في الوفاء للأستاذ أندل النُّوبي (3 من 3)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
[email protected]
إنَّنا لا نخشى القول بأنَّنا لا نفهم اليوم بيت شعر من الإلياذة والأوديسا للشاعر الملحمي الإغريقي هوميروس، والكوميديا الإلهيَّة للشاعر الملحمي الإيطالي دانتي أليغييري (1265-1321م)، أو الفردوس المفقود للشاعر الإنجليزي جون ميلتون (1608-1674م)، وذلك بالمعنى الذي أرادوه في الأصل. إنَّ الحياة في تبدُّل مستمر، وحياة أفكارنا في تغيُّر غير مستقر، وسيعجب النَّاس منا ما هو غريب عنا. أجل، معاني الكلمات تتغيَّر بتغيُّر الأجيال كلما ظهر جيل جديد بمصطلحاته. فقد ذكر أستاذ علوم اللسان العربي بجامعة الجزائر المركزيَّة الدكتور سالم علوي في تأليفه الموسوم “شجاعة العربيَّة: أبحاث ودروس في فقه اللغة” الصادر العام 2006م أنَّ ألفاظ اللغة أي لغة يعتريها ما يعتري الكائن الحي من تغيُّر وتغيير، وزيادة ونقصان، ومرض وصحة، وحياة وموت، برغم من أنَّ ليس لها ذات ولا وزن ولا لون، وهي مسموعة بالآذان، موصوفة بالألسن غير منظور إليها. وفي ذاك كله نتيجة لما يطرأ عليها من الاستعمالات المختلفة للمجتمعات المتنامية والمتباينة، والخاضعة للحاجات المتولِّدة لإشباع أغراض ورغائب البشر، وأعرافهم ومعاملاتهم، وهواجسهم الدينيَّة والدنيويَّة غير المتناهية في ظاهرة اجتماعيَّة تزدهر بازدهار فنون القول.
لا مراء في أنَّ المنظور الدلالي للألفاظ تحكُّمي، فقد تكون دلالة لفظ ما في أعلى عليين، ثمَّ يصيبها التحوُّل والتغيُّر إلى أسوأ الدلالات، ولنا مثل فيما نقول في لفظ “الجرثومة”. فالجرثومة في وضعها اللغوي تدل على أصل الشيء كما جاء في فقه اللغة لأبي منصور الثعالبي النيسابوري (961-1038م)، وقد تحوَّلت من دلالتها الأساسيَّة التي تعني الأصل والنَّسب إلى العاهة المزمنة، وغدت مصطلحاً طبيَّاً يدل على الميكروب (Microbe). ومن الألفاظ التي اكتسبت دلالة التوسُّع والارتقاء لفظ “المسرح”، الذي كان يعني مرعى الإبل والغنم والخيل والبغال والحمير، وغيرها من الأنعام، لكن دلالتها شاعت وارتفعت إلى ذي مستوى عالٍ، له قوانينه الخاصة، ومناهجه الخاصة، واختصَّ به أقوام من الكتَّاب المختصين. وما مصطلح “الفنان” بأقلَّ تطوُّراً من مصطلح “المسرح”، فقد كان يُطلق على الحمار الوحشي لتفنُّنه في العدو؛ لكن دلالته المتداولة اليوم تعني صاحب الموهبة الفنيَّة؛ كالشاعر والكاتب والموسيقي والمصوِّر والممثِّل، وغير هؤلاء مما يُطلق عليه مصطلح “المبدع”. هكذا يمكن أن تتغيَّر اللغة أي لغة، وتتحوَّل من أعلى إلى أسفل، أو من أسفل إلى أعلى، أو من الانكماش إلى الازدهار أو العكس، وبالاختصار التحوُّل من حال إلى حال، أو الثبات والدوام.
أيَّاً كان من أمر اللغة، فقد كان الأستاذ أندل صارماً في الأوامر والنواهي، والفروض والواجبات، التي لا طائل تحتها أو فوقها، والالتزامات التي بلغت في الشدَّة غاية لا غاية بعدها، لكنها كانت مبجَّلة ومحترمة، لا تُنفَّذ بجدل أو اعتراض أو تمحيص، بل إنَّك لا تخالفها، وإلا تعرَّضت لأشد التقريع، والعقاب المروِّع. فلا سبيل إلى الشك في أنَّ طلابه، الذين سموا يوماً فوق عوالمهم، وبلغوا إلى تبيان وتبيين معرفة ذواتهم، ومعرفة تجارب الذين حولهم، حتى أيقنوا أنَّ الذي كان يشتد فيه عليهم الأستاذ أندل، ويلحُّ عليهم في طلبه إلحاحاً ليس بقليل من أضراب العلوم والمعارف، ما كان إلا لمصالحهم الآجلة في الحياة الدنيا لئن هم أرادوا ارتياد دروب السعادة والرفاه في المستقبل.
علاوة على ذلك، فقد علمنا حينذاك أنَّ الأستاذ أندل كان مصارعاً بارعاً لا يشق له غبار، وهو الذي ينتمي إلى قرية سلارا، حيث موطن “بلَّوُور.. عملاق سلارا”، أي تلك الشخصيَّة الأسطوريَّة التي كتب عنها صديقنا الأديب الألمعي محمود موسى تاور بشيء من التشويق شديد. وتمتاز منطقة سلارا عامة، وتُنديَّة ومناطق قبيل الأما الأخرى خاصة بمصارعين شداد غلاظ، حيث أوتوا بفضل الله بسطة في الحجم والجسم، ولا يضاهيهم في الحجوم والجسوم إلا مصارعي قبيل الكورنقو. فهل أذكِّركم بما عرفناهم في ذلك الرَّدح من الزمان من المصارعين الأفذاذ في جولاتهم وصولاتهم في الاحتفالات الطقسية (سبر النِّتل مثالا)، حيث كنا نشاهد مصارعة الكبار في ساحة الأسبار! فهناك إخوان قاو (سبت وعيسى وعبد الباقي)، وإبراهيم سبع جبال، وإدريس حجر. وهل أذكِّركم كذلك بشخصيَّة عبَّاس عقرب في السبعينيَّات من القرن العشرين المنقضي، وهو الذي يتحدَّر من جبال أما الثمانية، والجبل دلالة على المنطقة، وهذه المناطق هي: سلارا وتُنديَّة وكلارا وكُرمني والنِّتل وككرة والفوس وحجر سلطان (عجبنا)؛ وعبَّاس عقرب هو الذي سُمِّي عليه ميدان عقرب بالخرطوم بحري، وفي أمره ذاك حكاية أخرى! > Ahmed Khatir: أما بعد فها أنذا نسطِّر هذه الكلمات القليلات في حق من كان له الفضل المستعظم في أن نشق طريقنا إلى منابر العلم والتعليم. فكم من أنامل سطَّرت كلمات في حق مَنْ نعجز أن نرد لهم الجميل، ولو القليل! وكم من معلِّم جاهد في سبيل العلم والتعليم، حتى يصبح من الأجيال من كان له شأن في البناء والعمران، وتنمية المجتمع! إنَّ المعلِّم للشعوب لحياتها ودليلها وعطاؤها المتفاني. فمَنْ منَّا لا يدري بأنَّ بالمعلِّم تشرق الحياة، وبه نستبشر المستقبل. أفليس من الحق أن نقول شكراً لمعلِّمنا أندل النُّوبي كنقر سالمون من قلوبنا برغم من أنَّ كل عبارات الشكر والامتنان لا يمكن أن تعبِّر عن مدى تقديرنا وتوقيرنا واحترامنا له، وكذا الشكر موجه من أعماق قلوبنا لجميع الأساتيذ الذين كانوا سبباً في تعليمنا، ومحبتنا للعلم، والذين كانوا سبباً في وصولنا إلى هذه الأماكن التي نحن فيها الآن، فلولاهم لما عرفنا معنى النجاح، وسر الفلاح.