الوليد مادبو لا يري، لم يقرأ ولا يسمع ولكن – (طال عمره) يقرر! (3-3)
✍🏿: بروفيسور خالد كودى
في المقال السابق قلنا إن الحقوق الأساسية، كحق الناس في الحياة والحرية والإعتقاد لا يجب أن تكون رهنا بقبول أو إجازة أو حتى وعي أيا كان ولأي من الأسباب. والحقوق الأساسية التي لا يجب أن تسلب (Inalienable rights) أو المقايضة بها، أو حجبها وتأجيلها والصمت على تجاوزها لأي من الأسباب وتحت أي من الدعاوى. فأن تطالعنا النخب بأن (العلمانية) والتي تكفل وتضمن الحقوق المتساوية- يجب أن تؤجل إلى حين توعية (المجتمع) أو الجزء من المجتمع الغير واعي بها، فمثل هذه الإدعاءات ما هى إلا محض تحايل وتواطؤ ويجب فضحها.
يتساءل الأمير الدكتور الوليد آدم مادبو ساخرا:
(بالله عليك، ماذا تقدم العلمانية لأصحاب السَعِية والنفوس الرضية الذين يقطنون الجبال أو الوديان؟!)
العلمانية أول ماتقدمه الكرامة يا طويل العمر! فتاريخ غير المسلمين في وطنهم السودان هو تاريخ تعالي النخب الإسلاموعروبية المادي والمعنوي، وهذا التعالي يجب أن يتوقف مرة واحدة وإلى الأبد. فبخروج المستعمر دشنت النخب هوية أحادية دينية وثقافية وعرقية، بنيتها محددات الوعي الآيديولوجى الإسلاموعروبى، ثم عمدت للحفاظ عليها سلما وحربا. وليس سرا أن النخب المسلمة التي حكمت منذ الإستقلال قد إستخدمت جهاز الدولة في فرض الدين الإسلامي وبكل الأسلحة. وللدولة ممثلة في الحكومات المتعاقبة منذ الدكتاتوريات المدنية المسماة زيفا بالديمقراطية والحكومات العسكرية منها والإنتقالية على حد سواء لها تاريخ سيى وموثق في حرق وتدمير الكنائس ودور عبادة معتنقي كريم المعتقدات. وللدولة السودانية تاريخ مقزز من قتل غير المسلمين والمهمشين على أساس العرق والدين والهوية – وقد بلغت وحشية القتل وبهيميته في أغلب الأحيان الرمي بالقساوسة في النار، وحرق الكنائس بمن فيها… والقفل على مئات البني آدمين في عربات قطار مخصصة لشحن البضائع وحرقهم أحياء حتى (يخر زيتهم من رقراق الأبواب الحديدية الموصدة بإحكام) كما حدث في مذبحة الضعين … وهكذا، فغير المسلمين في السودان – في وطنهم، تصنفهم الدولة على أنهم أناس (لا روح لهم!) وأنهم أقل ودون، وبالتالي لا حقوق إنسانية لهم. وقد صممت الدولة سياساتها التعليمية والإعلامية والإقتصادية لتضمن تراتبية إجتماعية تقوم على غمط إنسانية وحقوق وفرص غير المسلمين في كل أوجه الحياة وشن العدوان عليهم متى ما طالبوا بالمساواة. العلمانية ستضمن وقف مثل هذه السياسات والممارسات عبر القوانين المحكمة التي تنعكس على كل سياسات الدولة وخدماتها.
يقرر معالي الأمير الوليد آدم مادبو الآتي:
(الفدرالية ستحقق الإستقلالية للولايات دون داعي للمماحكة أو اللغط. لا داعي إذا ً للمشاكسة والإمعان في الإختلاف بمحاولة خلق إشكالية حول المصطلحات. السؤال: هل لدينا القدرة المؤسسية لضمان الشفافية المالية والكفاءة الإدارية حال تطبيق الفدرالية، أم أننا سنعين “حاكماً عاماً لكل إقليم كي نحقق لبعض الأشخاص أحلامهم الطفولية ونرهق كاهل المواطن بضرائب كي نضمن الرفاهية لهؤلاء المحرومين – عيال الحدادين على حساب الغلابة من السودانيين؟ إن أسطول العربات الذي تملكه حكومة دارفور الوهمية قد لا يكفي لتشييد مدارس ومشافي لأهلنا في المعسكرات لكنّه يؤكد بأن قُطاع الطرق هؤلاء لا يمكن أن يكونوا قادة لأنهم يفتقرون للأهلية الاخلاقية والقدوة الإنسانية).
الملاحظ أن الدكتور في هذا المقال يقفز متعمدا بين وضع دارفور والأراضي المحررة في جبال النوبة، والفونج وفي بعض الأحيان يستخدمهما كتجارب متطابقة! ويعمد إلى إستغلال وضع الحركات الموقعة على إتفاق سلام جوبا ليعممه على (جميع) حركات الكفاح المسلح بما في ذلك الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال! فهل الدكتور لا يعرف أن حركات سلام جوبا غير الحركة الشعبية لتحرير السودان- الحركة التي وجه إليها سهام نقده الساخر في أطروحاتها الأساسية كالعلمانية في مقاله هذا؟
نحن هنا لسنا بصدد تقييم حركات الكفاح المسلح في دارفور خاصة التي وقعت على إتفاق سلام جوبا مع حكومة وأحزاب الخرطوم. فقط نخاطب ما يهمنا في مقال الدكتور.
ولنتمعن في مثل هذا القول: (الفدرالية ستحقق الإستقلالية للولايات دون داعي للمماحكة واللغط. لا داعي إذاً للمشاكسة والإمعان في الإختلاف بمحاولة خلق إشكالية حول المصطلحات). لا أدري من الذي أقنع الوليد أدم مادبو بالإعتقاد وبإطلاق أن الفيدرالية ستحقق ماتريده المجتمعات التي عانت من التهميش نظاما للحكم؟ إن إجترار اللهجة الجازمة والمتسلطة هي ما تعودت عليه النخب، وأن ما يقولونه هو الكلام النهائى والفيصل، ولتجف الأقلام وترفع الصحف! يبدو أن طويل العمر يعتقد أن السودان هو إحدى الدول الخليجية التي تتملك بالعائلات التي تتوارث الحكم فيها، ولأن الدكتور أحد أمراء السودان فبلهجة الأمر لا يريد مماحكات ولا لغط، ولا يريد مشاكسات … وما يقوله يمشي… وخلاص!
لا ياصاح!
السودان اليوم لم يعد، ولن يكون كما كان قبل عام أو عامين أو سبعة وستين عاما! فتراكم الأحداث والوقائع التاريخية لا يمكن محوها من ذاكرة الملايين وتجاربهم أفرادا كانوا أو جماعات، وهذا ما يشكل الخبرة/الذاكرة التي على أساسها يتخذ الناس أفراد ومجتمعات مواقفهم!
ومن وقعت عليهم المظالم تاريخيا لم ينتظروا، بل ثاروا سلما وسلاحا، وعلى ما أنجزته ثورتهم سيبنون. اليوم الثورة والثوار في السودان المحرر وفي مناطق سيطرة الحكومة لا ينتظرون النخب ولا الأمراء ولا الملوك لكي يأتوا بالحلول العبقرية لإنقاذهم من ظلمات أنفسهم! اليوم مواطني السودان المحرر ينتظمون في العملية الديمقراطية، والبيامات والمقاطعات تعقد مؤمراتها القاعدية توطئة لإنعقاد مؤتمرات الأقاليم والمؤتمر العام، ومجالس التحرير تنعقد وتشرع القوانين وتجيز الخطط وفقا للمعايير العلمانية… وبالعكس تماما في مناطق سيطرة الحكومة حيث سيطرة النخب، السودان بأمراءه وملوكه وخبراءه وبعد ٦٧ سنة مما يسمى بإستقلال السودان لا زالوا يتشاكسون في كيفية توزيع الغنائم والإمتيازات بعد أن صمتوا على الجنجويد وتواطؤا معهم عندما كانت جرائمهم في (مكان آخر) فأضافوا خازوقا جديدا إلى خوازيق اللصوص والمجرمين الذين عطلوا بناء وطن يحترم إنسانه!
اليوم في السودان المحرر تحكم الجماهير نفسها بنفسها ديمقراطيا وبسلطة مدنية في أراضي تضاهي مساحتها مساحة دولة بلجيكا! وثوار السودان الجديد يديرون فيها أجهزة تشريعية وقضائية وتنفيذية بكفاءة تتجاوز واقع مناطق سيطرة الحكومة التي لا أجهزة فيها من الأساس للمقاربة! ويحرس السودان الجديد جيش شعبي ليس من مهامه وشيمه ولا تاريخه قتل المواطنين ونهب وإستنزاف موارد وثروات الوطن الإستراتيجية. فهل يعنى الوليد رجوع هؤلاء المناضلين من منتصف الطريق وتسليم الحقوق والمصير والرقاب إلى رموز أكثر الدول فشلا على حد الفدرالية التي تمخضت لتقرر لنا إنها الإجابة و (بس) !؟
اليوم في مناطق سيطرة الحكومة الثورة والثوار يواجهون سدنة السودان القديم ولصوص الثورات والنخب الفاشلة. وإن كانت ثمة قرارات من معاليك بوقف التشاكس فلناذا لا توجهها نحو النخب التي أدمنت الفشل تحديدا، لتلحق أنت وغيرك للتعلم مما أنجزته ثورة الوعى والمفاهيم وثوار السودان الجديد في طريق الديمقراطية والعلمانية واللامركزية؟! لكن أن تصيح هكذا يا طويل العمر، وجدتها وجدتها وجدتها…الفدرالية، والبعض الآخر وجد الدولة الغير منحازة واخر وجد الدولة مدنية وكفى فهذا عبث غير مفيد! التاريخ لا يرجع للوراء ولا يمكنك أو غيرك إعادة إكتشاف العجلة، فمن يعرف ماهية الكرامة ويذوق طعم الحرية و الإستقلال في أرضه وأرض أجداده لا يمكن له الرجوع للوراء، وواقع الأراضي المحررة يؤكد ذلك.
ويقول طويل العمر مادبو:
(الفدرالية الإقتصادية تعني أن لكل ولاية أو إقليم الحق في التصرف في موارد الإقليم بما يحقق مصلحة الأهالي وليس العصابات التي إستولت عليه بوضع اليد (إتفاقية جوبا نموذجاً). الفدرالية الثقافية والسياسية تعني ببساطة أن لكل جماعة الحق في الإحتكام للمنظومة القيمية التي تعنيهم. كان المرحوم أحمد إبراهيم دريج يمازحني يوماً فقال لي: نحن أهلك الفور نشرب مُر ونكتب مر، يعني يشربوا البغو ويكتبوا المحاية. قال لي أحدهم كلام شبيه: لو ناس الشمالية رجعوا لعَرقيهم وخلوا الوصاية على باقي أهل السودان، كان الأمور إستعدلت. يقيني أن ناس الشمالية أنفسهم ضحايا للإستبداد الذي عانى منه بقية أهل السودان. وهذا مثال ثقافي فقط لتصرفات عصابة المافيا، دعك عن التصرفات السياسية والعسكرية).
تريدنا ان نصوم ونفطر علي إقتصاد الريع العشائري آها!؟
اولا، الفيدرالية لم تعد صيغة مناسبة للسودان، وهذا لأسباب عدة، نناقش منها تاريخ نخبه مع عدم الإيفاء بالمواثيق والعهود ونقضها دون إستثناءات. والحركة الشعبية سمت الحكم اللامركزي كأحد المبادئ فوق الدستورية دون تحديد صيغة اللامركزية.
طبيعة النخب التي حكمت السودان ولا تزال تشكل مراكز القوي غير آهلة ولا نية لها لقبول وطن هم ليسوا النافذين فيه. فالنخب لم تتجاوز في تكويناتها الفلسفية والنفسية عقلية الأمراء والملوك والسلاطين، ويريدون إدارة السودان على نموذج ممالك وسلطنات وإمارات دويلات الخليج. فتجارب نخب السودان مع الأقاليم كانت سلسلة من الخداع بالتفويض الشكلي للسلطات للأقاليم – فمن الحكم الإقليمي إلى الحكم المحلي، واليوم يأتى البعض بالفيدرالية، والهدف الاساسي هو السيطرة على الموارد وفقا لتراتبية إجتماعية مع سبق الإصرار، وقد حان وقت الثورة على هذه التصورات وهدمها.
فالإعتقاد بان السلطات في السودان يجب أن تؤول لأصحاب الحظوة بالميلاد (كالملوك والأمراء والسلاطين) وأن هؤلاء النخب مالكين للسودان وما فيه ومن فيه… ولهم كل السلطات والصلاحيات الدستورية ليتصرفوا كما يشاؤون – هذا تاريخ !
كتب الرفيق د. فاروق عثمان في ٢٠٢٠ في عدد من المواقع الإسفيرية عن التراتبية الإجتماعية في السودان:
(هذه التراتبية الإجتماعية العليا، ومن خلال القمع المستمر والطويل أعطت لنفسها حق الإمتياز الدائم والمستمر في الإستئثار بالسلطة والثورة بل حتى التفكير إنابة عن الآخرين والتقرير في شئونهم ومصائرهم دنيا ودين، كل ذلك لأنها تستبطن وعيا عنصريا متعجرفا بأنها الأكثر تميزا و الأعلى تراتبية إجتماعية من أولئك، وهو ما قاد إلى حصولها على هذه الإمتيازات كونها في مرتبة أعلى إجتماعيا وأنقى عرقيا وأسمى ثقافيا وأكثر دينية من أولئك، وهو ذات الترتيب الذي شكل موانع هيكلية للآخرين وحال دون نيل حقوقهم كاملة في بلد هم فيه الأصلاء، ولكيما يستمر هذا الوضع فهي تمارس قمع معنوي راتب لإشعار هذه المجاميع المضطهدة وتذكيرها بأنها الأدنى وعليها التسليم والإقرار بذلك وعدم الخروج من التراتبية المختارة لهم من قبل هؤلاء الصفوة الإشراف الغر الميامين ، وهذا القمع المعنوي يمكنهم من إخضاع الآخر بكسر هيبته وجعل ثقته في نفسه مهزوزة وصاحب شخصية منكسرة ومطيعة، مما يجعله مسلما ومقرا بهكذا وضعية).
والأمير طال عمره، لا يقرأ، لا يسمع ولا يرى!
ثوار السودان الجديد يقولون إن السلطة والسيادة والموارد ملك للشعب/للمجتمعات وليس للدولة، وإذا كان هنالك أي تنازل، يتنازل الشعب وليس الحكام الذين لا يملكون. لهذا يتمسك ثوار السودان الجديد بالحكم اللامركزي كمبدأ فوق دستوري والمجتمعات في أقاليمها هى صاحبة السلطة والسيادة كاملة، على أن تلعب الحكومة المركزية دور المنسق. تفوض المجتمعات الإقليمية وبكامل إرادتها بعض السلطات وموارد محسوبة وضرورية للحكومة المركزية للعب الدور التنسيقي، كالعملة والمعايير والمقاييس وبعض الأعمال الدبلوماسية. سياسة ولاية وزارة المالية في الخرطوم على موارد الأقاليم لتوزعها على نفس النخب- لإستمرار دورات جديدة من التهميش، هذا بدوره تاريخ! فمن يراهن على الفيدرالية في السودان خاسر لما بها من ثغرات تسمح للنخب بالتسلل عن طريقها للمحافظة على التراتبية الإجتماعية العنصرية، ثورة وثوار السودان الجديد لن يسمحوا بإستمرار هكذا وضع.
يقول طويل العمر الوليد مادبو:
(لقد درست في شيكاغو بالولايات المتحدة وعرفت أن ولاية إلينوي تمنع القمار والدعارة، بينما هناك ولايات مجاورة تبيح كل ذلك “وبالقانون”. البارات لا تفتح يوم الأحد لأنها عطلة مسيحية، وهناك محليات لا تسمح البتة ببيع الخمر. الملاحظ هنا أننا إقتصرنا مفهوم العلمانية على مسائل أخلاقية منها ما يدخل في دائرة المسؤولية الشخصية، لكننا لم نتناول القضايا المجتمعية والإقتصادية التي لم تنل قسطها في التداول – خاصة في المجتمعات الإسلامية من منظور حداثوى. هل هناك دراسات ميدانية لحجم الأضرار التي خلفتها ما يسمّى بالاقتصاد الإسلامي (الذي لم يتعد حدود المعاملات المصرفية) في بلدان مثل السودان منعت الإزدواجية وحكمت على البنوك الغربية بأنها بنوك ربوية؟ إن أخر دراسة إطلعت عليها تفيد بأن حجم المعسرين في البنوك الرأسمالية في السودان كان ١٠٪، علماً بأن حجم المعسرين في البنوك المسمّاة إسلامية يكاد يفوق ٩٠٪. أكيد هناك أسباب هيكلية وبنيوية لكن يبقى السؤال قائماً: هل ساعدت فكرة الإقتصاد الإسلامي في الحد من إنتشار الفقر أم أن المال بقي دولَة بين الأغنياء؟)
من الذي إقتصر العلمانية على المسائل الأخلاقية؟!
وورد في وثيقة المبادئ فوق الدستورية التي أصدرتها سكرتارية البحوث والتدريب التابعة للحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال الآتي:
(إن العلمانية التي يجب أن تتبنَّاها الدولة السودانية تقوم على أساس مبدأ الفصل بين الدين والدولة، وذلك لضمان إخضاع الظواهر الطبيعية أو التاريخية لمعايير التحقُّق، والتأكيد على التحوُّل المستمر للتاريخ، وإعتبار المؤسَّسة الدينية مؤسَّسة خاصة بينما الدولة مؤسَّسة عامة، وتلتزم الحكومة بفصل الدين عن الدولة، بحيث تقف على مسافة واحدة من جميع الأديان، سواءا كانت ديانات تعتنقها أغلبية ساحقة، أم أخرى تعتنقها أقلِّيات بغض النظر عن مصدر الدين، وتُسَن القوانين التي تمنع أي شخص من محاولة فرض دين أو توجُّهات دينية على أي شخص آخر أو جماعة أخرى من المواطنين، مع الإحتفاظ بحق الدعوة والتبشير بالطرق السلمية للجميع بحيث لا يوجب أي إمتياز بحكم الأغلبية ولا ينتقص من هذا الحق وضعية الأقلية ، وذلك منعاً للتمييز بكافة أشكالِه)
وهذا موقف الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال.
يقول طويل العمر الأمير الوليد آدم مادبو:
(قناعتي أن العلمانية المؤسسية (عدم تدخل الطائفة في شؤون الحزب مثلاً) وليس الوجودية (طالما أن هناك أتباعاً ومريدين فلن تمنعهم من هتاف “الله أكبر ولله الحمد” في الحملة الإنتخابية) ستجعل الدين عقلانياً والسياسة أخلاقية لكنني أدرك أيضاً بأن ذلك يحتاج مستوى من الوعي لا يتحقق إلا بتحقق درجة من الازدهار الحضاري والمادي. بمعنى آخر لا يمكن لمجتمع متخلف أن يعمل على فكرة الأنسنة (تجاوز إنتمائه الأولي إلى مستوى الإنتماء الإنسانى)، إنه إجراء يستغرق قروناً من المقرطة السياسية والإقتصادية والإجتماعية. ثم أن التحضر لا يعني بالضرورة التخلص من الدين ولكنه يعني بالضرورة التحرر من التزمت وما شهدناه مؤخراً من محاولة أحدهم حرق المصحف تبقى حالةً نشازاً يمكن مقاومتها بالقانون الذي قد يمثل تحدياً للدستور العلماني في أوروبا المحتضرة روحياً وليس دينياً، اوروبا تحتاج إلى روحانية وليس أرثوذكسية دينية، فقد تجاوزت هذه المحطات الأولية).
معالي الأمير الوليد آدم مادبو، لا يقرأ، لا يسمع ، ولم يرى! ولكنه يخطب في الناس أنسنة!
كتب الباحث المدقق د. عمر مصطفى شوركيان عن جذور الحرب في جبال النوبة، في سودانايل ٨ يناير ٢٠٠٩، مقدمة في المسالة الدينية :
(كان عهد ما قبل العام ١٩٦٢ أكثر العهود نمواً في العقيدة المسيحية بالسُّودان، ولا سيَّما بجبال النُّوبة. وتميَّز التعايش الديني في جبال النُّوبة بالتسامح والمحبة. ولتجدنَّ السكان في تلاحم شعبي في (أسبار الحصاد وطرد الأرواح الشريرة) لغير معتنقي المسيحية أو الإسلام، وكذلك في المناسبات الإسلاميَّة (أعياد الفطر المبارك والأضحى)، والمسيحية (أعياد ميلاد المسيح والقيامة والمعمودية). وفي هذه الإحتفالات يمتزج كل أفراد المجتمع ببعضهم بعضاً بغض النظر عن عمره، أو جنسه، أو عقيدته، وينهمك الكل في الرقصات المحلية والمصارعة وفي شتى سبل المعيشة دون أن يكون الدِّين عائقاً في ذلك، بل وحتى التزاوج لا يراعى فيه مسألة العقيدة بكثير من الأهمية كما هو الحال في مناطق أخرى من السُّودان. وفي كثير من الأحيان يُتوَّج هذا التسامح الديني بإعتناق الكثير من أفراد العائلة الواحدة لمعتقدات مختلفة في أنٍ واحد. فإن كانت منطقة جبال النُّوبة لا تصلح لتمثيل السُّودان كنموذج للتَّسامح الديني، فأى مكان بالسُّودان يمكن أن يصلح لذلك؟ )
والمناطق التي يتحدث عنها الدكتور شوركيان تقع ضمن المناطق المحررة، ولكن معالي الأمير الوليد آدم مادبو، لا يقرأ، لا يسمع ولم يرى! ولكنه … يقرر!
وفي وثيقة المبادئ فوق الدستورية فصل مهندسوها مولانا متوكل عثمان سلامات ومولانا إدريس النور شالو في تجارب عدد من الدول التي مرت بمثل ما يمر به السودان مع العنصرية والإضطهاد والصراعات والحروب الأهلية – هذه الدول تبنت العلمانية كمبدأ فوق دستوري ، أشرنا لهذه الدول في المقال السابق. و نشرت الحركة الشعبية ومنسوبيها عدة وثائق بها قراءات لواقع نماذج من الدول العلمانية وقاربتها مع وضعنا. ونشر الأستاذ عادل شالوكا كتابا قيما بعنوان أزمة الإسلام السياسي وضرورة بناء الدولة العلمانية، وهنالك ثلاثة كتب أخرى عن العلمانية ضمن (سلسلة كتيبات) أصدرتها سكرتارية البحوث والتخطيط في الحركة الشعبية لتحرير السودان تحتوي على مقالات وآراء الكتاب السودانيين حول العلمانية. وأنجزت الحركة الشعبية عشرات الورش واللقاءات الجماعية وكذلك مئات الندوات بما فيها الندوات الإسفيرية بالإضافة إلى عدة إصدارات حول قضايا الهوية لدكتور/ محمد جلال هاشم – وأبكر آدم إسماعيل. … وكل هذا متاح… إلا أن الأمير الدكتور لم يرى، لم يقرا ولا يسمع، ولكنه يقرر!
يكتب الدكتور الوليد آدم مادبو:
(ختاماً، إن جهل (قحت) بخارطة دارفور وعدم إلمامها بتضاريس السودان التاريخية والإجتماعية جعلها تولي إهتماما غير عاديا لقادة الحركات، كلما تأخر موعد تنفيذ الإتفاق الإطاري كلما تأزم الوضع السياسي والإقتصادي وفقد الجمهور ثقته في إمكانية التغيير السلمي والديمقراطي. لن تستطيع هذه الحركات ومن عاداها يوماً تجاوز ظروف النشأة والتكوين التي جبلت فيها على الغنيمة (منهم من يملك منجماً للذهب، منهم من يملك مصرفاً، منهم من هو فاغرٌ فاه للتصرف في مال الشعب دون حسيب أو رقيب، منهم …..)، قد يأخذها وقت لغرس قيم الإيثار والوطنية فتمثيل الأقاليم ليس حكراً على أشخاص هم سبب دمار الهامش وأس البلاء فيه)!
إن تجريم الضحايا وضع نفسي معقد يا دكتور، وهنالك أدب غزير أنتج من تجارب حروب التصفيات العرقية للأرمن من قبل الأتراك ١٩١٥ – ١٩١٦، واليهود من قبل الألمان ١٩٤١- ١٩٤٥، والتوتسي من قبل الهوتو في رواندا ١٩٩٤. وبالطبع في السودان وثق العالم لجرائم الدولة المركزية وما تمثل-، ووثق العالم بالتفاصيل الدقيقة لجرائم الجنجويد وما يمثلون على السكان الأصليين في السودان – ولا تزال هذه الجرائم مستمرة. فتجريم الضحايا وضع مريح للكثيرين ولأسباب متباينة. وفي السودان لا تزال النخب تعيش في حالة من النكران وعدم التصديق أنه تمت إبادة جماعية في وطنهم تحت سمعهم وبصرهم، وأرتكبت جرائم ضد الإنسانية وجرائم حروب تحت سمعهم وبصرهم ولا يزال صدى ذلك ماثلا ناهيك عن تداعياته! والنخب، عبر القوى السياسية صم بكم ولم يروا شيئا وقد نأتي لهذا معك او مع غيرك!
للهامش قضية عادلة، والناس في الهامش شرفاء قدموا أرواحهم وأرواح ومستقبل أبناءهم لأجل وطنهم ومجتمعاتهم، وركوب موجة شيطنة ثورة وثوار الهامش وقضاياهم العادلة بناء على مواقف بعض الفاسدين والفاشلين لن يغير من حقيقة من الذي همش وأباد ولماذا. وأيا كان فساد وإختلال البوصلة عند بعض سياسيي الهامش فهو لن يضاهي بفساد وفشل وجرم النخب التي تولت مقاليد السلطة والثروة منذ الإستقلال وإلى يومنا هذا. فقديمة وفقيرة يا دكتور حجة (انكم جلبتم الإبادة على أنفسكم) !
ختاما، على الدكتور الوليد آدم مادبو أن لا يمارس الفهلوة ويخلط بين الحركة الشعبية وغيرها في المواقف والرؤى. وعليه عندما يتحدث عن ثورة وثوار السودان الجديد، عن رؤاهم ومواقفهم و ما حققوا أن يبتعد عن التبخيس والسخرية أو (المافي شنو) أو هكذا يقال!
بوسطن ١٢ فبراير ٢٠٢٣
لا فض الله فوهك و لا جف يراعاك لقد كفيت و وفيت يا رفيق