ما بين رشا عوض، اسحق أبكر ابراهيم وعبد الرحمن الغالي.. نجتر مرارات الماضي التي طالما تناسيناها.

د. أحمد زكريا اسماعيل

 

مقدمة:
سوف نستعرض ونعيد كثير مقالات تمت كتابتها بواسطة نطاسين، يحترفون الرصد، قبل أن ندلف في سلسلة من المقالات التحليلية.

المقال الأول للدكتور عمر مصطفى شركيان

النُّوبة بين عهدين
(1985-1989م)
الأربعاء, 04 شباط/فبراير 2009 10:02

حكومة الصَّادق المهدي  (1986-1989م) .. ظلام عند الظَّهيرة
د. عمر مصطفى شركيان
وتذكرة للصَّادق والذين حكموا معه في عهد ما سمِّي ب”الديمقراطيَّة الثَّالثة” لعلَّهم يتذكَّرون ويعتذرون للنُّوبة، وذلك أضعف الإيمان.
إنَّ حيازة السلاح لغير المنوط بهم في الجبال قد تسبَّبت في حوادث نهب مسلَّح منذ أوائل الخريف العام 1986م حينما قام ثلاثة مسلحون يرتدون زيَّاً عسكريَّاً بنهب عربة لوري كانت تقل عدداً من المغتربين بالقرب من مدينة لقاوة. كان أخطرها ثلاث حوادث وقعت “في الفترة من 15 آذار (مارس) 1988م حتَّى أوائل نيسان (أبريل) 1988م”. “فالحادث الأول وقع في الطَّريق بين مدينتي المُجلد ولقاوة، حيث اعترض مسلَّحون عربة كانت تحمل مرتَّبات الوحدة العسكريَّة بلقاوة، والحادث الثَّاني وقع في نفس الطَّريق وتمَّ نهب ما يُقدَّر بألفي جنيه خاصة بركاب عربة قادمة من المُجلد في طريقها إلى لقاوة، والثَّالث – والذي راح ضحيته أحد رجال الشرطة – وقع في طريق لقاوة كادقلي.”(52) إنَّ هذه الحوادث لتكشف بوضوح شديد لا لبس فيه أنَّ السلاح الذي كان مملوكاً عند القبائل والأفراد كان يفوق في معظم الأحيان ما تمتلكه الحكومة، وإلاَّ فما وجد هؤلاء المسلَّحون سبيلاً للاعتداء على عربة تحمل مرتَّبات الوحدة العسكريَّة وكان يقوم على حراستها ثلاثة من رجال الشُّرطة. تردت الحالة الأمنيَّة في المنطقة الجنوبيَّة بصورة مؤسفة، حتى قال النائب يوسف مرفعين كوكو (الحزب القومي السُّوداني): “إنَّ 88 شخصاً قتلوا وفُقِد 13 آخرون في منطقة أم دورين على أيدي المليشيات … وأضاف أن 904 قطيَّة (منزل) أُحرقت تماماً، وتم نهب 4,680 بقرة، و650 رأساً من الضَّأن.”(53) كذلك، من التصرفات الطَّائشة لدي السُّلطات المحليَّة في جنوب كرفان نورد الحدث المأسوي الآتي: أثر بلاغ خاطئ من أحد المواطنين للجَّيش بأنَّ شيخ قرية هيبان يخبئ عدداً من “الخوارج” (أفراد الجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان) في منزله، وتصادف وجود رجال الشُّرطة بمنزل الشَّيخ الذين حضروا لإرجاع أبقار من “الخوارج”. وقد قذف الجَّيش المنزل (بمدافع) الهاون توفَّى على أثره ثلاثة من رجال الشُّرطة وجرح أثنان، وردَّت الشُّرطة مما أدَّى لوفاة أثنين من الجَّيش.(54) لم تبذل الحكومة أي جهد للتحقيق في الحادث. وللمزيد من الأدلة الكاشفة، يذكر محمد سيد أحمد المطيب في “قصَّتي مع الجَّبهة (القوميَّة) الإسلاميَّة”.. وقفات وتأمُّلات”: “أنَّه قد أُتيحت له فرصة للقيام بزيارة صحفيَّة لإقليم كردفان العام 1988م تلبية لدعوة كريمة من حاكم الإقليم آنذاك الأستاذ عبد الرسول النُّور.. ومن مدينة الأبيض – حاضرة إقليم كردفان – امتدَّت بي تلك الرحلة إلى مناطق جبال النُّوبة برفقة وفد من جماعة الأخوان المسلمين كان قد قدم من العاصمة الخرطوم إلى كردفان تتعلَّق بتفقد الأوضاع هناك والوقوف على أحوال ما يسمى ب”عمليات الدفاع العسكري الشَّعبي” في مواجهة عمليات حرب العصابات الأهليَّة التي يقودها (العقيد) جون قرنق.. وخلال تلك الزيارة الصحفيَّة لمست بنفسي كيف أنَّ ذلك الذي كان يسمَّى ب”الدفاع الشَّعبي” لم يكن سوى مليشيات مسلَّحة معادية لأهالي جنوب كردفان من المواطنين النُّوبة البسطاء.”(55)
في إطار برنامجها لتثقيف الرِّيف، بعدما عجزت السُّلطة المركزيَّة عن القيام بهذا الدَّور، نظَّمت رابطة هيبان بالجَّامعات والمعاهد العليا أسبوعاً ثقافياً صيفيَّاً تحت شعار “الطِّفل نصف الحاضر وكل المستقبل” في منطقة ريفي هيبان. وفي وضح نهار الدِّيمقراطيَّة، قامت “بعض أفراد القوات النِّظاميَّة بتعطيل الأسبوع، ودعوا لحل الرَّابطة، وأمروا أفرادها بمغادرة المنطقة، ومنعوا لجنتهم من الاجتماع بالضَّابط الإداري، واعتقلوا بعضهم صباح الثلاثاء 3 أيار (مايو) 1988م لمدة يومين.”(56) هذه السُّلطات التي تمنع قيام ونشاط عمل اجتماعي بحت ولا دخل للسياسة فيه هي التي تسعى لعقد مؤتمرات سلام محليَّة. فبالرَّغم من عدم قيام هذه المؤتمرات، ما كانت أن تحرز أي نجاح نسبة لهشاشتها وسوء القصد. إنَّ المشكلة الأمنية في جنوب كردفان لا تتجزَّأ من مشكلة الحرب الأهلية في السُّودان؛ فعليه إذا أرادت الحكومة معالجة الوضع جذريَّاً، كان من الأجدر لها مخاطبة قيادة الحركة الشَّعبيَّة سياسياً وفي المؤتمر القومي الدَّستوري الذي ما فتأت الحركة الشَّعبيَّة داعية لها منذ أمد غير قصير، لأنَّ عساكر الجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان في الجبال ماهم إلاَّ جنود الميدان، لا يحق لهم عقد اتِّفاقات أو إبرام صفقات مع النِّظام متجاهلين قياداتهم. كان الشئ المتوقَّع من حكومة الصَّادق المهدي كثراً، لكن هذه الحكومة المنتخبة في انتخابات جزئيَّة، والحديث للسيِّد حسن كندة كرية – أحد قادة تضامن قوى الرِّيف، “سارت في نفس نهج الحكومة الانتقاليَّة فقد دعا السيِّد (العميد) فضل الله برمة ناصر لتسليح القبائل، كما أيَّد ذلك السيِّد بكري أحمد عديل في لقاء جماهيري بمدينة الدَّلنج في تموز (يوليو) 1988م”.(57) وفضل الله برمة ناصر قد يكون اسمه منسيَّاً بعض الشئ اليوم. غير أنَّه خلال الثمانينيات من القرن العشرين كان ملأ الأسماع والأبصار في الخرطوم والتخوم، وبخاصة مجتمع جبال النُّوبة.
على أيَّة حال، إنَّ الحكومة التي طالما صمتت حول التَّوصيات الخطيرة التي خرج بها مؤتمر الرواوقة بكادقلي، بدأت في تنفيذها علناً. هؤلاء القوم ائتمروا وأرادوا قتل الحزب القومي السُّوداني تحت دعاوي واهيَّة لا يسندها القانون الذي يكفل حريَّة التَّعبير وتكوين الأحزاب السِّياسيَّة. وما “اعتقال 37 عضواً من أعضاء الحزب القومي السُّوداني في جنوب كردفان من بينهم جميع أعضاء المكتب السِّياسي بمدينة كادقلي وكذلك النائب البرلماني هارون إدريس كافي”(58) إلاَّ تكريساً للدكتاتوريَّة المدنيَّة التي سعى إليها السيِّد الصَّادق المهدي. فقد علمنا أنَّ الاستخبارات العسكريَّة هي التي قامت باعتقال هؤلاء المواطنين الأبرياء، ولم تأت أيديهم ولا ألسنتهم بشئ به يستدعي توقيفهم، حيث أنَّ مؤاخذة الإنسان البرئ بذنب لم يرتكبه ظلم صراح. وعندما تسلَّم السيِّد رئيس الوزراء ووزير الدِّفاع – السيِّد الصَّادق المهدي – مذكرة الحزب القومي السُّوداني، كما قال محمد حمَّاد كوة – أحد قياديي الحزب القومي السُّوداني، حوَّلها إلى وزير الدَّاخليَّة؛ إذ أنَّ الجهة التي اعتقلتهم تابعة لوزارة الدِّفاع وكان عليه أن يعالج القضيَّة بنفسه بصفته وزير الدِّفاع دون تحويلها إلى وزير الدَّاخليَّة. تلكم هي حال الحزب القومي السُّوداني الذي ارتضى أسلوب العمل السِّياسي الشَّرعي في التَّفاعل مع حكومة السيِّد الصَّادق المهدي التي انتهجت هي الآخرى القهر التَّعسُّفي في التَّعامل مع الذين لا يشاركهم في الرَّأي.
مهما يكن من أمر، فقد عزا عبدالله محمد أحمد (حزب الأمَّة) – الوزير السَّابق في حكومة الصَّادق المهدي ونظام “الإنقاذ” لاحقاً – تولي السيِّد الصَّادق المهدي حقيبة وزارة الدِّفاع مع أعباء رئاسة مجلس الوزراء والحرص أي الحرص على تبعيَّة جهاز الأمن لرئاسة الوزراء لعلاج ما فيها من خلل. فما هو الخلل في التركيبة العسكريَّة والأمنيَّة الذي يدَّعي الوزير السَّابق وهو زعيم أنَّ الصَّادق المهدي هو كان أول من سبق الآخرين أكتعين في معرفة هذه الحقيقة الغائبة عنهم؟ يقول عبدالله محمد أحمد: “لقد اكتشف رئيس الوزراء المنتخب أنَّ 85% من القوات المدرَّعة والمشاه وسلاح الدبَّابات المتمركزة في الخرطوم من عناصر غير عربيَّة فاتَّخذ إجراءات أوليَّة لعلاج الموقف فأمر أن تكون نوبات الحراسة المسائيَّة في يد ضباط موثوق بهم من غير ذوي “الهُويَّة أو الميول العنصريَّة” إلى أن يتمكَّن من علاج الخلل بهدوء لحساسيَّة الموضوع”. ثم يمضي الوزير الكاتب قائلاً: “إنَّ الأب فيليب عبَّاس غبوش (قد) اكتشف هذه الظروف ليدبِّر مؤامرة عنصريَّة لإقصاء العنصر العربي السُّوداني من كل أوجه الحياة السياسيَّة والتَّنفيذيَّة وأفرقة البلاد”.(59) هذه هي حالنا في السُّودان؛ بيد أنَّ الأمر يختلف في شبه الجزيرة الهنديَّة، فقد أمر مستشارو رئيسة وزراء الهند – السيِّدة أنديرا غاندي – أن لا تعيِّن المواطنين السيخ في طاقم حراستها الخاصة. تُرى ماذا كان رد السيِّدة رئيسة الوزراء؟ قالت لهم: “إنَّني لست بمفرِّقٍ بين أبناء شعبي”. مهما يكن من شأن السيِّدة غاندي والهند، إذ أنَّ شطارة السيَّد الصَّادق المهدي – رئيس وزراء السُّودان – التي أسعفته في إفشال ما تُعورِف على تسميتها ب”المؤامرة العنصريَّة”، لم تساعده هذه الشطارة في إحباط الإنقلاب “الإنقاذي” لاحقاً. معبِّراً عن رضائه عن هذه الاجراءت التعسفيِّة، أعلن الدِّكتور عمر نور الدائم – الأمين العام لحزب الأمة – أثناء لقائه بالجالية السُّودانيَّة بالرياض، حاضرة المملكة العربيَّة السعوديَّة، “أنَّه تمَّ إعادة التَّوازن في القوات المسلَّحة، حيث كشف أن 85% من العناصر المنخرطة في الجيش كانت من الجنوبيين والوثنيين وغيرهم بينما كانت العناصر العربيَّة والإسلاميَّة الأخرى داخل الجيش تمثِّل 15% فقط، مما أحدث خللاً بيناً داخل القوات المسلَّحة بالنظر إلى الخارطة السكَّانيَّة التى تشمل 80% من العرب والمسلمين”.(60) وأي إساءة أكثر من وصف قطاع كبير من المجتمع بالوثنيين! أما الحديث عن الأرقام والنِّسب المئويَّة فلا ندري من أين له بهذه الاحصائيات التي هي مبلغ ريبتنا وشكوكنا في الأمر كله.
كان على أهل الحكم في السُّودان أن يدركوا أنَّ بروز الجَّيش على قمة الهرم السُّلطوي هو النتيجة الحتميَّة من “صراع القوى بين الأجهزة المدنيَّة (الذي) يقود إلى تفتت وانعدام فاعليَّة أجهزة السُّلطة المدنيَّة.. وانعدام الفاعليَّة يقود بدوره إلى خلق فراغ لا تملؤه إلا القوَّة الوحيدة المنظَّمة، والمالكة لوسائل الحسم والرَّدع والسيطرة الفعَّالة، والتي تضم في تكويناتها المختلفة نماذج لكل طوائف المجتمع. وهي مع هذا تتحرك بصورة عفويَّة ومؤسَّسيَّة وبتلقائيَّة وطوعيَّة تحمل المقود على طاعة القائد حتَّى وإن أدَّى هذا إلى هلاكه. وهذه العناصر هي: الوحدة، والتماسك، والقدرة على التحرك السَّريع الحاسم، والقوة الماديَّة عناصر يكمل بعضها البعض. وانتفاء أي واحد من هذه العناصر يؤدِّي إلى تشقق في الجيوش أخطر بكثير من تشقق الأجهزة المدنيَّة، لأنَّه إن كانت وسيلة تصفية الخلافات بين المدنيين هي عد الرؤوس، فهي بين العسكريين تهشيم الرؤوس.” ومع ذلك، كان علي أهل الحل والعقد في البلاد أن يعلموا ويعوا أنَّ “ضعف القوى الموازية، كالأحزاب، والنقابات والطوائف لا يعني أنَّ هذه الأحزاب والمؤسسات الاجتماعيَّة لا تملك القوَّة العدديَّة، ولكنه يعني إما أنَّ هذه القوى تمارس لعبة سياسيَّة لا تحترم أحكامه.. أو أنَّها تعمل في إطار دستور لا تلتزم به .. أو أنَّها تنادي بديمقراطيَّة تتجاوزها باخضاع كل العمل السياسي للإشارة والتفرُّد.. أو أنَّها تقفل الباب، بمثل هذه الممارسات، أمام القوى الحديثة إلى سدة الحكم. ولا شك (…) أنَّ الذي جعل التَّجربة الهنديَّة تنجح حتى الآن في الهند هو وعي القيادات الهنديَّة بأنَّ بقاء النظام رهين باحترام الحاكمين لقواعد اللعبة السياسيَّة، مثل احترام الدَّستور، احترام القضاء، الاعتراف بالفوارق الثقافيَّة، احترام الرأي الآخر المعارض بتوفير حريَّة التَّعبير، والتَّشاور حول القضايا القوميَّة، وكفالة حق الأقليَّة في أن تصبح أغلبيَّة.”(61) فعلام التباكي والتصايح، إذن، على ولوغ الجَّيش في السياسة قبل إصلاح السياسة أولاً؟
لم يتعرَّض السيِّد الصَّادق المهدي في سفره “الأموي”، الدَّيمقراطيَّة في السُّودان: عائدة وراجحة، عن لجنة تقصِّي الحقائق حول ملابسات اعتقال النَّائب هارون إدريس كافي ومجموعة أعضاء المكتب السِّياسي للحزب القومي السُّوداني بكادقلي، على الرَّغم من أنَّ السَّفر قد مُلأ وزُيِّن باسماء لجان التَّحقيق – وهميَّة كانت أم حقيقية – وأعضاء هذه اللجان، دون أن يعترف رئيس وزراء السُّودان السَّابق أن حكوماته الثلاثة (حكومة الوحدة الوطنيَّة 1986-1987م، الوفاق الوطني1987-1989م، والجبهة الوطنيَّة المتَّحدة آذار (مارس) 1989 – حزيران (يونيو) 1989م) كانت كلها خطل وزلل. تلكم اللَّجنة التي تكونت من النَّائب العام، الاستخبارات العسكريَّة، الشرطة والمستشار القانوني للجمعية التَّأسيسيَّة وبقرار من مجلس الوزراء تلكأت حتَّى في السَّفر إلى كادقلي لاستجلاء الحقائق والإتيان بالنبأ اليقين. لماذا تجنَّب السيِّد الصَّادق المهدي ذكر هذه اللَّجنة، التي كوَّنها هو شخصيَّاً، كأنَّها رجسٌ من عمل الشَّيطان؟ ومما يبعث الأسى، أيضاً، إشارة الصَّادق في السفر المذكور آنفاً إلى أحداث دارفور الدَّامية بتبسيط مخل ومجافي لحقيقة المذابح وقتذاك. وقف الصَّادق المهدي عند الصراع الذي كان يعرف ب”النَّهب المسلَّح” في أقليم دارفور حينما كان يتحدَّث عن مشاكل الحكومة مع الاتحادي الدِّيمقراطي، موجزاً تلك الدَّماء التي سالت في خمس كلمات: “بعض الأوضاع الأمنيَّة في إقليم دارفور،” هكذا كتب الصَّادق. أمَّا عن أحداث الضِّعين المؤسفة، فتجاهلها الصَّادق كأنَّها لم تحدث ولم يسمع بها، وسوف نتطرَّق إلى هذه المذبحة وإفرازاتها في مكان آخر من هذا البحث. كانت حكومات الصَّادق المهدي يعتورها الفشل المؤسسي؛ فلم توفِّر الأمن والطمأنينة للإنسان الأعزل في مناطق الصراع، بل أصبح هذا الإنسان الأعزل هدفاً مقصوداً من أجهزة الدولة الأمنيَّة والعسكريَّة؛ ولم توفِّر الغذاء والدواء والكساء في المناطق المهمَّشة التي تنوشها سهام الحرب، بل استخدمت المجاعات القاتلة كسلاح حربي ضد أولئك وهؤلاء مما لا جريرة لهم في هذا النِّزاع، حتَّى اضطرَّ الفقراء الملجؤون إلى الاستجارة بغيرهم. هكذا ينطبق قول الشَّاعر وضَّاح عن مثل هذا النمط من الحكومات التي تُدار بغير هدي، وفي عبث، وهي – فوق ذلك – لا نور يطل منها ولا نهار. إذ أنشد وضَّاح:
مصائرنا تُدار بغير هَدي ونجهل كيف في عبث تُدار
حكومات تلوذ بظل أخرى ولا نورٌ يطل.. ولا نهار
ولا فجر يضئ بأفق ليل ولا رأيٌ يجئ.. ولا قرار
فمثل حكومات السيد الصَّادق المهدي كمثل البناء الذي ما انهدَّ جانبه حتى تهاوى باقيه، كقول الشَّاعر:
إنَّ البناء ما انهدّ جانبه
لا يأمن النَّاس أن ينهدّ باقيه
بعد هذا وذاك، يخرج علينا بعض الكتَّاب بكتابات لتمجيد السيِّد الصَّادق المهدي وحرق البخور للإمام الهمام؛ ذلك أنَّ مثل هذه الكتابات قد يصحُّ اعتبارها أوفى نموذج لكتب الرياء المتهافتة، إذ تكتبها أقلام مرائية ومداهنة.
وبما أنَّ السيِّد الصَّادق المهدي قد رفض الاعتراف أنَّهم سلَّحوا القبائل العربيَّة ضد القبائل غير العربيَّة، إلاَّ أنَّه أقرَّ بتجربة الدِّفاع الشَّعبي الذي بدأ في عهده إذ قال: “سلَّحنا قبائل الغرب (دارفور وكردفان) كي تشارك السُّلطة في سعيها إلى وضع حد لظاهرة النَّهب المسلَّح في دارفور وكردفان”.(62) فهل حقاًَّ وضعت هذه القبائل المسلَّحة حدَّاً لظاهرة النَّهب المسلَّح في هذين الإقليمين؟ إنَّ الإجابة لهذا التساؤل هي النفي. وفي هذا الصدد “يعتقد القائد عبد العزيز آدم الحلو بأنَّ السُّلطة المركزيَّة في الخرطوم كانت تدعم العدوان على قبائل الزرقة (الأفارقة في دارفور) منذ العام 1986م، وإنَّ ما كانت الحكومة تطلق عليها عمليات النَّهب المسلَّح هو عمل منظَّم بإشراف السُّلطة المركزيَّة ومباركتها، وهو حرب إبادة على القبائل الأفريقيَّة في دارفور.” ويذكر الحلو “أنَّ في العام 1989م تحرَّكت أعداد كبيرة من بعض القبائل العربيَّة من ولاية كردفان القريبة على ظهور الخيل والجمال إلى دارفور للمشاركة في الحرب ضد الفور، وتمكَّنت تلك القبائل خلال حربها ضد الفور منذ العام 1986م من حرق حوالي 2,500 قرية واحتلال 235 أخرى في وادي صالح، وقتل حوالي 5,000 من المدنيين ونهب ما يزيد على الأربعين ألفاً من المواشي.”(63)
ومن جانب آخر، نجد أنَّ الإعلام في عهد حكومة الصَّادق المهدي – كما في أي وقت مضى في السُّودان – قد اُستخدِم بصورة منحازة لشريحة بشريَّة بعينها مما أضر بالنسيج الاجتماعي في البلاد؛ إذ أفرز هذا السلوك غير المستقيم الحراك الاجتماعي الذي ينشأ في المدن بين الفينة وأخرى. هؤلاء الأغيار الذين يناطحون غيرهم بألسنة حداد وإليهم يلحدون، دون أن يسألوا أنفسهم في أنفسهم وغيرهم من ذا الذي يترك قريته الهادئة الوادعة ليذهب إلى الخرطوم دون أن يكون له أي سبيل لكسب العيش الكريم، إلاَّ إذا كان مرغماً. عليه، عندما يُصاب البنية التحتية باهتراء، وتنتشر الفاقة في التخوم، وتتحطَّم العلاقة التي كانت سائدة بين الحياة الاجتماعيَّة والعوامل البيئيَّة ينزح الناس داخليَّاً إلى الخرطوم ليكوِّنوا الطبقة الكادحة في المدن وفيها يقوموا بالأعمال الوديعة. وخبرنا أنَّ الحكومات المسؤولة تساعد دائماً هذا النوع من الفئات البشريَّة في المدن بدعم الحرف التي يؤدونها لأنَّها تمثِّل دعائم الاقتصاد الوطني على المستوى الشَّعبي، فبدلاً من طرد باعة السجاير من الطرقات ينبغي منحهم تراخيص لتشييد الأكشاك ودفع الضرائب، وبدلاً من هدم منازلهم وتهجيرهم إلى الخلاء ينبغي فتح الطرق وتشييد المدارس والمراكز الصحيَّة والميادين العامة ومجاري لتصريف المياه وتوصيل الماء والكهرباء وتوفير التَّدريب المهني ومطالبة سكان هذه الأحياء بدفع قيمة مالية مقابل الأرض والخدمات على أن تُجبَى منهم في شكل أقساط للذين لا يستطيعون تسديدها كاملاً. وكذلك ينبغي على الدولة حل القضايا التي تشكِّل مؤشِّرات النِّزاع مثل: الوسائل المتفاوتة (Differential access) في الحصول على الخدمات الاجتماعيَّة، التباين الثَّقافي، لعنة العنصريَّة، الصحة العامة، رفاهيَّة المواطنين، الأخلاق والسياسة، ومَنْ يستحق ماذا وغيرها من العوامل الماديَّة التي تحرم المجموعات المهمَّشة اجتماعيَّاً من فرص الحصول على الخدمات الاجتماعيَّة. إذ لا يمكننا اعتبار متغيِّرات الحرمان المادي وحالة الطبقة الإثنيَّة هما العنصرين الوحيدين والمسؤولين عن التَّهميش دون الأخذ بالعامل السياسي والعنصري والثَّقافي في عدم المساواة في الصحة والتَّعليم والتَّنمية والخدمات الاجتماعيَّة الأخرى؛ وهنا تجدر الإشارة إلى الهُويَّة الإثنيَّة والثَّقافيَّة وكافة الأشكال غير الاقتصاديَّة للتمييز العنصري. فالفقر كرصيد اجتماعي (Poverty as social capital) يمكن أن يتحوَّل إلى متغيِّر وبائي (Epidemiological variable) حينما تتلاشى الوقاية الطبيعيَّة في الإنسان المعلول، والظلم كرصيد اجتماعي يمكن مع العسر عسراً أن يتحوَّل – طال الزَّمن أم قصر – إلى صراع سياسي عقيم عندما لا تبدو في الآفاق أيَّة بارقة أمل للإنصاف والعدالة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.