هل سيحقِّق معارضو الحركة الشعبيَّة من “أبناء النُّوبة” بالخارج ما لم يتحقَّق؟ (الحلقة الثالثة)
الدكتور قندول إبراهيم قندول
نداء ورجاء: إلى جميع قراء مقالاتي الكرام:
ربما قرأتم ما كتبه الأخ “ناصر جانو” في رده على ما كتبته تعليقاً على بيانه ومجموعته، وما رشح منه من سب وشتم لشخصي بدلاً عن المنطق السليم والحجة الواضحة لما ورد مني. أرجو منكم ألا تعيروا الأمر اهتمامكم، وسوف لن أرد عليه مهما قال في الغرف المغلقة الخاصة وفي اجتماعاتهم، وكتب في القروبات الحصريَّة أو المفتوحة والمتاحة. إنَّ ما كتبه لن يثنيني أبداً عن مواصلة النضال بالكلمة ونشر الوعي بما استطيع بين الناس، وإن حينا سنحيا على بينة في قول الحق. وكما أعدكم بمواصلة ما بدأته من تفنيد البيان الممهور باسمه، ومن حين لآخر قد أذكر اسمه، بحكم الضرورة. هذا ما لزم توضيحه. فإلى الحلقة الثالثة من سلسلة تحليلي.
بدأ “ناصر جانو” ومجموعته هجومهم على القائد عبد العزيز آدم الحلو بنقل ما كتبه الشاعر الأديب المسرحي وليم شكسبير تحت عنوان “إنَّ في الدنيا عجائب!”. وقد جاء الاقتباس غير المباشر كالآتي: “يموت الجبناء مرات عديدة قبل موتهم، والشجاع لا يتذوَّق الموت إلا مرة واحدة.” تعتبر المقولة، في حد ذاتها، رداً من “جوليوس قيصر” لزوجته التي حاولت تثنيته عن مغادرة المنزل لأنَّ “بروتوس” وآخرون كانوا يأتمرون لقتله. والرد من أروع ما كُتِبَ عن الشجاعة والتضحية (عكس ما فهمه ناصر)، فأفرغه تماماً من محتواه ومعناه في بيانه النقدي، إذ في سياق الاقتباس وصف مباشر بالجبن لمن يسمونه “عبد العزيز آدم أبكر هارون (الحلو)، وهم يقصدون بالضرورة أنصاره من جماهير وأعضاء الحركة الشعبيَّة.
ودون الخوض في التاريخ القديم للسُّودان وللنُّوبة عامة، مرَّ على جبال النُّوبة رجالّ شجعانٌ حقاً، مثل الأب فيليب عباس غبوش من جبال أما (النيمانج)، ويوسف كوة مكي، من جبال ميري؛ وعبد العزيز آدم الحلو من الفيض أم عبد الله بالجبال الشرقيَّة، وبالطبع كان معهم وخلفهم رجالٌ ونساءٌ من كل مناطق جبال النُّوبة والسُّودان لا نستطيع ذكرهم جميعاً. ومن قبلهم كان الأحرار مثل البطل علي عبد اللطيف، من ليما بجبال ميري أيضاً، وأصحابه الذين خلَّدوا نضال النُّوبة؛ والمك الفكي علي الميراوي من جبال ميري، والسلطان عجبنا أروجا وابنته مندي من جبال أما (النيمانج)، والمك القديل من تُقوي، والمك كوبانقو من جبال اللافوفا، والمك خير الله وبعض مكوك القبيلة بجبال تيرا الأخضر، والمك بوش بجبال قدير، والمك الزئبق من جبال رشاد. وغير هؤلاء كُثُر من ثوار النُّوبة الأفذاذ في جميع مناطق الجبال وفي أزمنة مختلفة. هكذا التقى جيل البطولات بجيل التضحيات، إذ لم يكن من بين هؤلاء أو خلفهم رجلٌ جبان، ولا متخاذل لوطنه وقضايا أهله، ولم يهرب واحدٌ منهم يوماً من ميدان القتال، إلا متحيِّزاً إليه.
وعلى الرغم من ذلك كله، ظلمهم كتبة تاريخ السُّودان بعدم إبراز دورهم الوطني والقومي؛ وعلى سيرتهم سار أحفادهم السابقون والحاليون ولم يتوقَّفوا أو يهنوا. فالذين اختاروا العمل بالقوات النظاميَّة السُّودانيَّة بتشكيلاتها المختلفة، دافعوا عن وطنهم الوحيد بالسلاح. أما الذين شقوا طريق العلم والتعليم، فاستخدموا الكلمة والقلم. والذين امتهنوا العمل في الخدمة المدنيَّة التي خرَّبها المخرِّبون، عملوا فيها بأمانة وشفافية وإخلاص. نعم، لم يتحجَّجوا أو يتحاجوا لعدم إيفائهم حقهم، ولم يكترثوا لعدم رؤية أنفسهم في مرآة هذا البلد المعطوب.
محاولة وصف القائد عبد العزيز آدم الحلو بالجبن أمرٌ غريب، لأنَّه شخصيّاً قاد وخاض الحرب ببسالة في كل الجبهات التي عملت فيها الحركة الشعبيَّة دون. فعمل في جنوب السُّودان، والنيل الأزرق، وشرق السُّودان، ودارفور، وجبال النُّوبة. وفي يوم افتتاح المفاوضات بين الحركة الشعبيَّة وحكومة السُّودان الانتقاليَّة، أشاد بشجاعته الجنرال سلفاكير ميارديت، رئيس جمهورية جنوب السُّودان. قد يكون ل “ناصر جانو” ومجموعته تبرير بما أقبح من الجريرة نفسها، إذا قالوا أنَّ المقصود هو الحلو فقط لأنَّه، “مُسلاتي” غير نوباوي. ولكن ما فات عليهم أنَّ العبرة ليست في الانتماء للنُّوبة بالدم، وليس الانتماء مقياساً لتحمُّل مسئولية الوقوف مع القضية الجوهريَّة العادلة. فأصالة عبد العزيز آدم الحلو النُّوباويَّة أكثر من كثيرين ممن يدَّعون تلك الأصالة، سواء أكانوا داخل السُّودان أو خارجه، وبغض النظر عن تأييدهم أو معارضتهم له، فإنَّ دوافعهم في مسلكهم ذاك هي الكراهيَّة والعنصريَّة المقيتة، ربما لأسباب شخصيَّة بحتة لا علاقة لها بقضية النُّوبة أو المهمَّشين. وسياق الاقتباس قصد منه الكل وليس الجزء، بدليل الجمع في “جبناء” والفعل “يموت” أو “يموتون، كما ورد في كلام شكسبير الأصلي. ومضمون الاقتباس جاء على نسق، ومتمشيَّاً مع قول أحد شعراء العرب في تأثُّر الأبناء بسلوك والدهم حينما قال: “إذا كان ربُ البيت بالدف ضاربٌ فشيمة أهل البيت الرقص”. وتعتبر هذه نبزة لكل مؤسسات الحركة الشعبيَّة -شمال، ومنسوبيها من قادة عسكريين ومدنيين والجماهير الكثيرة في جميع أنحاء السُّودان. فلماذا يتقاصر من له خصومة شخصية مع عبد العزيز آدم الحلو عن مواجهته ليفشي غبينته وظلمه فيه بعيداً من التستر وراء الحركة الشعبيَّة وباسم النُّوبة؟ فليس كل النُّوبة أعضاء في الحركة الشعبيَّة وليس كلهم أعداء لها، كما ذكرنا في مستهل الحلقة الثانية. فحال الذين يبغضونه يشفق، ويذكِّرنا بالمثل السُّوداني القائل: “عينو في الفيل وبيطعن في ضلو”.
عن الجبن الذي استلهمت وسمت به روح “ناصر جانو” كما ذكر هو، سوف لن نتهم به احداً ولن نصفه بالخذلان، لأنَّه قد ترك وانسلخ من الحركة الشعبيَّة وذهب إلى حيث يريد لقناعات شخصيَّة، ولكنا بالتأكيد سنكون ضد كل من يحاول الإساءة لتنظيم الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان شمال بقيادة عبد العزيز آدم الحلو، أو لأي عضو فيها مهما كان موقعه أو رتبته، حتى يُثبت لنا اختراقه للحركة والعمل ضدها وتخريب مشروعها الكبير، أي الحد الأعلى لتحقيق السُّودان الجديد. عبد العزيز آدم الحلو، فرد وقد يغادر قيادة الحركة لأي سبب، حينه سندافع عن أي شخص نوباوي أو غيره يحل محله، وسار على طريق الحركة بنفس الخطى الثابتة والمسئوليَّة، وإلا سنقوم عليه ولن يسلم من نقدنا له إذا انزوى عن القضية. نعم، نقبل ونرحِّب بالنقد الذاتي البناء من الأعضاء الحقيقيين في الحركة، وهو ما يجرى الآن داخلها كجسم مؤسسي وديمقراطي. وكما ذكرنا في مقالنا الأول، إنَّ تزامن الهجوم على الحركة الشعبيَّة من غير أعضائها، أو من يدَّعون ذلك، دون أن يكون لهم صوت ضد أية من المكونات السياسيَّة أو الأفراد الذين يتماهون مع أنظمة الخرطوم الظالمة، غير مقبول.
لا شك أنَّ “ناصر جانو” ومجموعته (وآخرين) يعلمون علم اليقين الجبناء الذين هربوا من أرض المعركة في جبال النُّوبة أو أي موقع آخر من مواقع النضال في داخل السُّودان وخارجه بعدة حجج غير مقنعة، ويعلمون أيضاً من تعاون مع العدو من قادة ميدانيين وأفراد. وبنفس القدر، يعلمون الذين جنحوا إلى ترك الكفاح المسلَّح في مؤتمر الحركة الشعبيَّة في تسعينيات القرن الماضي (١٩٩٢م) للاختيار بين أمرين لا ثالث لهما: الاستسلام لحكومة الإنقاذ الإسلاموعروبيَّة أو مواصلة الحرب ضدها. المؤتمر الذي اشتكى فيه بعض الرجال بأنَّ “العُري” كشف عورتهم، وأنَّ انعدام “ملح” الطعام أضرَّ بصحتهم، وأنَّ الجوع والأمراض فتكت بالأطفال والنساء والعجزة، وغير ذلك من الحجج الواهية. إلا أنَّ صوت المرأة النُّوباويَّة كان الأقوى والأعلى بأنَّه لا بد من مواصلة النضال، وأنَّهن سيقودن النضال إذا خاف وتقاعس الرجال أو “فتروا من الحرب” كما جاء في مداخلة رئيسة اتحاد تُلشي أي كتُلسي في ذاك المؤتمر. عجباً، ما درى أولئك أنَّ الأثافي، الجهل والمرض والجوع، لا تزال تفتك بأهلهم إلى اليوم حتى في المناطق التي تقع تحت سيطرة الحكومة.
أما الذين لم يرضوا بمواصلة الحرب، قد هرول بعضهم إلى الخرطوم، بقناعات زائفة تستند على فرية عدم جدية الكفاح المسلَّح. فماذا نالوا؟ لا شيء؛ وماذا حصد النُّوبة من هرولتهم؟ لا شيء أيضاً. “الحال ياهو نفس الحال”، توالى الانسلاخ من الحركة الشعبيَّة عندما سال لُعاب الوظيفة لما حظى بعض المنسلخين بها، فلم يجلب وضع “السلاح المتخيَّل” سلاماً منذ عهد الصادق المهدي (اللي ما جاب سلام) ولا عمر البشير (الرقَّاص والكضَّاب)، ولا عبد الفتاح البرهان (اللهفان). وبعد كل هذا سمعنا بعض الناس يتحدَّثون عن سلام جوبا في المنابر ويروِّجون أنَّه أسكت صوت البندقية، مع أنَّه في الحقيقة لم يقف في أرض الواقع إذ يموت السُّودانيون يوميَّاً بإطلاق رصاص سلاح الدولة وأعوانها عليهم، وما أكثر الأموات من إثنية النُّوبة في مناطق سيطرة الحكومة، والأبواق والانتهازيين، كما يسمينا “ناصر جانو”، صامتة كالأصنام. مجمل القول، لا ندري كيف وما ما هي حالة جبال النُّوبة إذا انخدعت الحركة الشعبيَّة وجيشها بقيادة الحلو، بنداءات هؤلاء ومكر الحكومة؟ أليست الحركة الشعبيَّة هي الحامية والحماية الوحيدة لأراضي النُّوبة تحت سيطرتها؟ بلى!
وبعد كل ما ذكرناه من حال “بعض” أبناء النُّوبة في هذه الحلقة، إنَّه من الانصاف والحق نقول: إنَّ أعداداً كبيرة منهم غادرت السُّودان، مثلما فعل السُّودانيون. فمنهم من خرج قبل وبعد الإنقاذ طلباً للعلم في أرض الله الواسعة، ومنهم من خرج لأسباب اقتصاديَّة، مثل المغتربون في دول الخليج والعراق وليبيا وغيرها، وثلة ممن فاز بقرعة الإقامة الدائمة في الولايات المتحدة الأمريكيَّة. لظروف مرحليَّة معينة انضموا وتنقَّلوا بين أحزاب وأجسام سياسيَّة وفكريَّة شتى، وبقي آخرون غير مهتمين بشيء ما داموا مرتاحين نفسيَّاً وظاهريَّاً. وهناك المؤلفة قلوبهم مع الظالمين. وثَمَّة فئة ابتعثت للعمل بواسطة حكومات الأمر الواقع في الأمن الخارجي بحسب وظيفتهم، ومجموعة آثرت العمالة والارتزاق، وهؤلاء يصعب كشفهم وهم الأكثر خطورة على مصالح كل الشعب السُّوداني.
بيد أنَّ أكثر الذين خرجوا من أبناء النُّوبة كانوا من طالبي اللجوء السياسي خوفاً على حياتهم، كما زعموا. وفي ذلكم مضوا سيراً على الأقدام من السُّودان إلى دول الجوار الأفريقي، ومنهم من سار بقدميه من دولة إلى أخرى (نعرف بعضهم، كما حكوا لنا!)، والبعض الآخر بغير ذلك، إذ منهم من ركب أمواج البحر الهائجة على سفن مصنَّعة بطرق بدائيَّة أو بأنابيب هوائيَّة إلى أوروبا، دفعوا لها الغالي والنفيس. فبعضهم قطع البحر بصعوبة وجلد والآخر قضى، لهم الرحمة. علاوة على كل ذلك، لقد علَّلوا خوفهم في مستنداتهم بالتهديد المباشر لحياتهم بسبب معارضتهم للنظام القائم الذي مارس التفرقة العنصريَّة ضدهم بحكم الانتماء لإثنية النُّوبة، أو لاعتقادهم في دين غير الإسلام، بمعنى الاضطهاد الديني. ولعمري، لم تُذكر حالة واحدة في تقديم تلك الطلبات أنَّ الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان هي سبب معاناتهم وخروجهم من السُّودان. لا بقيادة الدكتور جون قرنق أو يوسف كوة مكي (في حياتهما) أو سلفاكير قبل انفصال الجنوب، أو مالك عقار إير، رئيس الحركة قطاع الشمال (سابقاً)، بعد الانفصال، أو عبد العزيز آدم الحلو الآن. ولكن لما ذهب عنهم الخوف وقوي ساعدهم رموا الحركة الشعبيَّة بألسن حداد وحق عليهم قوله تعالى: “فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير، أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم (الأحزاب/١٩) ….. نواصل.