهمجيين من الريف، يملك أعضاء قوات الدعم السريع خبرة في المعارك، وهم منضبطون ومدججون بالسلاح.
وبعد سقوط نظام البشير، توسل حميدتي بالفوضى في مؤسسات السلطة في الخرطوم إلى توسيع إمبراطوريته التجارية التي تديرها عائلته، وصور نفسه بطلاً للمحرومين. وهو يتسم بالحيوية والانتهازية، ويتحدث باللهجة العامية المعتمدة في غرب السودان، ما يخوله استمالة المجتمعات المهمشة تاريخياً في تلك المنطقة، وعرضة لازدراء أهل المدن وسخريتهم. وعلى رغم أنه دعم البرهان في البداية، فإنه نأى بنفسه عن الحرس القديم.
وقال إن انقلاب 2021 كان “غلطة”. وفي الأشهر الأخيرة، مع اقتراب المواجهة مع البرهان، سعى حميدتي إلى كسب حلفاء بين المدنيين بذريعة أنه الوحيد القادر على منع عودة نظام مثل نظام البشير، ولكن انتصاره، وقوات الدعم السريع، يحتمل أن تنجم عنه سيطرة لصوصية شعبوية لن تفعل شيئاً في سبيل معالجة أزمات البطالة والجوع المتواترة.
الديمقراطية تخرج عن مسارها
الحرب الحالية هي في مثابة انتكاسة مريرة لثورة 2019 السودانية. وحين أسهم البرهان وحميدتي في إطاحة البشير، بعد أشهر من الاحتجاجات الضخمة ضد النظام، بدا الأمر فرصة نادرة من أجل تأمين انتقال ديمقراطي غير عنيف في القرن الأفريقي. والحق أن الرؤساء الأميركيين، منذ جورج بوش الأب سعوا كلهم إلى التخلص من البشير.
وكان هذا دعم الديكتاتور العراقي صدام حسين في حرب الخليج الأولى، واستضاف زعيم “القاعدة”، أسامة بن لادن، في السودان طوال سنوات، وارتكب فظائع مروعة في جنوب السودان ودارفور. وشجاعة الناس العاديين ومثابرتهم من إرث الثورة السودانية العريق. ومقاومتهم السلمية هي التي أسقطت النظام في أبريل 2019، وصمدوا في وجه مذبحة ارتكبتها القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع بعد شهرين، وذهب ضحيتها أكثر من 120 متظاهراً. فاضطر البرهان وحميدتي إلى الموافقة على حكومة انتقالية بقيادة رئيس وزراء مدني يقود البلاد، في نهاية المطاف إلى انتخابات حرة. وبعد انقلاب 2021، حالت شجاعة الشعب السوداني، والاحتجاجات المستمرة التي نظمتها لجان المقاومة، دون ادعاء الجنرالين صفة الشرعية لنفسيهما.
لكن هؤلاء المدنيين بقوا في عزلتهم. وعلى رغم أن واشنطن وحلفاءها الأوروبيين عبروا عن إعجابهم بالديمقراطيين في السودان، إلا أن دعمهم كان ضئيلاً. وقبل أسابيع من توليه منصب رئيس الوزراء في الحكومة المدنية، صرح المتخصص في الشأن الاقتصادي عبدالله حمدوك، في يوليو 2019، بأن فرصته لوقف الأزمة الاقتصادية المستفحلة في البلاد، تحسب ببضعة أشهر.
ويقتضي الأمر كسب النفوذ السياسي اللازم للتعامل مع هيمنة الجنرالين على الاقتصاد. وفي محاورة أجريتها معه في ذلك الوقت، قال إنه يرفض أن ينتهي به المطاف إلى أداء دور أمين الصندوق الذي يعنى بدرج النقود في متجر صغير، بينما يبرم زعماء العصابة صفقات المخدرات في الغرفة الخلفية. والحق أن الدول الغربية وقفت مكتوفة الأيدي في الوقت الذي تقلص دوره فعلاً إلى مجرد أمين صندوق.
وعندما تولى حمدوك مهامه الرسمية، كانت إدارة ترمب فوضت سياستها في القرن الأفريقي إلى حلفائها المقربين في الشرق الأوسط، ولم يرغب أحد من هؤلاء الحلفاء في قيام ثورة ديمقراطية في العالم الناطق بالعربية. وآثرت جميعها التعامل مباشرة مع الجنرالين. ومن جهتها، لم ترفع واشنطن العقوبات عن السودان ولم تخفف عبء الديون. وهي إجراءات كانت لتعزز ربما صدقية حمدوك في معالجة أزمة الاقتصاد، وتمنحه النفوذ الذي يحتاج إليه ليقضي على الحلف التجاري- العسكري.
وعوض ذلك، دعمت الولايات المتحدة عقد الصفقات. فاجتمع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالبرهان، وانضم السودان إلى اتفاقات أبراهام، وألغت الولايات المتحدة تصنيفها الحكومة السودانية “دولة راعية للإرهاب”، ثم رفعت العقوبات، في الأيام الأخيرة لإدارة ترمب، بعد فوات الأوان، وتأخير دام عاماً على أقل تقدير.
يجب على واشنطن دعم الديمقراطيين السودانيين الذين خانتهم بشكل مخجل
ولم تقتصر لا مبالاة الحكومة الأميركية على إدارة ترمب. فأصر السيناتور الديمقراطي روبرت مينينديز على وجوب تعويض الحكومة السودانية الحالية أهالي ضحايا الـ11 من سبتمبر (أيول) وتفجير المدمرة الأميركية “يو أس أس كول”، وذلك جراء استضافة البشير تنظيم “القاعدة” في تسعينيات القرن الماضي. وحولت القضيتان إلى القضاء.
وفوق ذلك، في أعقاب انقلاب عام 2021 الذي قام به البرهان وحميدتي، بعد ساعات فقط على طمأنتها المبعوث الأميركي الخاص، جيفري فيلتمان، على امتناعهما من الانقلاب، قررت إدارة بايدن مواصلتها سياسة تقليص تدخلها، ثم ترك فيلتمان منصبه، بعد وقت وجيز، ورفضت وزارة الخارجية فرض عقوبات على الإمبراطوريات التجارية التي أنشأها أمراء الحرب. وفي سياق تعليق حزم مساعدات البنك الاقتصادية، وانتشار الجوع في صفوف السودانيين، لم يواجه الجنرالان عاقبة فعلهما.
وعوض ذلك، شجّعت الولايات المتحدة، وشجع حلفاؤها، الجنرالين على التفاوض على ترتيب انتقالي جديد، وتولت الأمم المتحدة، والاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية [إيغاد]، وهي تكتل تجاري في شرق أفريقيا مكون من ثمانية أعضاء، تيسير المفاوضة.
وأصر الوسطاء على أن يقود السودانيون هذه العملية، لكنهم تغاضوا عن اقتضائها قيمين وأوصياء دوليين رفيعي المستوى. وافتقرت الثورة المدنية إلى زعيم يتمتع بشخصية كاريزمية تخوله ترؤس المفاوضات (وقع حمدوك، الذي كان اعتقل بعد الانقلاب، على اتفاق فاشل لإعادته إلى منصبه، بيد أنه استقال بمجرد أن اتضح أنه لن يتمتع بسلطة كبيرة.
وتعرض هذا التحرك، وقوامه لجان محلية وجمعيات مهنية وأحزاب سياسية، للانقسامات، وهي نزعة شجعتها الجهود الدؤوبة التي بذلها أمراء الحرب في سبيل تطبيق مبدأ “فرق تسد”. وعلى رغم ذلك، أدت المفاوضات إلى إبرام اتفاق إطاري، وقع في ديسمبر 2022 (كانون الثاني)، وهدف إلى إنشاء إدارة مدنية جديدة، مع جدول زمني لإجراء الانتخابات في غضون عامين.
ومشكلة المفاوضات كانت ما ينبغي القيام به إزاء فصائل الجنرالين العسكرية. فنظرياً، كان من المفترض أن تؤدي الاتفاقية إلى دمج قوات الدعم السريع، وعلى رأسها حميدتي، وغيرها من الجماعات المتمردة السابقة، في جيش وطني واحد، إلى تقليص رواتب العسكريين، وتحسين كفاءة الجيش المهنية، تحت عنوان إصلاح القطاع الأمني.
ولاقى هذا النهج تأييداً من مجموعة كبيرة من الخبراء الدوليين، بمن فيهم ضباط عسكريون متقاعدون من دول غربية، بيد أن المشكلة الرئيسة في السودان كانت سياسية: فأمن البلاد ليس قطاعاً على حدة، فهو ساحة صراع بين طبقة لصوص مستقلين ومدججين بالأسلحة، كل منهم مصمم على السطو على الحصة الأكبر من الغنائم، وعلى ضمان أمنه من هجمات المنافسين.
ودارت الأسئلة حول ما إذا كانت قوات الدعم السريع ستندمج في القوات المسلحة السودانية، في غضون عامين أو 10 أعوام، ومن يقود العملية. فمن جهة، كان إقرار الجدول الزمني الأطول يتيح لحميدتي أيضاً هامش مفاوضة. ومن جهة أخرى كان البرهان، المستفيد من مدة انتقالية أقصر، يتردد بين التسويف والحسم السريع.
ووافق الجنرالان والمدنيون والوسطاء، مستجيبين لدعوة الرباعية، على موعد نهائي حدد في الأول من أبريل 2023، تبدأ فيه العملية الانتقالية وحل مسألة الإصلاح الأمني. ولما كانت الفصائل المتنافسة في السودان تعتمد المنطق القاضي بأن طرفاً واحداً ينبغي أن ينتصر، وقت الموعد النهائي ساعة الانفجار.
وأدى إخفاء الجنرالين نواياهما إلى فشل الوسطاء في التنبه إلى وشك الانفجار، رغم إرجاء الموعد النهائي. وفي 15 أبريل بدأ القتال. وليس ثابتاً مَن مِن الطرفين أطلق النار أولاً. وهذا ليس مهماً. فالأمور كانت بلغت حداً فات معه وقت الوساطة، وأثر القوى الخارجية، مثل الولايات المتحدة التي لم تشارك مشاركة رفيعة المستوى، منذ انقلاب عام 2021، في لجم الطرفين.
الرحلة إلى مصر
ولا شك في أن الثورة السلمية التي أسقطت البشير أبرزت جيلاً جديداً واعداً من السودانيين العاديين، زينوا جدران مقار الجيش بلوحات تجسد الرغبة في التحرر والتعددية والأمل. والحق أن التطلعات الديمقراطية تحطمت، واضطرت إلى جان المقاومة التي قادت الانتفاضة الشعبية إلى تغيير مهامها، وتحولت إلى شبكات مرتجلة تولت توفير المعلومات للمجتمع، وتأمين الحماية له ومده بالمستلزمات الإنسانية. واللجان هي الإدارة المدنية الوحيدة العاملة في البلاد. ولا يمكن التكهن بالمدة التي يمكنها، في الأثناء، الصمود في وسط إطلاق النار. فالسودانيون القادرون على الهرب من الخرطوم يلوذون بالفرار إلى مصر وأماكن أخرى.
والحق أن الحروب السودانية تتبع نمطاً مروعاً ومألوفاً. ويوماً بعد يوم يتجلى المصير الذي قد تصير إليه هذه الحرب. فهي تبدأ بمواجهات شرسة، ويتعهد كل طرف فيها بانتصار سريع وحاسم. وهذا لا يحدث أبداً. على ما تبين من قبل، فمن العسير التوصل إلى وقف إطلاق نار والحفاظ عليه. فكلا الطرفين لا يرغب في التوقف إذا كان موقتاً، في وضع حرج، أو إذا أعتقد أن النصر حليفه.
ومع استمرار النزاع، تستنفد الموارد المادية والتنظيمية اللازمة للقتال، ويعمل كل جانب على تجنيد وكلاء من الميليشيات الداخلية، وطلب المساعدة من الخارج. ومن المرجح أن تخف حدة القتال وتتسع رقعته، وينهار التنسيق مع السيطرة. فإذا طال أمد الصراع، قد يتحول النزاع السياسي إلى حرب بين الأعراق، ويستهدف المدنيون بسبب هوياتهم. وفي دوامة التدهور هذه، قد تصبح المجاعة سلاحاً، ويجبر الملايين على الفرار.
ورغم أن أي قوة دولية لم ترغب في نشوب هذه الحرب، فقد تفضل القوى الخارجية أحد الطرفين على الآخر، أو ربما تفضل، على الأقل، الجهة التي تمثل في نظرها الخيار الأقل سوءاً. فمن الواضح أن القاهرة تدعم البرهان، فيما حافظت قطر وتركيا على علاقاتهما بالإسلاميين من الحرس القديم الذين كانوا ركيزة لنظام البشير.
وبمرور الوقت، قد يؤدي تفضيل واشنطن لما تصفه، على سبيل التلطيف، بـ”الاستقرار”، إلى الميل نحو البرهان. وعلى الوجه الآخر، قد تحمل علاقات مجموعة فاغنر بحميدتي، واتجاره بالذهب، موسكو على تفضيله. وفي وقت قد يحل بعد أسبوع أو أسبوعين، يرجح أن يجمع المجتمع الدولي على وجوب إنهاء الصراع.
وأظهر المحاورون الدوليون أن في مستطاعهم مكالمة الجنرالين عبر الهاتف والحصول على موافقتهما على إجلاء الرعايا الأجانب، ووقف القتال شكلياً مدة قصيرة. وإذا زعم المحاورون أنهم عاجزون عن الوصول إليهما، أو أنهم يفتقرون إلى النفوذ، فهذا الزعم مجرد محاولة للتستر على عدم اتخاذهم الإجراءات اللازمة.
وثمة الآن فرصة ضيقة أمام أبرز وسيطين للمطالبة بهدنة فعلية، على أسس إنسانية، وبحوار سياسي. والآمال معقودة على أن يتمكّن السعوديون من إقناع كل القاهرة وأبوظبي بعدم تمويل أو تسليح الطرف الأثير. وفي وسع الولايات المتحدة حماية الحركة الديمقراطية التي خانتها بشكل مخجل.
وفي المقابل، عرض الرئيس الكيني وليام روتو التوسط بين الطرفين. وهو رجل يتمتع بنفوذ ضئيل، ولكنه يملك مؤهلات ديمقراطية قوية، ويمكنه أن يشارك السعوديين في حشد جبهة دولية موحدة. وتتطلب صيغة إنهاء الحرب مهارات دبلوماسية قوية، وإطار عمل متعدد الأطراف يضم الأمم المتحدة والأفارقة. والوقت داهم.
• أليكس دي وال المدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمي في كلية فليتشر للقانون والدبلوماسية في جامعة تافتس. شارك في تأليف كتاب “الديمقراطية غير المكتملة في السودان: الوعد وخيانة ثورة شعبية”، بالتعاون مع المؤلفين ويلو بيردج، وجاستن لينش، ورجاء مكاوي.
مترجم من فورين أفيرز، أبريل 2023