قراءة متأنية في خطابات جنرالات السُّودان … لا حل للأزمة السُّودانيَّة
الدكتور قندول إبراهيم قندول
[email protected]
ما زال إيماننا ثابتاً وموقفنا هو نفسه، لم يسقط نظام الإنقاذ. وما يعضد موقفنا هو بيان الفريق أول (ركن) عوض عبد الرحمن ابنعوف أنَّه واللجنة الأمنيَّة العليا لنظام الانقاذ قد استولوا على السلطة وأودعوا الرئيس المخلوع البشير وبعض رموز نظامه في مكان آمن. لا غضاضة في أنَّهم وضعوه في مكان آمن فهذا من صميم وظيفتهم الأمنيَّة، وهي تأمين وسلامة رجال الدولة. الثورة التي أشعل شرارتها تلاميذ مرحلة الأساس بمدينة الدمازين بجنوب ولاية النيل الأزرق في ١٣ ديسمبر ٢٠١٨م كانت مكتملة الأركان ومستوفيَّة الشروط إلا أنَّها افتقرت إلى تطبيق مفهوم الشرعيَّة الثوريَّة الذي كتب عنه الكتاب، فذابت ولم تعد ثورة بعد ذلك بالمفهوم الصحيح لها.
لا غرابة في عدم تطبيق تلك الشرعيَّة، لأنَّ الذين قاموا من الجيش بالاستيلاء على السلطة والاحتفاظ بها وحمايتها هم أصلاً سدنة (خدام) النظام الذي ثار عليه الشعب المقهور، والقادة المدنيين الذين اختطفوا الثورة هم أبناؤهم أو بالأصح والأحرى ورثة الامتيازات التأريخيَّة. نعم، سرق هؤلاء وأولئك ثورة تلاميذ الدمازين النائيَّة وأفرغوها تماماً من حقها التاريخي (١٣ ديسمبر ٢٠١٨م) ومن محتواها، وسُميت، جوراً وزوراً، ثورة ١٩ ديسمبر، ومن حقها المكاني إلى مدينتي عطبرة والخرطوم. لا ننكر أدوار مدينة الحديد والنار (عطبرة) في قيادة كل ثورات السُّودان بتلاحم عمالها مع الحراك الثوري، ولا دور الخرطوم كونها العاصمة القوميَّة التي تلتقي فيها شعوبه المختلفة بما فيهم الرئيس (أي رئيس) وزبانيته ورموزه المقرَّبون صنَّاع القرارات، الخاطئة (وهي كثيرة) والصائبة على قلتها.
هذه المقدِّمة مهمة وضروريَّة لدحض ما يقوم به البرهان، كرأس الدولة السُّودانيَّة والسذج أي المفتقرون للحكمة والحنكة والتعلُّم من دروس الماضي وتجارب الحياة، فضلاً عن أنَّ ذاكرة الشعب السُّوداني لا تختزن أخطاء حكامهم مهما كبُرت وتجاوزت حد التحمُّل، بل وحتى الموت. ما أثار حفيظتنا لكتابة هذا المقال هو خطابات الجنرالات الثلاثة: البرهان والكباشي وحميدتي، من حيث ظرف المكان والزمان وما علاقة تلك الخُطب بالراهن السياسي الداخلي والخارجي، وردود أفعال السُّودانيين عليها في الوسائط.
فلنبدأ بخطاب الجنرال الكباشي الذي اختار مدينة كادقلي بولاية جنوب كردفان في يوم ٥/٢/٢٠٢٣، لإلقاء خطابه حيث شدَّد على ضرورة وحتميَّة دمج قوات الدعم السريع في الجيش السُّوداني، وزاد بأنَّ المؤسسة العسكريَّة لن تحمي دستوراً متفق عليه بعشرة أحزاب منبهاً أنَّ العدد الموقِّع على الاتفاق الإطاري غير كافي ولا بد من اصطحاب عدداً أكبر. هذا الخطاب يدل على تنصُّلهم كقادة عن الاتفاق وأنَّ المؤسسة العسكريَّة لن تبرح ممارسة السياسة رغم تأكيدات قادتها لأنَّهم يرون أنَّ ركن مهم، بالنسبة لهم خارج الاتفاق ألا هو حزب المؤتمر الوطني أو لنقل الحركة الإسلاميَّة. وهذا بالطبع غير صحيح لأنَّهم أعضاء فاعلين في المؤتمر الوطني وهناك عضوية كبيرة مخترقة الأجسام الموقِّعة، فضلاً تحكم قادة في تسيير دولاب الدولة، خاصة بعد انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١م.
أما الجنرال عبد الفتاح البرهان فقد ألقى خطابه في منطقة “الزاكياب” بولاية نهر النيل (شمال السُّودان) في ١٦/٢/٢٠٢٣م. لم يأت البرهان بجديد، غير قديم أقواله، وإشاراته بصباته إلى مستمعيه ليحيش فيهم الحماس والحمية. ففي الخطاب تأكيد المؤكَّد وهو انقلابه على الاتفاق الإطاري. وما يعضد ذلك أنَّه رهن تنفيذ الاتفاق بدمج قوات الدعم السريع في الجيش، مضيفاً: “ليست هناك أية قوة تسطيع هزيمة الجيش السُّوداني”. هذا كلام اعتراضي وإنشائي للاستهلاك لأنَّه يدرك تماماً (وجيشه كذلك) أنَّ أراضيٍ سودانيَّة محتلة الآن، ولم ولن يحرك ساكناً لإعادتها لحضن الوطن ولسيادته (والتي هو رئيس مجلسها بحجج واهية.
يأتي دور الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) ليظهر في الساحة السياسيَّة مرتين في أقل من أسبوع. الظهور الأول في زيارته إلى ولاية جنوب دارفور بالتزامن مع زيارة البرهان إلى الشماليَّة (١٦/٢/٢٠٢٣م)، أما الظهور الثاني يوم ١٩/٢/٢٠٢٣م. قراءة خطاب حميدتي بتأني توضِّح أنَّه كُتِب بعناية فائقة وبأسوب مؤثِّر توخى كاتبه اختيار الكلمات والعبارات الدقيقة حتى كانت قراءة وإلقاء الخطاب صعباً على حميدتي نفسه. ولعلَّ كاتب الخطاب نأى عن الخوض في الماضي أو الحاضر القريب لجرائم حميدتي وركَّز على الانقلاب والضائقة الاقتصاديَّة ليعلن فقط عن ندم حميدتي على انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١م كحدث مهم في حياته “العسكريَّة” والسياسيَّة بعد ١٦ شهراً من حدوثه. فيا ترى ماذا فعل حميدتي خلال تلك الفترة حتى ١٩/٢/٢٠٢٣م!
الندم الذي أعلنه حميدتي يثير عدة تساؤلات منها: لماذا لم يندم على جميع انتهاكاته في حق الشعب السُّوداني عامة، بعد تورُّطه في فض الاعتصام وما بعده؟ لماذا لم يندم على أفعاله في دارفور ويعتذر لأهلها عن ضحايا القتل، واغتصاب النساء، وحرق القرى واستباح أراضيهم؟ ثم كيف يُصدِّق إنسانٌ سوي ويأمن، خاصة النُّوبة، شر هذا الرجل الذي أمر قواته بالقضاء على بني جلدتهم؟ أليس هو مَن عزم على فتح الطريق لربيبه عمر البشير ليصلي “صلاة الجمعة” في مدينة “كاودا”، عاصمة نضال وصمود النُّوبة. فلو لا صلابة وقوة رجال الجيش الشعبي لتحرير السُّودان-بقيادة القائد عبد العزيز آدم الحلو، لوقعت الواقعة ورُجَّت الجبال رجَّاً.
وأغلبنا (إن لم يكن جميعنا) يعلم أنَّ بعد ما تُسمى، كذباً، بثورة ١٩ ديسمبر، اتبع حميدتي سياسة ناعمة أخرى، بدلاً عن الأرض المحروقة، ليريح العالم من النُّوبة، فكانت معارك أبناء النُّوبة وقواته في “خور الورل” وفي مناطق أخرى كثيرة من جبال النُّوبة تحت سيطرة حكومة الظلم في الخرطوم. فكان احتلاله لمدينة الياواك (لقاوة) في أكتوبر عام ٢٠٢٢م واحداً من محاولاته العديدة لنقل ما تم في دارفور إلى جبال النُّوبة. أليس حميدتي مَن قام بحشد ما يسمون أنفسهم ب “أمراء” النُّوبة في قاعة الصداقة بالخرطوم ليقلي عليهم درساً في الوطنيَّة الزائفة ويخطب بعنصريَّة نتنة متسائلاً “مَن، ولماذا فُتحت الكباري للنُّوبة لموكبهم ومسيرتهم الاحتجاجيَّة على اجتياح قواته لمدينة الياواك (لقاوة) يومذاك وجيش البرهان والكباشي، أو على الأصح جيش ثلاثتهم، يتفرَّج أو قل يتلذَّذ بما يحدث للنُّوبة من ميليشيات حميدتي (لقد كتبنا في هذا الموضوع ما فيه الكفاية). لم يكتف حميدتي بخطاب الكراهية، بل قام بتوزيع سيارات فارهة لهم لاستقطابهم.
ومهما يكن، جرائم حميدتي ضد النُّوبة بواسطة ميليشياته لا تُحصى، ولكنه لم يندم عليها ولم يعتذر عنها للنُّوبة لذلك لا يأمنون شره لمجرَّد إعلانه الندم على انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢٢م؟ على أية، على مَن كان الانقلاب؟ هذا سؤال مهم، والإجابة عنه مهمة للغاية. إنَّ حميدتي وبعض لاعبين كُثُر لا يريدون خيراً لإنسان إقليم جبال النُّوبة. فعندما نقول إنسان جبال النُّوبة فإنَّنا نقصد كل مكونات الإقليم دون تمييز. فمكونات الإقليم الأخرى المقصودة هم، “البقارة”، و”البرقو”، و”البرقو” و”الفلاتة” (الفولاني)، و”الهوسا” و”الفور” و”المساليت”، “الجلابة؛ وغيرهم من الإثنيات التي لم نتمكَّن من ذكر اسمها، وإن كان المكِّون النوباوي أكثر ضرراً. إثارة قضايا جبال النُّوبة هنا مهمة جداً لأنَّ كثيراً من الأحايين ما يسكت عنها المدوِّنون وكأنَّها لم تكن.
الملاحظة المهمة لهذه الزيارات أنَّ كل الجنرالات الثلاثة لجأوا إلى الجهة التي أتوا منها إلى الخرطوم لبيع بضاعتهم الخاسرة. رهن البرهان والكباشي في لقائهما مع أهلهما إنفاذ الاتفاق الإطاري، ليس فقط بدمج قوات الدعم السريع في الجيش، بل ضرورة ضم عدد أكبر من الأحزاب السياسيَّة إلى الاتفاق! بينما أظهر حميدتي دعمه ووقوفه مع الاتفاق الإطاري دون. ففي لقاءات سابقة في أغسطس ٢٠١٩م أكَّد حميدتي انضمام قواته للجيش. وفي لقاء تلفزيوني “أجنبي” الأسبوع الماضي مع البرهان، أكَّد أنَّ الجيش وقوات الدعم السريع منظومة واحدة لدرجة أنَّ تسليح الأخير لا يتم إلا من خلال القنوات العسكريَّة التابعة للجيش السُّوداني. إذن، لماذا الزوبعة في هذا الشأن؟
الرجال الثلاثة متفقون تماماً ولا خلاف بينهم وكلهم ربيب الحركة الإسلاميَّة مهما تظاهروا بأنَّهم مختلفون. فهم حماة مصالحها وكل تحركاتهم تأتي بإيعاز وخطط منها. وما يقومون به ما هو إلا تبادل للأدوار في مسرحيات مكشوفة. هل يُصدَّق مثلاً أن يذهب الكباشي والبرهان، دون حميدتي، إلى جوبا للتوقيع على مصفوفة زمنيَّة جديدة لإنفاذ اتفاق جوبا للسلام الذي هندَّسه وترأس حميدتي وفد الحكومة أثناء المفاوضات؟ هذه مجرَّد تمثيليات سمجة على نسق ما حدث في ٣٠ يونيو ١٩٨٩م. والبرهان هو الفائز إذ استطاع بالتذاكي كسب الكباشي وحميدتي وكلاهما من الهامش، وضمَن جناحي الحركة الإسلاميَّة الممثلين في شخوص “الفكي” جبريل، و”الفكاهي المرح” أركو مني مناوي، كما يحلو للأوساط السياسيَّة السُّودانيَّة مناداتهما، على التوالي.
ختاماً، لقد شرب الشعب السُّوداني “المقلب” من العسكر يوم التوقيع على الوثيقة الدستوريَّة عام ٢٠١٩م (مشهد حميدتي وهو يرفع الوثيقة بالمقلوب دليلٌ على ذلك). تصريحه بأنَّه لن يسلم السلطة لشخص يسن سكينه ليذبحه، بيِّنة أخرى عليه. فظائع البرهان في دارفور بالاشتراك مع حميدتي قضيَّة في عنقه. فض الاعتصام وبيان الكباشي للعالم بأنَّ المؤسسة العسكريَّة اتخذت قرارها بنظافة مقر القيادة العامة للجيش “فحدث ما حدث” جريمة تلازمه. الجنرالات الثلاث شركاء في الجرائم ليس فقط ضد كل الشعب السُّوداني، بل لخيانتهم للحركة الإسلاميَّة، وهم بذلك مدنين لها فما عليهم إلا سداد الدين وإلا! كل هذه المعطيات توحي بعدم انفراج قريب للأزمة السُّودانيَّة بكل أوجهها، بل ليس هناك حلاً في الأفق ما دام الحركة الإسلاميَّة لا تزال هي الحاكم الفعلي للسُّودان.
1