الهُوية .. جوهر الصراع فى السودان

مبارك عمر

 

تابعت الندوة الفكرية التي اقامتها خيمة الصحفيين ” النسخة العاشرة” في التاسع من رمضان، بعنوان ” سؤال الهُوية ..قضية المركز والهامش ” قدم فيها الدكتور حيدر إبراهيم علي ورقة حول موضوع الهوية في السودان ، و د. النور حمد و د. محمد جلال هاشم معقبين ، أدار المنصة الأستاذ شمس الدين ضو البيت . انه لعمل جميل ومساء ممتع خاصة وأننا نفتقد لمثل هذه الفعاليات المميزة والرصينة التي تحرك السواكن وتطرح مزيدا من التساؤلات حول قضايا الثقافة والفكر في السودان وعلى الرغم من “فضاء الحريات ” الذي انتزعته ثورة ديسمبر المجيدة إلا أنه ما زال حتى اللحظة الفضاء العام السوداني يفتقد للحواريات والنقاشات الفكرية الجريئة.
ابتدر النقاش المفكر د. حيدر إبراهيم متحدثآ عن أهمية موضوع الهوية وتطرق لحالة عدم الضبط المفاهيمي لفكرنا السياسي في السودان . في الحقيقة هذه الحالة لازمت فكرنا السياسي طويلا وما زالت ويمكن أن نُرجع ذلك لعدة أسباب أولها كما أزعم الممارسة السياسية عندنا غير مفكرنة بمعنى أن هناك حالة من الانفصال بين الفكر والسياسة في المجال العام ولا نحتاج لدلائل على ذلك والوسط السياسي السوداني الراهن يعج بالمهرجين وعبر تاريخه، لكن هناك سبب مهم واساسي أخر فاقم المشكلة وهو بُعد المفكر او المثقف السوداني نفسه عن الممارسة السياسية ذات الطابع الحزبي واعتباره “الحزب” بأنه مقيد للفكر الحر بفعل الشلليات داخل الحزب وسيطرتها على القرار، السؤال هنا لماذا لا يصمد المفكر او المثقف السوداني داخل الحزب ويشتغل على ضبط المفاهيم من خلال ممارسة سياسية حزبية؟ طيب إذا افترضنا أنه لم يسطيع بفعل الشلليات وتحكمها، لماذا لا يستطيع إنتاج بدائل سياسية حزبية بشكل ممنهج ويشتغل من خلالها على ممارسة فكر سياسي رصين ؟ .لماذا يتحول المفكر عندنا إلى أكاديمي غير فاعل سياسيا، وهل الأكاديمي ينفصل عن السياسي!؟
كذلك أشار د .حيدر بأن سؤال الهوية جاء متأخرا في نقاشات المثقفين السودانيين و ذهب إلى أن مفهوم الهوية مفهوم مضلل ويجب أن نستبدله ما اسماه ب ” مفهوم الشخصية الأساسية ” وأشار في حديثه بأن المركز والهامش يمكن ان تنتج مفاهيم عنصرية في توظيفاتها لمفهوم الهوية.
حقيقة ولأول مرة أرى د. حيدر يتناول المفاهيم الفكرية بهذا الشكل التبسيطي الغريب ويتحدث عن عدم ضبط المفاهيم في كتابات المركز والهامش وما هي إلا اقتباس من كتابات المصري سمير آمين رغم إختلاف السياقات والاستخدامات المفهومية بين سمير آمين الذي يتحدث عن المركز والاطراف بالمفهوم الطبقي الماركسي، ومفهوم المركز والهامش عند منظري التحليل الثقافي في السودان ، معلوم بالضرورة بأن الكتب عندما تُصدر لا تعود كما تصورها المؤلف أو مُصدرها ،بهذا تصبح ملك للجميع ويبدأ التأويل بما في ذلك الكتب الدينية المقدسة فالقرآن مثلا بعد أن اكتمل نزوله وظهر في شكل كتاب بدأ التأويل فيه و فُهومات عديدة تختلف حسب الزمان والمكان والحالة الذهنية للمتلقي ، هذه الفهومات افرزت داعش وغيرها من التطرف وبالمقابل افرزت الجمهوريين المتسامحين عندنا في السودان والنماذج عديدة .. ، من الخطأ فهم الصراع في قضية المركز والهامش على أساس انه ثنائي بحيث يتحول إلى مع /ضد وللمفارقة نجد ان حتى جزء من أنصار هذه الفكرة والمنتمين إليها يعونها على هذا الأساس وهذا ضرر أكبر لحق بها ، الجدل داخل مفهوم المركز والهامش هو جدل متعدد الأبعاد ولا يقوم على قضية الهوية فقط ولا حتى هناك مخطوطة بإسم المركز والهامش تقول بأن الصراع داخل هذه الوضعية صراع هوياتي فقط، الهوية هي واحدة من أبعاد الصراع داخل الوضعية ولأنها قضية محورية وجوهرية ولم تحسم بعد في اروقة الفكر السياسي السوداني ظلت على الدوام مصدر إزعاج للكثيرين فمنهم من دعاء إلى تجاوزها وتبنى اطروحات “ما بعدية” ومنهم من دعاء إلى التخلص من مفهومها و إستبداله بمفاهيم جديدة كما فعل مفكرنا د. حيدر على خطى كتاباته السابقة حول مفهوم العلمانية و إستبداله بالعقلانية. رغم كل ذلك تظل مسألة الهوية في السودان جوهرية أساسية وليست ثانوية كما تحدث عنها عدد من المداخلين والمداخلات في الندوة بنوع من الكسل الذهني واطلقوا ” أحكام بدون تحليلات ” حسب وصف د. النور حمد.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.