كلمة الدكتور عمر مصطفى شركيان في تأبين القائد المعلِّم يوسف كوَّة مكِّي بالمملكة المتحدة

كلمة ممثل الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان-شمال بالمملكة المتحدة وجمهوريَّة أيرلندا الرفيق الدكتور عمر مصطفى شركيان في تأبين القائد المعلِّم يوسف كوَّة مكِّي المقام بواسطة اللجنة التمهيديَّة للحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان – شمال بالمملكة المتحدة في يوم 2 أبريل 2023م

يوسف كوَّة في ذكرى وفاته

بسم الله وباسم الوطن
الأخوة والأخوات

في البدء نودُّ أن نترحَّم على أرواح شهداء الحركة الوطنيَّة الذين ضحوا بدمائهم الطاهرة فداءً في سبيل الحريَّة والسَّلام والعدالة، وذلك في جميع أرجاء الوطن: جنوباً وشمالاً، غرباً وشرقاً، ثم في وسط البلد في أرض الجزيرة، وفي قلب الوطن في العاصمة، ونتضرَّع إلى الله سبحانه وتعالى أن يشفي جرحانا، ويعيد المفقودين إلى ذويهم وأصحابهم.

أما بعد،،،

في الربع الأوَّل من العام 2001م، الموافق 31 آذار (مارس)، اشتد مرضٌ عُضال بالقائد يوسف كوَّة مكِّي، وأنهك كاهله. في ذاك التاريخ انطفأت شمعة من شموع النِّضال في السُّودان، وفي الحين نفسه توقَّدت شموع أخرى ما زالت ممسكة بزناد النِّضال المسلَّح والوعي السياسي. في ذلك الرَّدح من الزمان كان يوسف يتحمَّل أوجاع المرض بشجاعة وجلد، ولم تبارحه ابتسامته المعهودة، ولم تفارق وجهه أساريره الأريحيَّة. وقد يظنُّ ظانٌ أنَّه كان قد اعتزل مهامه السياسيَّة، أو مسؤولياته القياديَّة في تلك اللحظات المرضيَّة العصيبة والأخيرة من عمره، بل كان يرسل الأوامر العسكريَّة إلى القادة الميدانيين، ويطلب منهم ما يستوجب عمله لصد جند الحكومة وميليشياتها المسلَّحة الغائرة على المواطنين الأبرياء العزَّل في ديارهم دون وجه حق. وما نقوله هنا إلا ما شهدناه منه في المملكة المتحدة، حين كان يأتي إليها مستشفياً بين الحين والآخر.
في عمله معلِّماً بمدرسة الضعين الثانويَّة في مستهل السبعينيَّات من القرن العشرين، تناهى إلى مسامعنا أنَّ الأستاذ يوسف كان قد اكتسب ثقة أهل المنطقة، وبات أحد أعيان المجتمع المرموقين، مشاركاً في المناسبات السياسيَّة، والفعاليات الاجتماعيَّة، يسعفه في ذلك صوته الجهوري، وقامته التي تنزع إلى الطول. كان كذلك هو شأنه ودأبه حين عمل بالتدريس في مدرسة كادقلي الثانويَّة للبنين (تلو) في مستهل الثمانينيَّات من القرن العشرين، ومن خلال الرحلات خارج كادقلي، حيث كان نشطاً سياسيَّاً واجتماعيَّاً، وبقدر غير قليل من النشاط. تأسيساً على ذلك، كان ليوسف ورفاقه في تنظيم “كمولو” دور فعَّال في تنظيم الشباب، وبث الوعي السياسي فيهم، وحثهم على المثابرة في المطالبة بحقوقهم، وحقوق أهليهم المهمَّشين، ولا يرى في نشاطه يومذاك بأساً. ومن هنا يبرز دور يوسف التربوي والاجتماعي على حدٍّ سواء. وهذا هو الدور المرسوم للمعلم، والذي ينبغي أن يكون، وفي ذلك ربط المعلم والمدرسة بالمجتمع. ذاك ما كان من أمر يوسف.
كان يوسف يؤمن بالتعايش السلمي بين القوميَّات السُّودانيَّة المختلفة المتساكنة في إقليم جبال النُّوبة خصوصاً، والسُّودان عموماً، حتى في ذاك الحين الذي فيه ملَّشت الحكومات الخرطوميَّة المتعاقبة القوميَّات العربيَّة ضد سكان البلاد الأصلاء، والأسوأ في الأمر ضد المواطنين الأبرياء العزَّل، يقتلون رجالهم، ويغتصبون نساءهم، ويختطفون أطفالهم. ولنا فيما نحن فيه قائلون كثرٌ من الأمثلة. ومع ذلك كله، وقَّع يوسف اتفاقاً محليَّاً مع المجموعات العربيَّة في منطقة تُمَّة، وأخذت هذه الإثنيَّات العربيَّة تجلب الملح إلى مناطق إدارة الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السُّودان، وذلك برغم من مخاطرة هؤلاء التجار لئن هم وقعوا في أيدي قوَّات الحكومة، أو رجال أمنها. المشاركة في الأرض والكلأ والماء كانت تستوجب التعاون بين الفئتين، وكذلك مما دفع القبائل العربيَّة إلى اللجوء إلى الحركة الشعبيَّة لإبرام ذاك الاتفاق هو ما تعرَّضوا له من نهب لأنعامهم وممتلكاتهم من قبل جيوش الحكومة وميليشياتها. في ذلك الحين من الزمان طوَّقت الحكومة منطقة جبال النُّوبة، وقطعت عنها جميع الامدادات الإنسانيَّة والطبيَّة، ومنعت القبائل الرعويَّة من التجارة مع المتمرِّدين، وكان من يُقبض عليه متلبِّساً بالتعامل مع من أسموهم ب”الخوارج”، حتى ولو كان بحوزته رطل ملح، يُحكم عليه بالموت تحت شرعنة التعاون مع “الخوارج”.
تلك هي الأثناء أيضاً التي فيها عُقِد مؤتمر علماء الدِّين وأئمة المساجد والخلاوي في مدينة الأُبيِّض، حاضرة ولاية شمال كردفان، في يوم 27 نيسان (أبريل) 1992م، وأفتى فيه فقهاء السلطان ب”قتال الخوارج في جنوب كردفان”، أي النُّوبة، ثمَّ أردفوا بفتوى أخرى في الخرطوم في يوم 2 آب (أغسطس) 2011م، وذلك في اجتماع الحركة الإسلاميَّة في الخرطوم يأمرون فيها أتباعهم وأشياعهم بقتل النُّوبة ومن والاهم في جبال النُّوبة. ومن هنا نرى كيف زُجَّ بالدِّين في حرب سياسيَّة لن ينبغي أن يكون للدِّين فيها من شأن. تأسيساً على تلك الفتاوي، اقترفت قوَّات الحكومة ومناصروها المسلَّحون المجازر البشريَّة باسم الجهاد في سبيل الله، حيث لم ينجُ منها المسلم أو غير المسلم. إذ يعود بنا الأمر إلى تاريخ الدولة الإسلاميَّة، الذي هو نسيج من الحروب والمذابح والاضطهادات. فهؤلاء طوائف الفقهاء والرهبان على اختلاف أنواعها؛ السُّود والبيض والكبوشيين وهلمجرَّاً، سواء في أنَّها ارتكبت ضروباً من الجرائم الفظيعة والمروِّعة. فقد كان قضاة ديوان التفتيش، وكهنة العُصبة الكاثوليكيَّة متورِّعين، وكانوا أيضاً قساة الأكباد، غلاظ القلوب، ولست محدِّثاً عن البابوات الذين لطَّخوا العالم بالدِّماء، حتى يشك المرء في أنَّهم كانوا يؤمنون بحياة أخرى. إذاً، كيف السبيل إلى الاعتقاد بأنَّ الأفكار الدِّينيَّة تصلح الأخلاق!
مهما يكن أمر، فالسؤال الذي يختمر في مخيَّلة كثرٍ من السُّودانيين، ويطرحونه بإلحاح في أشدَّ ما يكون الإلحاح كلما تسنَّت لهم فرصة للبوح به هو لماذا اختار أبناء النُّوبة الانخراط في النضال المسلَّح بدلاً عن العمل السياسي السلمي؟ رداً على هذا السؤال نقول لهم إنَّ تجارب العمل السياسي السلمي قد جُرِّبت منذ نشوء الكتلة السوداء بقيادة الدكتور محمد آدم أدهم العام 1948م، وذلك كترياق للتزمت العروبي الذي أخذ يتفشَّى في السُّودان؛ كذلك جُرِّب العمل السياسي السلمي من خلال اتحاد عام جبال النُّوبة مباشرة بعد ثورة تشرين الأوَّل (أكتوبر) 1964م، والحزب القومي السُّوداني بعد انتفاضة نيسان (أبريل) 1985م، وتضامن قوى الرِّيف السُّوداني في فترة الديمقراطيَّة الثالثة (1985-1989م). وفي كل تلك المحاولات الدؤوب التي فيها طرح قادتها مطالب سياسيَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة مشروعة بحق المواطنة والعدالة والمساواة وحقوق إنسان الهامش، إلا أنَّهم لم يجدوا أذناً صاغية. وحين أيقن النُّوبة وغيرهم من مواطني النيل الأزرق (إقليم الفونج الجديد) ودارفور أخيراً بأنَّ نضال أهل الجنوب الذي استمرَّ 17 عاماً حسوماً (1955-1972م) قد أتى أكلها في الحكم الذاتي الإقليمي، وحقائب دستوريَّة في المركز، تيقنوا أنَّ ليس هناك من سبيل لانتزاع الحقوق السياسيَّة من الصفوة الحاكمة في الخرطوم إلا عن طريق العمل المسلَّح. أفلم يصرِّح الرئيس المخلوع عمر البشير بأنَّ من أراد السلطة فعليه أن ينازعنا وينازلنا قتالاً “الزارعنا غير الله اليجي يقلعنا”، بل أضاف أشياعه بأنَّهم لم يسلِّموا السلطة إلا للنبي عيسى!
لقد أفصح القائد يوسف في أيار (مايو) 1999م لكاتب هذه السطور في مدينة مانشستر بأنَّه زاهد عن أيَّة وظيفة دستوريَّة في الخرطوم متى ما جاء السَّلام. ولعلَّ ما كان يتمنَّاه يوسف بالذات هو أن يستقر به المقام في جبال النُّوبة، ويشرع في تعليم النشء قيم الحريَّة والعدالة والمساواة، وتربيتهم على التفاني في العمل، والكد في طلب العلم والمعرفة. أفلم يكن يوسف هو من قال في قصيدته الشهيرة “إفريقيتي”:
“فغداً سيأتي، وأُكلِّل بالعلم هامتي
وسأضيئ شمعتي، وعلى ضوئها سأبني حضارتي
وعندها أمدُّ راحتي، وأغفر لمن تعمَّد طمس هُويَّتي”
أي فضيلة أعظم من ذلك الغفران، أو العفو عند المقدرة! في موقف يوسف الجليل ذاك في الزُّهد عن السلطة وبهرجتها يذكِّرنا بالنبيل الرُّوماني لوسيوس سينسناتوس الذي كان رجل دولة، وقائد عسكري في الجمهوريَّة الرومانيَّة في عهدها الأوَّل. فقد أصبح شخصيَّة أسطوريَّة ممثلاً للفضيلة الرومانيَّة، وبخاصة الفضيلة المدنيَّة. برغم من تقدُّمه في السن، إلا أنَّه بات يعمل في مزرعته الصغيرة، حتى اضطرَّ الرُّومان بعد الغزو على الإمبراطوريَّة بأن يتنادوا مصبحين طالبين منه العودة إلى قيادة الجيوش. وبعد أن حقَّق الانتصارات، ووطَّد أركان الإمبراطوريَّة عاد إلى مزرعته. إذ قال، قبيل مغادرته إلى قريته، للذين استقدموه واستنصروه في بادئ الأمر “إن عادوا عدنا”.
حين يظهر الجيل القادم في المستقبل القريب أو البعيد سوف يسأل عن أسماء الأجداد، وسوف يتذكَّر هذا الجيل السائل أولئك الذين ارتبط مصيرهم ارتباطاً وثيقاً بخدمة مصالح الشعوب في سبيل انتزاع حقوقها. هؤلاء هم النَّاس الذين لا يموتون، لأنَّ أسماءهم ستظل أحياءً مباركة في مخيَّلة الشعوب، وإلهاماً للآخرين في سبيل الاقتداء بهم، لأنَّ أفعالهم تحكي ما كانوا يعملون من خير لمصالح البشريَّة. أجل، ليس هناك ثمة شرفاً أعظم من أن يتشرَّف الإنسان فيما أنجزه في سبيل الآخرين، وبخاصة من أجل شعبه ووطنه. وهناك في السُّودان يشهد تاريخ وجغرافية البلاد أنَّ يوسفاً كان واحداً من هؤلاء المناضلين، الذي ضحى بالنَّفس والنفيس من أجل قوميَّته على سبيل الخصوص، والسُّودان بشكل عام. إزاء ذلك كله كان يوم وفاته نعياً لأهل السُّودان قاطبة، داخل البلاد وخارجها، وتنبئك بذلك سُرادقات المآتم التي نُصبت من أجله بواسطة جميع المجتمعات في السُّودان الجديد، واحتفاءات الجاليات السُّودانيَّة في دول المهجر.
إنَّه لمن المشقة الشاقة أن نحصر أفضال المعلِّم أولاً، والمناضل ثانياً، القائد يوسف كوَّة مكِّي في هذا المنبر الذي لا يكاد زمنه يتعدَّى الدقائق المعدودات. بيد أنَّنا نشرنا سيرته ومسيرته في سفر ضخم يحمل عنوان “في المشكل السُّوداني.. عثرات ومآلات بروتوكول جنوب كردفان والنيل الأزرق” الصادر في لندن العام 2015م، وكذلك في كتاب آخر باسم “جبال النُّوبة والسلطة في السُّودان.. الإقصاء السياسي والتطهير العرقي” الصادر في دار المصوَّرات للنشر والطباعة والتوزيع بالخرطوم العام 2020م. علاوة على ذلك، تجدر بنا الإشارة إلى القول بأنَّ يوسفاً اهتمَّ بتعليم المرأة ومشاركتها في العمل السياسي، والعلو من قيم وثقافة النُّوبة، ودعا إلى الاهتمام بالعادات والتقاليد، ومحاربة ما هو طالح منها، وحثَّ على الاعتداد بالنفس، وطلب الحقوق أيَّاً كان نوعها، والتضحية من أجل نيلها.
وقد فعل الرِّفاق في المنطق المحرَّرة خيراً في أنَّهم خلَّدوا اسم القائد الشهيد يوسف كوَّة مكِّي على بعض الصروح والبنى الحيويَّة – فعلى سبيل المثال – معهد يوسف كوَّة لتدريب المعلِّمين في كاودا، ومعهد يوسف كوَّة مكِّي لتدريب وتأهيل المعلمين فرع كاودا لتعليم اللغة الإنجليزيَّة بالمنطقة الشرقيَّة، ومعهد يوسف كوَّة مكِّي بمنطقة جلد، وكذلك تخلَّد اسمه عددٌ من القاعات في السُّودان الجديد.

في الختام أشكركم على حسن الاستماع

ودمتم ذخراً للسُّودان الجديد، وعاشت الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان – شمال
الأحد، 2 نيسان (أبريل) 2023م
المملكة المتحدة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.